"إن استثارة الانفعال العاطفي بدلاً من التفكير هي طريقة تقليدية تستخدم لتعطيل التحليل المنطقي، وبالتالي الحس النقدي للأشخاص. كما أن استخدام المفردات العاطفية يسمح بمرور اللا – وعي حتى يتم زرع أفكار به، ورغبات ومخاوف، ونزعات وسلوكيات".... هكذا شرح نعوم تشومسكي تأثير الساسة على الشعب، وكم عانينا نحن اللبنانيون من استثارة السياسيين لعواطف مناصريهم لسنوات وسنوات، ولكن بلحظة واحد انتفض الشارع مرّة واحدة، نزل إلى الكثير من الساحات ليقول للساسة كفى.. ما عدنا نصدقكم... خربتم البلد.. إرحلوا... إلا شارعين نزلا ليدافعا عن الزعيم!&
نحن نعرف أن هناك من يحبّون رئيس الجمهورية حتى العظم، كما هناك من يحبّون أمين عام حزب الله ورئيس مجلس النواب... نعم إنهم يحبونهم ويناصرونهم حتى النخاع... وهذه حريتهم الشخصية في بلد يدّعي الديمقراطية، ولكن مهلاً لماذا نزلوا إلى الشارع؟ في صور والنبطية ورياض الصلح بالاعتداء على المتظاهرين من دون توفير رجال قوى الأمن الداخلي، والتطاول على المراسلين على مقلب مناصرة رئيس الجمهورية... نعم نحن نتفهم الحب ولنقل النزول إلى الشارع لإظهار هذا الحب، وإن كان هزيلاً جداً اذا ما قارناه بالملايين التي نزلت إلى كل الساحات مطالبة كل الطقم الحاكم بالرحيل... ولكن لا نستطيع أن نتفهّم استخدام العنف مع متظاهريين سلميين!
اذا قاربنا الموضوع من زاوية علم النفس نجد أن ردود الفعل العنيفة ما هي إلا تعبير عن غضب ممزوج بالخوف... غضب من مظاهر شعروا أنها تهدّد وجودهم، وهنا أتحدث عن الساسة قبل المناصرين، فثار الشارع المقابل غضباً فاقدا القدرة على ضبط النفس ضمن الحدود الأخلاقية والانسانية..&
ومن الطبيعي أن يخاف السياسيون على وجودهم في مشهدية لم يسبق للبنان أن عاشها... عشرة أيام، كل يوم تزداد الساحات ويزداد روادها والكل يرفع مطالب موحدة: رحيل كل الطقم الحاكم، استعادة الأموال المنهوبة... وشعاراً عريضاً "كلن يعني كلن". في انتفاضة الشارع لم ينزل اللبنانيون تلبية لمطالب السياسيين، بل نزلوا تلبية لصرخة داخلية باتت ملحة... "كفى استغباء لنا... من حقنا أن نعيش حياة كريمة"!
نزلوا إلى الشارع في 17 تشرين الأول ومستمرون في اعتصامهم مع حرصهم على إقفال الطرقات الحيوية، مرة بالاطارات المشتعلة، ومرة بالسواتر الترابية وأخيراً بالدروع البشرية... ما يحصل على أرض لبنان وساحاته يمكن أن نسميه عصياناً مدنياً مبطناً إلى أن تتجاوب السلطة مع مطالب الشارع.
ومع ثبوت تعنّت السلطة ورفضها الرضوخ للمطالب، بدأت تظهر معالم نية بالحزم ولكن النقطة الايجابية في كل ذلك أن الجيش، المؤسسة العسكرية التي تحاول السلطة استخدامها لقمع المتظاهرين وسحبهم بالقوة من الساحات، تتعاطف بغالبية كبيرة مع هذا الشارع، ورأينا ذلك في فيديوهات انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي تظهر العسكر متضامنين مع الناس، ففي النهاية العسكر من الناس وفيهم!&
الناس في الشارع يقولون "لبنان خط أحمر"، والمناصرون للعهد ونصرالله يقولون "زعيمي خط أحمر"...
الناس في الشارع يطالبون بحكومة من الاختصاصيين من خارج السلطة الحاكمة لتنقذ البلد من الانهيار الذي يتهدّده، استعادة الأموال المنهوبة في صفقات السياسيين على حساب الدولة، وبانتخابات نيابية مبكّرة... والمناصرون للعهد ونصرالله يقولون لهم "لا زعيمي خط أحمر"...&
الناس في الشارع يهتفون "سلمية سلمية"، يغنون الأغاني الوطنية، يعدّون الطعام والشراب لبعضهم البعض، ببساطة يعيشون تعايشاً حقيقياً في الساحات العامة... والمناصرون للعهد ونصرالله يرددون "زعيمي خط أحمر"...
الناس في الشارع يحاولون رسم صفحة جديدة لوطن أنهكه الفساد... والمناصرون للعهد ونصرالله يرددون "زعيمي خط أحمر"...
طبعاً الساحات والشوارع ليست منزّهة عن الأخطاء ولكن الخطوط العريضة التي يرفعها ما يقارب المليوني لبناني ويرفعونها يومياً في الساحات اللبنانية وفي الكثير من دول المهجر، مغايرة جداً لما يرفعه عدد أقل بكثير لا يحمل إلا شعاراً واحداً، يستخدم العنف لأجله، يصرخ بوجه المراسلين بسببه... "زعيمي خط أحمر".
أحلى ما في ثورة 17 تشرين الأول، أنها أسقطت عن الكثير من الزعماء غطاء الشارع... أحلى ما فيها أنه عكست للعالم ثقافة ووعي شعب صبر طويلاً على انتهاش لحمه ولكنه بلحظة لم يكن هو يتوقعها انتفض، انتفض على كل شيء... وفوجىء كم هو موحّد، كم هو قادر على إحداث فرق... كم هو واع على واقعه حين ظن السياسيون طويلاً أنه أعمى ويمكن استغباؤه... الآن يخرج الساسة واحداً تلو الآخر محاولاً امتصاص غضب الشارع، وكل ما خرج أحد كل ما غضب الشارع أكثر وانتفض أكثر... أحلى ما في الثورة أنها أرتنا نحن اللبنانيين، قبل غيرنا، ماذا يمكننا أن نفعّل!&