&
ولنكمل عزيزي القارئ حوار الأسبوع الماضي بالحديث عن النظرة اليابانية لموضوع الدين. فلو سألت مواطن ياباني معاصر هل أنت متدين؟ أو هل تتبع دين معين؟ فيستغرب من سؤالك، بل يعتبره موضوع شخصي، ليس للمناقشة العلنية، بل يعتبره سؤال "غبي متخلف". ففي وجهة نظر المواطن الياباني المعاصر بأن التعصب الطائفي نحو الدين، هو سبب مآسي التاريخ البشري، كما أن موضوع الدين موضوع مجتمعي ثقافي، يرثه الشخص في مجتمعه، ولكن لا يتعصب له، ولا يفضله على المعتقدات الأخرى، بل يحترم مختلف المعتقدات والأديان الأخرى، كما يعتبر "الشنتو" جزءا من واقع وتاريخ ثقافته البشرية. ولا يعتبر اليابانيون بأن ثقافتهم أو دينهم افضل، أو أنهم شعب مختار، وأفضل من الشعوب الأخرى، بل كما قالها رئيس وزراء اليابان: "نحن قوم عقولنا متواضعه، ولكن تقدمنا نتيجة معادلة، تجمع بين العلم والعمل والأخلاق،" والذي يربط بين العلم والدين والاخلاق هي روحانية اليابان "الشنتو". فيعتقد اليابانيون بأن الروحانيات الدينية تلعب دورا في خلق التناغم والتوازن الروحي بين المادة، والإنسان، والأخلاقيات السامية. وبالرغم من أن الياباني لا يصرح بأنه متدين، ومع ذلك هناك حوالي ثمانين ألف ضريح للشنتو، وثمانين ألف معبد للبوذية، وعشرات من الكنائس المسيحية، وعدة من المعابد اليهودية والمساجد. ومن المعروف بأن الشعب الياباني يزور هذه المعابد بانتظام للسياحة وللتبرك والدعاء أحيانا، فمثلا يزور ضريح إلهة الشمس يوم السنة الجديدة حوالي ثلاثة مليون شخص. كما يتعامل الياباني مع واقعه الروحاني بشكل تناغمي جميل، فيزور ضريح الشنتو للإحتفال بولادة طفله الرضيع، ويحتفل بجزء من زواجه في كنيسة الفندق، بينما يجري تعازي الوفاة في المعابد البوذية.&
&
ولقد قامت وزارة الخارجية اليابانية في شهر فبراير الماضي بترتيب ندوة للدبلوماسيين في عاصمة طوكيو عن "ثقافة الشنتو" في اليابان. وقد تحدث في هذه الندوة مجموعة من المتخصصين في هذا المجال، ومركز عملهم في ضريح إيسه، وهو ضريح إلهة الشمس، وهي في مدينة الروحانيات باليابان. فالديانة الأصلية لليابان هي "الشنتو"، وهم لا يعتبرونها كدين، بل تعتبر روح اليابان وطريق للحياة، والتي هي جزء أساسي من الثقافة اليابانية، وفلوكلورها الشعبي، ومهرجاناتها الوطنية. وهنا من المهم فهم كلمة تستخدم في اليابان، وهي "الكامي" باللغة اليابانية، والتي تعني كائن طبيعي أو كائن ما فوق الطبيعية، وهو مقدس عن البشر، وإلاهي، والتي يترجمها البعض بالآلهة. ولكن في الحقيقة مفهوم "الكامي" ليس تعبير يعرف إله الكون، ولكنه تعبير يمثل نوع من "الملائكة"، في مفهوم الأديان الإبراهيمية، والتي هي تحوم حول الجبال والأنهار والغابات وتستقر في المعابد. وحينما ناقشت هذا الموضوع مع كبار متخصصي الشنتو، ذكروا لي بأنهم يعتقدون بان هناك إله لهذا الكون، وبأنهم يخشون من حسابه بعد الممات، ولكن هذه المفاهيم قلة ما يهتم بها عامة الشعب الياباني، فهم مشغولون بالواقع العملي لتحديات حياتهم اليومية &الصعبة.&
&
وتتميز الشنتو بتعدد الآلهة (كامي)، وليس لها مؤسس، ولا كتاب، ولا عقيدة، ويعتبرونها اليابانيون كجزء من العادات والتقاليد المجتمعية اليابانية. وتعتبر الشنتو بأن هناك "قوى مقدسة خفية" في جميع الكائنات ومظاهر الطبيعة، من الجبال والأنهار والغابات، حتى الزلازل والطوفانات، بل وحتى البشر يمكن أن يكونوا "كامي". فمثلا إمبراطور التنوير، الإمبراطور ميجي، الذي لعب دورا قياديا في منتصف القرن التاسع عشر، لتحويل اليابان لدولة عصرية متقدمة، أعتبر بعد مماته، "كامي" وبني له ضريحا. &كما أن قائد التعليم في اليابان في القرن التاسع، سوجاوارا ميشزان، يعتبر "كامي" العلماء، وقد بني له ضريحا، يزوره الطلبة قبل الإمتحانات، للتبرك والدعاء للنجاح في الإمتحانات النهائية. بل وحتى الإنسان العادي يمكن أن يكون "كامي" فرب العائلة، ورب العمل، مثلا يمكن أن يكونا كامي، كما تعتبر الأسلاف "كامي" يحمون الاجيال القادمة. كما تؤكد الشنتو على أهمية فضائل الطهاراة والفضيلة والصدق، وباحترامها الكبير للطبيعة، وبالقبول بمباركة الطبيعة من خلال ما تقدمه للإنسان، فبالقبول بمباركة الطبيعة، والقبول بغضبها، يمكن أن نحافظ على تناغم التواصل بيننا، ومع العالم الذي يحيط بنا.
&
وقد شرح مسئول ضريح إلهة الشمس مفهو "الشنتو" فقال: "لقد شكلت الشنتو ماضي اليابان كجزء من الميراث الثقافي، ويرجع ذلك لما قبل القرن الثامن قبل الميلاد، كما ستستمر "الشنتو" في تشكيل المستقبل، من خلال تأثيرها العميق على التفكير الياباني. بل أيضا تركز الشنتو على الواقع الياباني الحالي، بل اليومي، من خلال طهارة السلوك، وتناغم التعامل، وسمو التفكير، واحترام الكامي، والتبرك برضاهم، فليس هناك إلا الحاضر. ومنذ قديم الزمان، عبر اليابانيون عن الطاقة الإلاهية، أو القوى الحياتية لطبيعة الوجود والعالم، في كلمة "كامي". وترجع كلمة "كامي" للطبيعه، ككامي المطر، وكامي الرياح، وكامي البحر، وكامي الصواعق، وكامي الجبال، والتي لها علاقة عميقة بواقع حياتنا ووجودنا، كما لها تأثير عميق على نشاطاتنا الحياتية. فحدة الظواهر الطبيعية لا تعطي اعتبارا لراحة البشر، فمثلا الشمس التي تعطي الحياة لكل ما هو موجود في الطبيعة، قد تزيد حرارتها لتؤدي للجفاف والمجاعة، والمحيطات التي بدأت فيها الحياة، قد تغضب فجأة، لتدفع بموجات عنيفة وعالية إلى الشواطئ، لتسبب دمار ومعناة ومآسي كبيرة، والرياح التي تنقل بذور الورود، وتخلق جمال الربيع، قد تتحول لطوفانات مدمرة وقاتلة، بل وحتى أصغر المحلوقات، قد تأكل المحاصيل وتنقل الأمراض الفتاكه. ولذلك يعتمد اليابانيون على "الكامي" لتهدئة قوى الطبيعة هذه، وذلك من خلال احتفالات ومهرجانات تسمى "ماتسوري"، يحاول اليابنيون إرضاء "الكامي" والحصول على بركاتهم ورضاهم. وبذلك تواصل "الشنتو" الإنسان بين الطبيعة والآلهة، كما لا تركز على أله واحد، خالق للكون، بل كل من هذه "الكامي" لها دور في تنظيم طبيعة هذا العالم الذي نعيشه، وحينما تواجه "الكامي" أية معضلة تجتمع، لكي تناقش تحديات هذه المعضلة لتجد حلول عملية للتعامل معها. وهذا هو الإساس لتركيز المجتمع الياباني على التناغم والتعاون، في الاستفادة من جميع أفراد المجتمع، وبتناغم جميل، للتعامل مع التحديات الحية والطبيعية، وايجاد السبل المناسبة لتطويعها لخدمة الإنسان."&
&
ومنذ القدم يجتمع اليابنيون في مهرجانات أحتفالية "الماتسوري" في المواقع المقدسة، أي حول شجرة قديمة كبيرة، أو على سفح جبل كبير، أو في غابة مليئة بالاشجار، أو في أضرحة، للتواصل مع الكامي. وهذه هي أصل إحتفالات الماتسوري، والتي ترتبط عادة بمناسبات سنوية طبيعية، فمثلا في الربيع للاحتفال بالشكر الحصاد الزراعي، وفي الخريف للشكر لما توفر من غذاء من المحاصيل الزراعية. فاحتفالات &"المتسوري" هي رمز للتقاليد، والعادات اليابانية، وهي طقوس مقدسة، والتي تبرز من خلال ظاهرتين: الاولى كخدمة دينية، تتم كإحتفاليه دينية، يحضرها الناس، ويقودها رجل الدين، أمام ضريح الكامي، &والثانية هي نوع من الترفيه للكامي، وعلى شكل مهاجانات أحتفاليه ملونة وجميله، يحضرها ويشاهدها الآلاف من الناس. كما تشمل هذه الاحتفاليات بعض العروض المسرحية الفكاهية كالنو، والعروض المسرحية الدرامية، كالكابوكي، بل تضم أيضا معرض ترتيب الزهور، إكيبانا، واحتفالات موسيقية وخاصة الطبول الكبيرة. وجميع هذه الاحتفاليات هي وسائل لتقوية الرباط المجتمعي، مع تقوية العلاقة مع الكامي.
&
ويعتبر اليابانيون الجبال والغابات والعلامات الطيعية الاخرى هي المواقع التي تعيش فيها الكامي، وفي قديم الازمان كانت هذه المواقع اماكن مقدسة، ولكن مع التطورات المعاصرة بنيت لها اضرحة خاصة، وعادة في وسط الغابات، وعلى قمم الجبال، وسميت بال "جنجا". فهناك حوالي 80 ألف جنجا، ضريح للكامي. وتشمل الاحتفاليات المقدسة الصلاة للسلام والأمن والازدهار، للوطن والمجتمع، والتي تتم خلال طوال السنة. كما يزور اليابانين هذه الاضرحة كنوع من السياحة، مع الدعاء بطلب الأمن والسلام ولازدهر للشعب الياباني، وشعوب العالم أجمع. كما أنه من الجدير بالذكر بأن الدعاء الياباني له آدابه، فمثلا يجب ألا يكون شخصيا وأنانيا، بل يجب &ان يكون طلب مرتبط بالعائلة، أو إزدهار الشعب، وسلامة وأمن الوطن. ومع ذلك هناك اضرحة خاصة لادعية محددة مثلا طلب الرزق بالاطفال، وطلب النجاح في الامتحانات. كما تعتبر هذه الاضرحة الخشبية الجميلة مواقع للاسترخاء والاستمتاع، وعادة تكون في وسط غابة خلابة بديعة.&
&
ومع أنه كما ذكرنا ليس هناك عقيدة معينة ولا كتاب معين لشنتو، ولكن من الجدير بالذكر بأن هناك كتبان يرجع تاريخهما للقرن الثامن قبل الميلاد، الأول بإسم، الكوجوكي، والثاني بأسم، النهونشوكس، ويحتوي هذان الكتابان أساطير عن كيفية بدأ العالم واليابان. حيث تذكر هذه الكتب بأنه أرسل الخالق، جلت عظمته، ملاكان وهما، "أزنامي" الرجل، والثانية "أزناجي" وحينما جلسا على الجسر السماوي، أنزل "أزنامي" رمحه المرصع بالمجوهرات الثمينة، في بحر اليابان، ورفعه لتنزل قطرات منه، ولتتشكل من هذه القطرت جزر اليابان، وفي نفس الوقت ولدت زوجته "ازناجي" كامي آخرين، وفي الوقت الذي انفصلت السموات عن الارض، وقد كان بين احفادهم ثلاثة من الكامي، الأولى وتسمى، اماتيراسو اومي كامي، والتي تعني اسمها، الكامي العظيمة التي تنير الجنان، والمعروفة بإلاهه الشمس، والثاني، توسوكي يومكي نو كامي، والمتعلقة بالقمر والليل، والثالث سوزانو اونو كامي والمتعلقة بالبحر. وقد كان كامي البحر فوضويا وكسولا، ولم يؤدي واجباته نحو البحر، بالرغم من إنذاره عدة مرات، ولم تستطع ألهة الشمس، اماتيراسو، تحمل متاعبه، فاختفت لاجئة إلى كهف كوني، مما أدى لظلام دامس في الكون وفوضى عارمة. وقد إجتمعت الكامي لمناقشة هذه المعضلة، وايجاد طرق لمعالجة تحدياتها، فقرروا على تشجيع إلهة الشمس للظهور، ولذلك صمموا جوهرة متميزة، تشمل "ياسكاني نو ماجاتما"، ومرآة، وزينوا شجرة بمجوهرات مقدسة، ثم قاموا باحتفالية مهرجان "ماتوسوري"، وقاموا برقصة مقدسة أمام كهف إلهة الشمس، فدفعها ذلك للفضول للنظر بخفاء لما يجري في الخارج، وبعدها قررت الظهور من جديد، وأنارة العالم بنور شمسها، وليرجع دورها التناغمي في الطبيعة. كما تأسف بعد ذلك كامي البحر، فنزل لكوكب الارض، وقام بقطع ثمانية رؤوس لثعبان، لكامي، ياماتا نو اوروشي، وليخلصه من شيطنته. وبعد موت الثعبان، قام كامي البحر، بتقديم سيف خاص وجده في ذيل الثعبان المقتول، والمسمى "امينو مراكومو نو تسوروجي" لكامي الشمس.&
&
وتعتبر كامي الشمس، أو إلهة الشمس، اكثر الكامي احتراما وتقديرا وتقديسا لسلالة الامبراطور، بل تمثل وحدة الكامي، والتي أرسلت ابنها، نينجي نو ميكوتو، لكي يخلق السلام على كوكب الارض، ولذلك الهدف قدمت له، مرآة، وسيف، وجوهرة، والتي تمثل شعار الامبراطورية اليابانية، والتي ورثت عبر الدهور للديوان الامبراطوري وحتى اليوم. وقد امرت إلهة الشمس إبنها بوضع المرآة المقدسة في القصر الإمبراطوري، وبأن تقدس كما أنها هي بذاتها، كما قدمت له حزمة من الرز، لتعبر عن استدامة شعبها، وضمان بان تبقى اليابان محمية للابد بسلالاتها المتعاقبة. وبعد ان حل بجزيرة كيوشو، قام إبنها، نينيجي نو ميكوتو، ببناء قصر له، ومن هناك بدأ في تأسيس الأمة اليابانية. وبعد سنوات طويلة اختار حفيد حفيد، نينيجي نو ميكوتو، مدينة "نارا" عاصمة لليابان، وهناك عين كأول إمبراطور للشعب الياباني. ويكون الامبراطور الحالي 125 إمبراطور، منذ ذلك الوقت، ولترجع أصوله لإلاهة الشمس، كما يعتبر الإمبراطور اليوم رمزا لشخصية الامة اليابانية و تقاليدها العريقة. وقد بني لإلاهة الشمس ضريحا مكون من 125 مبنى خشبي، في وسط غابة، مساحتها تساوي مساحة العاصمة باريس، وتقام بها سنويا أكثر من 1500 طقوس احتفالية، للصلاة لازدهار العائلة الإمبراطورية، والسلام لليابان وشعبها. وقد كانت تقام طقوس الصلاة لإلهة الشمس في القصر الإمبراطوري، ولكن بعد وباء قديم، قرر الإمبراطور العاشر نقل رموزها الثلاثة، المرآة المقدسة، والجوهرة، والسيف، إلى خارج القصر الأمبراطوي، لكي يتعبد حولها الشعب الياباني للدعاء لانهاء الوباء. وبعدها قام الامبراطور الحادي عشر بطلب أميرته، يماتوهيمي نو ميكوتو، لاختيار مكان مناسب لبناء ضريح لإلهة الشمس. وقد سافرت الأميرة لكل مناطق اليابان للبحث على المكان المناسب، ولتجده على نهر ازوزو جاوا، في مدينة الروحانيات بضريح الإيسه. ولنا لقاء.

د. خليل حسن، سفير مملكة البحرين في اليابان