رغم الصدمة الناتجة عن حادثة تدافع الحجيج في "منى" وانشغال الرأي العام الاسلامي ومواقع التواصل بمتابعتها، فإن ثمة حادث آخر وقع وحظي باهتمام واسع النطاق عبر وسائل الاعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، وهو مقتل متدرب عسكري سعودي على يد ابناء عمومته اللذين خرج معهما في رحلة صيد برية فقتلاه استجابة لدعوة أبو بكر البغدادي و"تقربا إلى الله" بحسب ماقال أحدهما! حيث قام القاتلان بتصوير جريمتهما وبثها عبر مواقع الانترنت ثم ارتكبا جرائم قتل أخرى ضد منتسين عسكريين في اليوم ذاته فيما يبدو أنه "سعار" قد أصابهما.
يقول أحد الجناة في مقطع الفيديو الذي تم بثه تعليقا على قتله لابن عمه، أن "البغدادي أمر بتشريد جنود الطاغوت حُماة الصليبيين، وبقتالهم وإرعابهم، وها نحن استجبنا له ليكون هذا عبرة لكم». وكان تنظيم داعش قد وجه دعوة إلى أتباعه في المملكة العربية السعودية لقتل رجال الأمن، وقد وجد القاتلان في ابن عمهما فرصة لاثبات الطاعة للبغدادي فطالبا القتيل بالتبرؤ من عمله ومبايعة أمير داعش فلما رفض قتلاه!!.
الجريمة بأبعادها وتفاصيلها انتشرت على مواقع الانترنت، ولكني ماشدني للكتابة عنها بعض الاشارات التي اعتقد انها لا ينبغي أن تمر مرور الكرام، شأنها شأن غيرها من تفاصيل الجرائم ذات الصلة بالتشدد والتطرف والارهاب، والتي لم نفلح حتى الان في تفكيك رموزها وشفراتها تمهيداً لوضع بدائل وحلول واستراتيجيات جادة للتعامل معها.
جريمة القتل ليست عادية، فالقاتلان شقيقان نفذا جريمتهما في ابن عمهما اليتيم، الذي تربى معهما في المنزل ذاته، وأحدهما شاب صغير يبلغ نحو ثمانية عشر عاماً فقط، ولم تظهر عليه علامات التشدد من قبل، بل كان عاطلاً عن العمل، يخشى عليه والداه من ادمان الجلوس على الحاسب الآلي ومتابعة مواقع الانترنت، حيث كان والده يعتقد أنه يتابع مواقع اباحية ويخشى عليه منها!!. ومن ثم لا ينبغي التعامل مع الجريمة باعتبارها حالة فردية معزولة، بل إنها تمثل حالة تستحق الدراسة و تدق أجراس الخطر بعنف لما يمكن أن يحدث مستقبلا، فتفاصيل حياة الشاب القاتل تكاد تتكرر في بيوت ومناطق كثيرة سواء في المملكة العربية السعودية الشقيقة أو غيرها من الدول العربية والاسلامية.
التجنيد عبر الانترنت بات واقعاً يستحق الانتباه والعمل الجاد، والمسألة تجاوزت فكرة تشكيل القناعات وتغيير الاتجاهات الفكرية بل طالت حد الاقناع المطلق بالقيام بالقتل وتنفيذ الأوامر من دون تعامل مباشر مع عناصر "داعش"، بمعنى أن التنظيم قد نجح في تحويل الانترنت إلى ساحات تدريب افتراضية على القتل والذبح وسفك الدماء من دون قيام علاقة تنظيمية مادية بين قادة التنظيم والعناصر التي يستقطبونها عبر الانترنت.
الأمر يستدعي البحث في مثل هذه الحالات، والانتباه إلى معطيات البيئة المجتمعية التي تحول شباب صغير السن إلى قاتل محترف ينفذ جريمته بحق أقرب الناس إليه من دون أن يقرأ المحيطين به بوادر التحولات التي تطرأ تدريجياً على سلوكه وأفكاره وقناعاته الذاتية.
أحد الأمور التي جذبت انتباهي في هذا الحادث هو تصريحات والد القاتل الشاب إلى بعض الصحف السعودية، والتي قال فيها أن ابنه لم يكن يغادر غرفته وأنه كان يشك في أنه يشاهد مواقع اباحية على الانترنت، وانه كان يخشى عليه من هذه المواقع وقام بمناصحته، ووصف ابنه القاتل بأنه لم يسافر وغير اجتماعي ولم يغادر قريته الصغيرة النائية، ولم يلحظ عليه أي سلوك مريب سوى جلوسة الطويل امام جهاز الكمبيوتر، وعدم رغبته في العمل.
بالتأكيد فإن ضعف ثقافة الأسرة قد أسهمت في عدم الاكتشاف المبكر للتطرف الذي سكن عقل الشاب الصغير تدريجياً، فلم يلتفت والده كثيراً لرفضه العمل والزواج، وترديده أفكاراً ترفض جمع المال وتقترن بالموت وهو لا يزال في سن صغيرة يفترض أنه يبحث فيها عن أسباب الحياة !!.
أكثر مايخشاه الآباء في مجتمعاتنا هو وقوع أبنائهم فريسة للمواقع الاباحية في سن صغيرة، وهو خوف مشروع& ولا غبار عليه، ولكن الغائب الأخطر في المتابعة الأسرية التربوية هو الفكر المتطرف واحتمالات تغلغه إلى عقول الشباب وسيطرته عليهم في ظل غياب الحوار الأسري الكاشف لأي تحولات او تغييرات فكرية تطرأ على الشباب من ذوي الأعمار الصغيرة.
&لا يدرك الكثيرون، لاسيما في المناطق الجغرافية النائية في الدول العربية والاسلامية، خطر المواقع المتطرفة، الذي لا يقل تأثيراً عن خطر مواقع التي يخشونها، فالتطرف هو مقدمة للقتل وسبيلاً له، وليس مجرد عبارات تتردد على الألسنة بل سرعان مايترجم إلى سلوكيات وممارسات قد تشمل قتل أناس قريبون بمجرد سيطرة فكرة مبتسرة ومحددة يتم غرسها داخل عقل الشاب واقناعه بها بحيث يغلق عليها عقله ولا يشارك الآخرين فيها ولا يعرضها على من هم أكبر وأكثر خبرة منه بالحياة وشؤونها.
إن التوعية بخطر المواقع الالكترونية في تجنيد الشباب والمراهقين مسألة بالغة الأهمية، ويقع عبئها على كاهل مؤسسات التربية في المجتمعات العربية والاسلامية، وفي مقدمتها الأسرة والمدرسة والمسجد، الذي لم يقم بدوره بالشكل المنشود حتى الآن ولا يزال يدور في فلك التقليدية ولا يستطيع اختراق عقول الشباب والأجيال الجديدة الشابة؛ فتأثير وسائل التواصل الاجتماعي في التجنيد والتدريب للتنظيمات المتطرفة مسألة مؤكدة منذ سنوات طويلة مضت، ولكن امتداد هذا التأثير إلى تحول هذه الوسائل إلى مخيمات تدريب افتراضية تجمع عناصر التطرف حيث يتلقون الأوامر استعداداً لتنفيذها فذلك هو التحد الأخطر للأجهزة المعنية والمجتمعات العربية والاسلامية على حد سواء.
أن الأمر بحاجة إلى خطوات وإجراءات عدة منها دراسات مسحية دقيقة تساعد المجتمعات في الاكتشاف الوقائي المبكر لعلامات التطرف، تماماً مثل ما يحدث في الاكتشاف المبكر للادمان، فللتطرف علامات وشواهد في الخطاب والسلوك الفردي، ومن ثم يبدو الأمر بحاجة إلى توعية الأسر وأولياء الأمور إلى الانتباه لهذه الشواهد والعلامات، التي يمكن أن يمثل التعرف إليها جرس انذار ينقذ الكثيرين من القتل والتورط في جرائم ارهابية ربما لم يكونوا يفكرون بها أو يقدمون عليها لو مدت إليهم أيادى الانقاذ في أوقات مناسبة.
&