اعتدنا&أن نسمع&أن وعد&بلفور(1917)،&ثمّ المساعدة المطلقة من جانب الولايات المتحدة الأمريكية ،وبقيّة الدول الغربية،&هما العنصران الأساسيّان اللذان اعتمد عليهما الزعماء الاسرائيليّون لإقامة دولتهم في قلب منطقة الشرق الاوسط.&وهذا&أمر لا يمكن أن ينكر.&غير&أن الحيلة التي هي ركن في غاية الاهميّة في عالم السياسة كما يؤكد على ذلك&ميكيافيلي،&هي التي ساعدت باعثي المشروع الاستيطاني الصهيوني على النجاح في&مهمتهم،&&المتمثلة&في&تأسيس دولة اسرائيل وسط&"بحر عربي متلاطم الامواج".

وفي البداية كان الأمر مجرّد حلم دغدغ قلب واحد اسمه تيودور&هرزل&المولود في مدينة&بوداباست&في الثاني من شهر مايو-ايار&1860&لعائلة&يهودية&من الطبقة الوسطى.وفي سنوات شبابه فتن بالأدب الالماني متمثّلا في غوته.غير أن عائلته اصرّت على ادخاله الى كلية الحقوق في فيينا التي كانت آنذاك عاصمة الامبراطورية النمساوية&-الهنغارية.&وخلال دراسته في هذه المدينة&التي&كانتتحتضن&عددا&كبيرا&من الذين سيصبحون في ما بعد رموزا في الثقافة الغربية الحديثة، انتسب الشاب تيودور&هرزل&إلى أكاديمية&"لاسيهالي"&التي كان مبدأها&:”في هيكل المعرفة المتعبّدون جميعا سواسية!”.

ولعلّ اوّل حادث دفع الشاب تيودور&هرزل&إلى التفكير في مصير الشعب اليهودي هو ذلك الذي عاشه في شهر مارس&-اذار&1883&إذ جعل اتحاد الطلبة الألماني من تظاهرة للاحتفاء بذكري الموسيقي الشهير&فاغنر&مبرّرا لشنّ هجوم على اليهود.&وقد امتدح رئيس الاتحاد المذكور لاسامية&فاغنر&.&في الآن نفسه سخر من الموسيقى اليهودية.&وقد أثارت تلك الخطبة غضب تيودور&هرزل،وانزعاجه.&لذلك سارع بالاستقالة من اتحاد الطلبة.&ومنذ ذلك الوقت شرع يفكر جدّيّا في اقامة وطن لليهود المشتتين في جميع أنحاء العالم.&ولبلوغ هدفه هذا كان عليه ان يتنقّل كثيرا بين العديد من البلدان.&فكان في باريس في العقد الأخير من القرن التاسع عشر حيث اصطدم بالأفكار المعادية للسامية،&والتي برزت بجلاء خلال محاكمة&دريفوس،الضابط&الفرنسي من أصل يهودي الذي اتهم عام&1885&بالخيانة الوطنية&ليهبّ&إلى&نجدته مثقفون مرموقون في مقدمتهم الروائي الكبير اميل زولا ،صاحب&الراسلة&الشهيرة&:”اني اتهم...”.&وفي هذه الفترة اتصل&هرزل&بالثري اليهودي البارون&مورتيزديهيرش&الذي كان قد أسس جمعية سمّاها&"جمعية الاستعمار اليهودي"&بهدف توطين اليهود الروس في الأرجنتين، محاولا اقناعه بضرورة تشجيع اليهود على الرحيل الى فلسطين شرط أن تُغْرسَ&فيهم روح الاستعمار فيذهبون&إلى هناك وهم عازمون على القتال لفرض وجودهم.&بعدها عَرَضَ&هرزل&على آل&روتشيلدالذين كانوا يملكون ثروة طائلة فكرة تأمين وطن&لليهود.وفي ذلك كتب يقول:"&الكلّ يعلم ان البخار يولد بغلي الماء في غلاية يكفي&أن يحرك غطاؤها فقط.&والمشاريع الصهيونية والجمعيّات التي تدور&في فلكها ظواهر من نوع غلاية الشاي.&لكن&إذا ما أحْسن استغلال هذه القوة فإن&ذلك سيكون كافيا لإدارة محرّك كبير، ونقل الركاب والبضائع، مُهمّا كان نوع المحرّك&".&الاّ ان&روتشيلد&لم يعرْاهتماما كبيرا لفكرة&هرزل.&ونفس تلك الفكرة تقبّلها&بيسمارك&باستخفاف قائلا&لمساعده&:”ماذا&يمكن أن يفعل هذا الرجل الذي لا مال له ولا جيش؟!”.آخرون سخروا من&هرزل&أيضا معتبرين أنّ افتكاك ولاية تنتسب&إلى الامبراطورية العثمانية، والتي هي فلسطين، ضرب من الجنون.&مجروح الروح،&انطلق&هرزل&إلى بريطانيا بحثا عن سَنَد.&وهناك انفتحت أمامه الأبواب واسعة.&وفي لندن عثر بين أهل السلطة على من يعير فكرته مشروعه الآنف الذكر اهتماما كبيرا.

ففي تلك الأيام كان اليهود يحظون بتقدير كبير في الامبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس.&وكان السير صامويل مونتاج الذي سيصبح في ما بعد&لوردا ،&من أكثر المتحمسين لفكرة&هرزل.&وعند استقباله لهذا الأخير،حرّضه على المضيّ قدما في مشروعه بهدف توطين اليهود في فلسطين.&ومن لندن توجّه&هرزل&الى&الأستانة&.&وفي البداية استقبل استقبالا حارا.&فقد كان السلطان عبد الحميد يعتقد أنه بإمكان اليهود&أن&ينفعوه&في مجالات ثلاثة&:&المجال الأول هو المال بحيث يقدر أغنياء اليهود&أن يساعدوا&"الباب العالي"&على التخلّص من ديونه الثقيلة.&كما أنه بإمكان&الصحافة التي يهيمن عليها اليهود&أن تعمل على تلميع صورة الامبراطورية العثمانية التي تشوّهت بسب المذابح التي تعرض لها الأرمن،&وأيضا بسبب الحروب التي كانت تخوضها في دول البلقان بين وقت وآخر.&ومن ناحية أخرى بإمكان اليهود بعد&أن يستقروا في فلسطين أن يساعدوا&"الباب العالي"&على مواجهة العرب الثائرين عليه.&غير أن السلطان عبد الحميد سرعان ما تراجع عن موقفه لكن بكامل اللطف واللباقة.&ولم يغضب&هرزل&ذلك أنه أدرك وهو يتحدث إلى أهل النفوذ في القسطنطينية أن امبراطورية&"الرجل المريض"&تعيش حالة&تفسّخ ،&وأن انهيارها الذي بات وشيكا يمكن أن يضمن توطين اليهود في فلسطين.

ومن&الأستانة&توجّه&هرزل&الى مصر، ومنها الى يافا.وعند وصوله إلى القدس،&وضع في مفكرته مشروعا لإعادة بنائها وتنظيمها بحسب ما&تقتضيه&حياة اليهود عندما يستقرون فيها لتكون عاصمة لدولتهم.&بعدها واصل طوافه بين العواصم ولا شيء يشغله غير المشروع المذكور.&وهو الذي يتمتع بثقافة واسعة، ويتقن لغات عدّة، تمكن من يرتبط بعلاقات وثيقة مع شخصيات سياسية نافذة في سياسات بلدانها داخليّا وخارجيّا.&كما تعرف على رجال أعمال يهود يمكن أن تستعمل ثرواتهم لتسهيل هجرة اليهود&إلى فلسطين.&ورغم أنه لم يحصل على&أيّ ضمان ماديّ،&فإن&هرزل&كان مُتيقنا من مشروعه سيتحقّق ذات يوم.&وكما يقول المؤرخ البريطاني المرموق&دزموند&ستيوارت ،كان&الكتاب الذي الّفه،&والذي كان بعنوان&:”دولة اليهود"&حدثا كبيرا بالنسبة لمنطقة الشرق الاوسط&"لا يقلّ&أهميّة عن فتح اسماعيل قناة السويس".

وقبل&أن يموت،&وذلك في الثالث من شهر يوليو-تموز&1904،&ترك&تيدور&هرزل&وصيّة تقول&بإنه&يتحتم نقل رفاته الى فلسطين عندما يتمكن اليهود من اقامة دولتهم فوق أرضها!!وربما كان ذلك الداهية،&صاحب الأسلوب المنمق في الكتابة،&وفي الحديث قد أدرك قبل أن يرحل عن الدنيا أنه سوف يترك لشعبه حلما يُوحّد بين&أبنائه ،&ويحولهم الى قوّة فاعلة على المستوى العالمي.&وبالفعل وجد أحفاد&هرزل&وأنصاره في التراث الفكري والسياسي الذي خلفه ما يمكن أن يحفزهم على مواصلة العمل من أجل تحقيق المشروع الصهيوني مٌُستغلين الصراع بين الدول الكبيرة التي كانت تتقاتل بضراوة من&أجل اقتسام النفوذ.&وفي أجواء متفجرة للغاية راح&أحفاد&هرزل&يتحركون في جميع الاتجاهات بحثا عن تأييد سياسي فعلي لما كانوا يخططون لتنفيذه.&وفي عام&1912&كتب اليهودي مارتن بوبر&يقول&:”لن&نكتشف&أنفسنا حقا الاّ في آسيا.&نحن هنا في اوروبا مثل&اسفين&دقّته اوروبا في البنيان الاوروبي،&وهو شيء يثير القلق والاضطراب.&علينا&أن&نعود&إلى&قلب آسيا،&وأن نعود في الوقت ذاته&إلى المعنى الحقيقي لرسالتنا ومصيرنا ووجودنا".&وقد شاعت هذه الكلمات الحارة في العديد من البلدان الاوروبية،وانتشرت بين اليهود.&وكان البولونيون هم اوّل من تقبّلها بحماس فيّاض إذ أنهم كانوا يرغبون في التخلص من اليهود الذين كانوا ينافسونهم في العمل.&ولما اندلعت الحرب العالمية الأولى،&بدأت روسيا تغرق في الوحل.&وبسبب تكثيف أحفاد&هرزل&للدعاية الصهيونية بين أوساط اليهود،&انزعجت سلطات موسكو معتبرة ذلك خطرا على&أمنها.&لذا شنّت حملة واسعة النطاق ضدّ النشطاء الصهاينة.&وفي ظرف زمني قصير،&قامت بطرد ما يقارب المليون يهودي من أراضيها.&وقد وجدت المانيا في ذلك فرصة للانتقام من روسيا.&وعندما علمت أن الولايات المتحدة الامريكية انضمت الى الحلفاء،&سارعت باعتبار السلوك الروسي سلوكا مُشينا،&داعية الصحافيين الامريكيين للتنديد بذلك.&وفي فترة العواصف والتقلبات التي كان&يواجهها&العالم في تلك الفترة،&برز من سيخلف&هرزل&عن جدارة.&وهو&يدعى&حاييم&وايزمن.&وقد ولد في مدينة منسك الروسية.&وهو ينتمي&إلى عائلة مثقفة كانت تمتلك مكتبة ثريّة.&كما&أن افرادها كانوا يتكلمون عدة لغات.&وغالبا ما كان هؤلاء يثيرون خلال المناقشات التي تدور بينهم موضوع حياة اليهود في ظلّ الحكم القيصري.ومن المؤكد ان حاييم وايزمن تأثر بكلّ ذلك طفلا&ثم شابّا.وكان دائم الخلاف مع&أخيه&شمويل.&فقد كان هذا الأخير يرى&أنه على اليهود البقاء في روسيا رغم المظالم المسلّطة عليهم.&أما هو،&أي حاييم فقد كان مؤمنا بانه لا حلّ اخر غير&هجرة اليهود&إلى فلسطين.&وعندما يشتدّ الخلاف بين الأخوين،&تتدخل الأم&لتقول&:”مهما&حدث سأكون بخير&...اذا كان&شمويل&على صواب بقينا في روسيا...واذا كان حاييم على صواب ذهبنا الى فلسطين!”.&وخلافا لأخيه&شمويل&الذي فضل الانتساب الى الجامعات الروسية،اطلق الشاب حاييم الى المانيا بحثا عن آفاق&أخرى معتبرا ان الدراسة في البلد الذي ولد&فيه،&وفيه&نشأ ،عبارة عن&"مذلّة يوميّة".&ومن المانيا توجّه&إلى بريطانيا.وهناك اكتشف&أن هذا البلد هو المؤهّل&اكثر&من غيره لإنجاز المشروع الصهيوني.&لذلك شرع في ربط علاقات بأهل النفوذ في لندن.&ورغم&أن بلفور لم يكن يكنّ احتراما كبيرا&لليهود ،فان&حاييم وايزمن تمكن من اقناعه بإحياء المشروع العبراني القديم.&ولعل بلفور تقبل المشروع لأنه رأى فيه طريقة للتنقيص من عدد اليهود الذين يعيشون في بلاده.&كما&أنه سيسهل على بريطانيا حماية قناة السويس،&والمرور الى العراق التي&أصبحت قبلة القوى الامبريالية بسبب ثروتها النفطية&الهائلة.ل&لذلك بعث في الثاني من شهر نوفمبر-تشرين الثاني&1917&رسالة الى اللورد&روتشيلد&يقول فيها بان حكومة صاحب الجلالة&"تنظر بعين العطف&إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين ،وأنها ستبذل جهدها لتسهيل هذه الغاية".&