يناقش المحللون السياسيون والكتاب والإعلاميون في مختلف وسائل الإعلام المقروء والمرئي ، التغير الملحوظ في السياسة الأمريكية تجاه العالم بشكل عام وتجاه الشرق الأوسط بشكل خاص ... وبالأخص تجاه الدول المطلة على الخليج بضفتيه الفارسية والعربية.

لكن الإعلام العربي بمحلليه السياسيين والإعلاميين يحلل الأحداث والأمور من زواياه التي قد لاتكون نفس الزوايا التي ينظر منها الإعلام الأمريكي والغربي وربما العالمي .
وعندما تكون هناك نظرتان لأمر ما من زاويتين مختلفتين ، فإن النتيجة لن تكون ذات رؤية واحدة ولا رؤيتين متقاربتين.
وعادة ماينظر المحلل والكاتب والإعلامي الغربي من زاوية واسعة وذات خلفية متعددة الألوان والصور والأبعاد &بإتجاه هدف أكثر وضوحا حتى وإن بعدت مسافته ... عكس المحلل والكاتب والإعلامي العربي الذي ينظر من زاوية ضيقة وذات خلفية أحادية الصورة واللون والبعد وبإتجاه هدف غير معروف الكنه ولا &المسافة الفاصلة حتى الوصول اليه.
والفرق بين التحليل السياسي في كلا الواقعين الغربي والعربي : هو نفس الفرق بين الثقافتين بكل ما تكتنزه كل منهما من فوارق في إتساع الأفق ، وعمق الرؤية ، والأسس الثقافية لكل ثقافة أو حضارة ، ونوع الأنظمة والدساتير ومؤسسات المجتمعات المدنية وكذلك القوانين التي تنظم حياة الواقع لكل منهما.
لكن الغريب : عندما يحلل محلل سياسي عربي تعلم في أمريكا أو الغرب ثم يسقط ثقافة واقعه على تحليله وكأنه لافرق بين واقعه وبين الواقع الأمريكي الذي يعرفه بحكم العيش فيه يوم كان طالبا أو دبلوماسيا.... وهذا الإسقاط في التحليل السياسي عند المثقف العربي بشكل عام سواء كان محللا سياسيا أو إعلاميا لايمنح السياسي القادر على صنع القرار فرصة أن يتخذ القرار المناسب &لمصلحة بلده خاصة عندما يكون المحلل السياسي أو الوسيلة الإعلامية من الموثوق فيهم وفي رؤيتهم التي قد تناسب صاحب القرار في فترات معينة وقد لاتناسبة في المرحلة الأهم . بل ربما أن بعض المحللين السياسيين العرب لم يكونوا موفقين في الكثير من آراءهم منذ عقود وهم أحد أسباب الإخفاقات السياسية العربية بسبب ثقة أصحاب القرار فيهم حتى أسسوا لواقع سياسي متأزم نظرا لضحالة معرفتهم وسطحية تفكيرهم وقصر نظرهم في واقع كان يمنحهم نجومية التحليل ومطلق الثقة وهم أدنى من أن يكونوا نجوما وأصغر من أن يكونوا محل ثقة على حساب أهل الكفاءة... وساعدهم في تسيد ساحات التحليل السياسي والإستراتيجي أنهم يمارسون تنجيمهم وسط بيئات عربية لاتحبذ تعدد الآراء التي قد لاتناسب مزاج صاحب القرار. وهنا مكمن خطورة رأي المحلل الإسقاطي الذي يبحث عن إرضاء مزاج السياسي فيسقط ثقافة السياسي ذاته وسط تحليل سياسي يفتقد الى دراسة معمقة لمعرفة الآخر وخلفيته السياسية والثقافية والقانونية التي ينطلق منها وكذلك أهدافه التي تتماشى مع مصالح شعبه وليس مع مصالح نظامه. لأن الحاكم الغربي يمثل سياسة شعب انتخبه وأختاره ليمثل مصالحه ويحافظ عليها ويرعاها .... وبرغم أن كل رئيس في أمريكا مثلا يكون مرشحا لأحد حزبين كبيرين ،الجمهوري والديموقراطي، فإن الرئيس لايمثل نفسه في الأمور السياسية الإستراتيجية ولايمثل حزبه ، ويظل تحت مراقبة مجلسي الكونقرس والشيوخ ... ويكون للإعلام دور السلطة الرابعة التي تحلل الأمور بما يخدم مصالح البلد العليا ويوفر لصاحب القرار وللمشرعين والقانونيين ومؤسسات المجتمع المدني ومراكز الأبحاث ما يجعلهم على بينة بواقع الأمور ليتم إتخاذ القرارات المناسبة من قبل صاحب القرار بناء على تعدد في الآراء المختلفة والتي قد تتصادم أحيانا وتتصارع تحت سقف القانون مما يجعل القرارات في أغلبها وفي أحلك الظروف ناجحة وإيجابية وصائبة.&
هذه الديناميكية التي توفرها البيئة الديموقراطية في مجتمع حر يؤمن في التعدد والإختلاف &: هي التي أنقذت أمريكا كلما مرت بكوارث طبيعية واقتصادية وسياسية منذ أكثر من خمسة قرون ، عكس الإتحاد السوفيتي الذي كان يمثل دولة عظمى منافسة لأمريكا وسقط وتفتت نتيجة ركونه الى نظام قمعي لايقبل التعدد في الفكر والرأي ولايوفر مناخا حرا ديمقراطيا فلم يصمد لأكثر من مئة سنة.
نعود الى التغير الملحوظ في سياسة أمريكا الشرق أوسطية وبالذات في علاقاتها مع إيران ودول الخليج العربية. فبعض المحللين العرب ومن يكذب عليهم من مراكز أبحاث في الغرب الذين لايهمهم قول الحقيقة بقدر مايهمهم إرضاء صاحب القرار العربي والحصول على ماله... &يعتقدون أنها سياسة نابعة من مايسمى بعقيدة أوباما ... دون الرجوع قليلا على الأقل الى مرحلة حكم الرئيس بيل كلينتون ثم جورج دبليو بوش ... والإستفادة من مخزون الذاكرة التي يبدو أن أغلب المحللين العرب لا يملك إلا ذاكرة مثقوبة لاتحتفظ سوى بما يدغدغ شعور صاحب القرار العربي على حساب مصلحة الشعوب بل وعلى حساب الأنظمة التي يخدعها المحلل الإسقاطي الذي لايفرق بين ثقافة الشعب الأمريكي ونوع نظامه وبين الثقافة الشرق اوسطية.
ففي عهد الرئيس كلينتون أذكر أنه حاول مرارا مخاطبة الايرانيين والإشادة بشعبهم والإعتذار لهم ورغبته في تحسين العلاقات مع دولتهم ..وكذلك فعلت وزيرة خارجيته مادلين أولبرايت ، لكن الإيرانيين حينها لم يكونوا مستعدين لذلك وربما أن ظروفهم السياسية في ذلك الوقت لم تدفعهم أن يلتفتوا الى دعوات الغزل الأمريكية ، وكدليل على أن الإيراني يجيد قراءة الأحداث بشكل جيد.&
كذلك عندما أصبح الرئيس الجمهوري جورج دبليو بوش رئيسا لأمريكا في فترة من أصعب فترات الحكم الامريكي تهورا واندفاعا لخلق التبريرات لصناعة الحروب ، فانه لم يفكر يوما أن يهاجم إيران أو يصطنع حربا معها، وهذا لايعني أنه كان يجب أن يحاربوا ايران ولكن لكي يعرف المحلل السياسي العربي أن أمريكا لو أرادت حربا لخلقت المبرر وفرضت على العالم أن يتقبله رغما عن أنفه. لكن أمريكا لها حساباتها في الربح والخسارة ...مثلما للآخرين نفس الحق ، والشاطر هو من يعرف كي يتعامل مع أي واقع سياسي بذكاء وحنكة وتكون مصالح شعبه في مقدمة إهتماماته.
ومن يعتقد أن الإتفاق النووي الإيراني نابع من رغبة أوباما الخاصة أو رؤيته السياسية الضيقة فهو قد لايفقه في السياسة وغير مدرك لكيفية صناعة القرار الأمريكي والإستراتيجية التي يتم وضع مدى بعيد لها لايقل عمره عن خمسين سنة كإستراتيجية الوصول للمياه الدافئة التي وضعت ربما قبل فترة الرئيس كارتر أو في عهد رئاسته وتم تحقيقها في فترة أقل من خمسين سنة.
وعندما يسفسط علينا المحلل السياسي العريي ليوحي لصاحب القرار بأن ما نشهده من تغير في السياسة الأمريكية ليس إلا نتيجة قرارات فردية يتخذها رئيس لأكبر دولة مؤسسات مدنية ، فإنه يخدع الجميع ويدفع صاحب القرار أن لايتخذ القرار المناسب في الوقت المناسب حينما يوحي إلينا صاحب التحليل السفسطائي أن ننتظر مجيء رئيس قادم كي يعيد السياسة الأمريكية الى المربع الأول وفي ذهن ذلك المحلل الإسقاطي أن السياسة الأمريكية رهينة قرار فردي لرئيس إنتخبه الشعب وتراقبه المجالس التشريعية والقانونية والقضائية والإعلامية وكل مؤسسات المجتمع المدني.
السياسي الناجح: هو البراقماتي الذي لا يسلم عقله لفكرة منبعها إيديولوجي .. ولايتمسك برأي أحادي النظرة للأمور .. ويؤمن في التغيير المواكب للمتغيرات العالمية .. ولايقع في فخ الإرتهان الى المطلق السياسي حين يعتقد أن الواقع لن يتغير فيبني خططه وإستراتيجياته على أسس وثوابت غير قابلة للتغيير ، وعندما تفرض السياسة شروطها الجديدة يشعر بالصدمة التي تمنعه أن يفكر بإيجابية خاصة عندما يجد حوله من السفسطائيين من يحلل له الأمور بطرق لاعلاقة لها بحقيقة السياسات المتغيرة.&
وميزة القرارات الناجحة أنها تأتي في وقتها المناسب وعندما تتأخر لايكون لها نفس التأثير والقوة وأحيانا يكون لتأخر القرار الصائب أثرا سلبيا لايعوض بثمن.
والمقصود بإتخاذ القرارات الصائبة وفي وقتها المناسب ليس المصادمة مع القوى الأخرى بقدر مايكون البحث عن مكامن الخلل في سياستي وليس في سياسة الآخرين ومن ثم التفكير في إيجاد نقاط التقاء مع الآخر بعد إصلاح الخلل وليس البحث عن نقاط تصادم ... لأن السياسات الناجحة في هذا العصر هي التي تستطيع أن تتلاقح في أفكارها الخلاقة والمتجددة والمتصالحة مع سياسات الدول الأكثر تأثيرا ونجاحا بعيدا عن الإلتفات الى الوراء والى كل من يقبع في ذلك الوراء.
ومثلما يكون لكل مرحلة دولة ورجال .. فإن لكل مرحلة أيضا مفكرون ومحللون وإعلاميون وأصحاب رأي يجب الإستفادة منهم ، ولا يمنع ذلك أن يستفاد من أهل الخبرة الأكفاء الذين يظلون ضرورة لايمكن الإستغناء عنهم بشرط أن نبحث بجدية عن تلك العقول التي تختفي خلف ستائر السفسطائيين الذين أكلوا الجو واليابس والأخضر ولم يثروا واقعنا الفكري والمعرفي والسياسي بشيء وهم يسيطرون على وسائل إعلامية وزوايا صحافية وغيرها من الوسائل التي منحتهم الكثير من الصهيل فتحول الصهيل بفضلهم الى رغاء لم نراه يصنع شيئا ذا أثر إيجابي ملموس.
لذلك .. فإننا نرى أن السياسة الأمريكية الحالية .. ليست وليدة الصدفة بل أنها نتيجة لإستراتيجية معدة منذ مراحل سابقة ، وكل خطة أو إستراتيجية يتم الإعداد لها مبكرا وعندما يحين الوقت المناسب يتم إخراج الخطة أو الإستراتيجية ليتم تتفيذها بما يخدم مصلحة شعب ووطن وليس بما يعكس ميول أو هوى رئيس أو حزب.
صحيح أنه لكل رئيس &أمريكي رؤاه الخاصة قبل أن يصبح رئيسا ولكل حزب رؤيته التي يرى أنها تخدم المصالح العليا للشعب الامريكي.... أي أن إختلاف الرؤى ليس لخدمة المصالح الضيقة والخاصة وإنما لخدمة المصلحة العامة .... ولكنهم برغم تلك الإختلافات الصحية ..... لايختلفون أبدا في الخطوط الحمراء ولا في الإستراتيجيات بعيدة المدى التي تسعى دائما لصون بلدهم كأقوى قوة على وجه الأرض ..ومستعدون دائما أن يضحوا بقيمهم ومبادئهم حفاظا على مصالحهم الخارجية... لكنهم دائما حريصون أن لا يفرطوا في شيء من قيمهم التي تحمي حريتهم وديموقراطيتهم واستقرارهم داخل بلدهم .... وهذا هو سر قوتهم التي يصعب قهرها سوى بإرادة إلهية.... والله وحده هو من منحهم القوة لإنهم عملوا من أجلها فنالوها!
وليتعلم العرب من الأقوياء كيف يكونوا أقوياء مثلهم .... بدلا من ممارسة الإسقاط على الآخر بما لايضره ... وإستهلاك الوقت في عدم الإقتداء بنجاحات ذلك الآخر الذي يمضي في طريقه غير مبال بما يمارسه عليه العربي من اسقاط.
ومن يتعمق في واقع الشعب الأمريكي يلحظ تغيرا واسعا ليس عند السياسيين والمهتمين بالأمور السياسية &فحسب وإنما حتى لدى شرائح المجتمع الأمريكي المختلفة وعند كل الطبقات ومختلف الأعمار، وهو مالم يلحظه من عاش فترة الثمانينات في أمريكا... وأصبحت المدارس والكنائس تعقد إجتماعاتها وتهيء مريديها لفهم الآخر وبالذات كل مايخص العالم العربي الاسلامي ... وأصبحت شخصية العريي المسلم في ذهن الطفل الأمريكي هي تلك الصورة التي يتداولها الإعلام العالمي &للإنسان المتوحش والإرهابي الذي لاتردعه أية قيمة إنسانية أو أخلاقية عن ممارسة توحشه وإرهابه ومن المؤسف أن الإعلام العربي في العديد من قنواته الفضائية ساهم بشكل كبير في نشر تلك الصورة المشوهة وترسيخها نتيجة غباء تلك القنوات التي لم تدرك خطورة ما تمارسه على الهواء مباشرة حين إستسلم المسئولون عن تلك القنوات لنوازع الشر فيهم وربما أن بعضهم كان مدفوع الأجر لتشويه دين و سيرة أمة فعزف بخبث على أوتار الطائفية والمذهبية التي تزيد في إشعال نار التوترات لتساهم في جعل الإرهاب دين بذاته يتقرب به القتلة الى ربهم كي يدخلوا جنة وعدهم بها الأكثر إرهابا ودموية... وسوف نرى أجيالا في كل دول العالم تحارب المسلم المسالم &الذي لم يكن له ذنب فيما حصل من تشويه سوى أنه لم يرفض ذلك التشويه في وقته ويعلن براءته مما حدث.
هناك حشد فكري ومعرفي وإعلامي يمارس تعبئة العقول في الغرب ضد كل ماهو مسلم مدعم بالصور الحية لقطع الرؤوس وتفجير المساجد والكنائس والمعابد والأسواق والمطاعم سيكون ضحاياه العرب والمسلمين الذين لاناقة لهم ولا جمل سوى أنهم يحملون هوية بلدانهم العربية التي ينطلق منها الصراع والفتاوى ... كدليل على أن التغيير يشمل كل الطبقات في الواقع الأمريكي والغربي وهو تغيير سلبي في نظرته لشرق لم يكن في نظرهم سوى مستنقع يصدر الإرهاب للعالم ويستهلك كل مايصنعه له العالم من وسائل الحضارة... في الوقت الذي لايزال صوت المتطرف في ذلك الشرق هو الأعلى بفضل الوسائل المتعددة التي تمنحه حرية التطرف والكراهية !
&