منذ ان بدات الاحداث بالتحول باتجاه تصعيد مسار العنف في سوريا و العراق وبالطريقة التي جعلت من الفوضى عنصرا مستداما في تشكيل صورة التفاعلات اليومية للحياة في هذين البلدين، و دبلوماسية القوى الرافضة لمشاريع تشظي الجغرافيا في هاتين الدولتين مستمرة دون انقطاع باتجاه اقناع القوى المضادة بفكرة تعديل مسار العلاقات و التوجهات من ملف هاتين الدولتين.&
&حيث كانت المصالح بكل مسمياتها هي التي تقف وراء هذه المواقف لتحييد جيوبولتيك الانهيار الكلي التي رُسمت فصولها باحكام من قبل الشركات الكبرى الحالمة باعادة الهيمنة على اهم دولتين عربيتين في مكانتهما الجغرافية و النفطية و كذلك في مجال مكانتها الاعتبارية من خلال المساهمة في تشكيل ايدولوجيا المقاومة لمشاريع الهيمنة المختلفة.&
فبعد النجاح الذي حققته طهران في الملف النووي و فتح قنوات حوار مباشرة مع الغرب، بدات الخطوات الدبلوماسية تاخذ لها مكانة اقوى من قبل في وقع التفاعلات السياسية بين الفرقاء الرئيسيين في الاقليم. حيث قامت روسيا بتبني مشروع مشابه لذلك الذي رعته بين طهران و القوى الكبرى، ولكن هذه المرة في اطار المنظومة الاقليمية لتعطي فرصة للقاء المباشر و المكاشفة الحقيقية بين دمشق و الرياض. وهي اللقاءات التي استمرت لتصل الى مستوى متقدم اليوم عندما أعلنت روسيا بان هنالك زيارة ثانية من قبل مدير مكتب الامن القومي السوري للرياض بتاريخ 7 اغسطس – اب الماضي. وهو ما شكل نقلة نوعية في محاولة اعادة تنقية الاجواء الملبدة بغيوم الخلافات بين الطرفين.&
اغلب هذه اللقاءات كانت تحمل طابعا امنيا لتبادل المعلومات و الملفات الحرجة التي تؤثر في كلا الطرفين، خاصة بعد ان اكتسبت سوريا خبرة كبيرة في مجال التعاطي مع الشؤون الارهابية ومع المنظمات الاكثر شراسة في المنطقة. وهو امر قد تزامن مع حصول تمدد مخيف لتنظيم داعش الذي اعلن صراحة عن الخريطة الجغرافية التي يحلم بمد نفوذ امارته الاسلامية اليها. والتي تتضمن ايضا السعودية بحكم قيمتها الرمزية و مكانتها البترولية.&
التزامن بين هذين العنصرين من تطورات مشهد الارهاب و مكافحته في المنطقة جاء هو الاخر متناسقا مع بداية التغير البطيء في الموقف الدولي من داعش. وهو ما يمثل احد اهم مخرجات الاتفاق النووي مع ايران التي عرفت جيدا كيف تسحب البساط من تحت اقدام الجماعات المتطرفة التي باتت تعيش بداية ازمة وجودية خانقة. لذا فان جماعات التطرف هذه لم تدخر جهدا لابداء ردود فعلها التي انقلبت فيها على اغلب القوى التي شكلت عناصر دعم مباشر لها طوال سنوات عملها الدامي. لذا بدات بتوجيه خطابات التصعيد ضد السعودية، وكذلك بدات عمليات استهدافها امنيا في حالة تعبير عن امكانية حدوث اختراقات مهمة تضع مستقبل المنظومة السعودية بمجملها على المحك. لذلك قيل في بعض التسريبات الخاصة باللقاءات التي جرت بين الرياض و دمشق، بان الاخيرة قدمت معلومات مؤكدة الى الجانب السعودي اسهمت بشكل كبير في تجنيبه حوادث ارهابية مهمة كان يمكن لها ان تريق دماء المئات من الابرياء.&
الحوارات الامنية في اغلب الدوائر النافذة في المنطقة تشكل البوابة الحقيقية لاعادة الانفتاح بين دولها، فهي المساحة التي يمكن من خلالها توفير التطمينات المتبادلة بانسحاب مبدا التآمر و هي كذلك الطريق الاقصر لاعادة الحد الادنى من التوازن في العلاقة من منطلق المصالح المتبادلة. وهي من منظور جيوبولتيكا السلام التي كتب فيها المفكر الامريكي سبايكمان، تعد الطريقة المُثلى لاعادة انتاج المستقبل في هذا النطاق الملتهب.&
في هذا السياق بينت بعض التسريبات بان هنالك اشارات على امكانية حصول تغير في مواقف بعض الشخصيات المهمة في الرياض باتجاه التاكيد على ان اولويتهم الان ليس اسقاط الحكومة السورية بل موازنة الدور الايراني في المنطقة!. فعلى الرغم من تصريحات وزير الخارجية السعودي الاخيرة في موسكو حول عدم تغير موقف بلاده من سوريا في محاولة لابعاد فرضية حصول تبدل في داخل منظومة الحكم السعودية من التحفظات التي وضعت على الملف السوري سابقا، فان مناقشة جدية هذه التسريبات تتيح للمرء بان يتفق مع الشق الاول منها لكنه لابد ان يتامل بطريقة نقدية ملؤها الشك بالجزء الثاني، لان الرياض تدرك جيدا بانها بعد الاتفاق النووي فقدت الكثير من اوراق اللعب التي استخدمتها عبر الجماعات المتطرفة لتحقيق فكرة التوازن هذه. ربما الاصح انهم قالوا سرا بان الاولوية الان هي لتامين الاوضاع الداخلية في السعودية بعد الانكشاف الامني الواسع الذي حصل على اثر التورط في حرب اليمن التي باتت مصدر استنزاف كبير لها. وهو ما يجد مصداقا له في مناشدة الطرف السعودي لموسكو بالعمل على مقايضة السلام في سوريا بالسلام في اليمن، خاصة في ظل التوصية الروسية المُشددة على عدم انغماس الرياض بشكل اكبر في هذه الحرب.
الرياض من جانبها اكدت في هذه المباحثات بحسب المتتبعين على انها لا تملك القدرة الان على التاثير في مسار القوى المتطرفة في شمال سوريا، التي تحولت الى ساحة لعب منفردة للاتراك حيث يمارسون منذ سنوات تاثيرا مهما على الجماعات التي كانت تعمل هناك. وهم يشيرون الى ان نفوذهم ينحصر في نطاقات اخرى تتمركز جغرافيا في ريف دمشق. وهي اشارة مهمة لمتابعة التطورات القادمة على الارض السورية لمعرفة حجم المصداقية في الحوارات الامنية بين الطرفين. على اعتبار ان الانتصارات التي يمكن للجيش السوري ان يحققها لفرض سيطرته الكاملة على هذه المنطقة، يمكن اعتبارها مقياسا على واقعية و جدية هذا التحول الآخذ بالنمو لتغيير مشهد العنف في سوريا. ربما يكون في هذا السياق الحديث عن هدنة في الزبداني لمدة 48 ساعة بين الجيش النظامي السوري و قوى المعارضة، مؤشرا مهما لدعم هذه الفرضية.&
إن كل هذه التطورات تترك تركيا في عزلة كبيرة في ظل استمرارها في جعل اسقاط الحكم في سوريا اولوية وحيدة لها، وفي ظل رغبتها في تطبيق مشاريع القضاء على الدور الكردي في شمال سوريا عبر اذرع التطرف الاسلامي الواسعة الانتشار هناك و كذلك عبر التمسك بموضوع التحكم بالجغرافيا السورية عبر فرض فكرة المنطقة العازلة في القسم الشمالي منها. وهي آلية و عقيدة جيوبولتيكية تسعى من خلالها الى تحويل هذا الجزء من سوريا الى مجال حيوي يتم فيه تصفية ازماتها الداخلية بعيدا عن فكرة التهديد المباشر لامنها القومي. وهي عقيدة ستسهم لاحقا في حال الاستمرار في تطبيقها على الارض، الى الحاق مزيد من الوهن في نموذج تركيا الجديدة الذي بات يعاني كثيرا من الضعف و الانهيار. خاصة بعد إن اصبح مُهددا بانتكاسة جديدة بفعل التردد الامريكي في دعم الجيوبولتيك التركي في سوريا، ليصبح هذا الموقف عاملا مُضافا في دعم مسيرة العزلة التركية.&
لو تحققت الامنيات الروسية – الايرانية بشكل فعلي في اعادة هندسة العلاقات السورية – السعودية عبر تقديم التنازلات المتبادلة التي قد تفضي لمقاربات مقنعة بين هذه الاطراف والتي قد تصل الى حد المساس المباشر بالقضايا الخلافية الكبرى، فان تركيا ستكون في مقدمة الخاسرين من هذه الخطوة. وذلك رغم انها بالنهاية خطوة لن تقود بشكل فعلي الى انهيار التحالف بين انقرة و الرياض بقدر ما ستعمل على اعادة تشكيل مُناخ المصالح و مساحة الدور في علاقاتهما المستقبلية.&
وهو ما يثير تساؤلات مهمة حول الخطوات التركية القادمة التي يتوقع بانها ستعمل على تعطيل هذا المشهد المستقبلي في حال توصلت اطرافه الى رؤى مشتركة حيال القضايا التي لازالت بعد تشكل عقدة في مسار الحل السوري، حيث تمارس روسيا جهودها الدبلوماسية من اجل اقناع الاخرين بضرورة ترحيل هذه القضايا الى ما بعد تحرير سوريا من داعش. فهل ستسمح تركيا حزب العدالة و التنمية بحصول كل هذه التطورات بعيدا عن تحريك بيادقها لتخريب هذه الاماني البسيطة التي بدأت تلوح في الافق. سؤال تتكشف الكثير من ملامح الاجابة عليه في تسريع اقرار المنطقة العازلة و كذلك في تداول الليرة التركية في بعض اجزاء شمال سوريا الواقعة تحت احتلال داعش.&
&
أكاديمي عراقي&
التعليقات