لا ينبغي للمتحدث عن النفط وإقليم كردستان وحكومات العراق المتعاقبة أن يقف على رأسه، وينظر إلى هذه العناوين بالمقلوب، فيرى الأسفل أعلى، والأعلى أسفل سافلين.

وهذا، بالضبط، ما يحدث حين يتناول مواطن عراقي كردي بلغت منه العصبية العنصرية القومية حدَّها الأقصى، وجعلته مُصدقا لما بين يديه من حجج القيادات الحزبية الكردية التي ليس من مصلحتها أن تُذكّر أحداً بأوليات المشكلة العراقية كلها، من طقطق لسلام عليكم، بل تكتفي باجتزاء النتائج المترتبة على حوادث التاريخ، فقط، وتُصدّرُها باعتبارها هي التاريخ، وتحدد على أساسه الشكل الجغرافي للكيان الذي تريده هي على مقاسها، ثم تحاول، بعد ذلك، أن تمحو جميع التفاصيل الأخرى التي صنعت تلك النتائج، ولن تستطيع.

والمشكلة كلها تتلخص بأربعة أسئلة ينبغي الرد عليها كلها، بدون تركِ أيٍ منها،

الأول، أما كان الأجدى والأنفع والأسلم للمواطن الكردي العراقي، وليس للأحزاب، وقبل غيره من العراقيين الآخرين، ولشعوب المنطقة، أيضا، أن يتحالف قادة الأحزاب الكردية التي ألصقت بأسمائها الديمقراطية والوطنية مع قوى الحرية والديمقراطية العراقية والإقليمية للنضال معا من أجل إسقاط الأنظمة الحاكمة المنحرفة المفروضة بالقوة، وإقامة مجتمع العدل والمساواة والرخاء لكل العراقيين؟.

والثاني، هل كان نافعا للشعب الكردي العراقي، وللعربي العراقي أيضا، أن تتحالف تلك الأحزاب مع حكوماتٍ ديكتاتورية وأجهزة مخابراتٍ إقليمية وأجنبية، وأحزابٍ ظلامية دينية طائفية انتهازية لا يناسبها قيام نظامٍ عراقي عادلٍ وقوي ومؤسساتيٍ تحكمُه سلطة القانون، بعد سقوط الديكتاتورية، ولا من معتقداتها الإيمانُ بوحدة الوطن وسيادته واستقلاله وتحرره من الوصاية الأجنبية أيا كان لونها وطعمها وهوية أربابها

والثالث، هل صحيحٌ وعقلانيٌ وحكيم فصلُ المسألة الكردية تماما عن المسألة الوطنية العراقية الواحدة، ثم تبرير أي عمل يُحقق مصالح تلك الأحزاب، فقط لا غير، حتى لو ألحقَ الأذى بالشعب الكردي نفسه، قبل غيره من العراقيين، ثم أدى إلى تخريب الدولة الوطنية، بالكامل؟

والرابع، أليس صحيحا أن يكون نفط كردستان الموجود في محافظة كركوك من ممتلكات الحكومة المركزية فقط، حسب أحكام الدستور الذي فصله وأراده قادة الأحزاب الكردية أنفسُهم، أكثر من غيرهم، وقبل أي طرفٍ سياسي آخر من الأطراف التي تحالفوا معها، وهم يعرفون، حق المعرفة، بأنه وكيلٌ معتمد لأجنبي ومكلف، فقط، بخدمة مصالحه وتحقيق أهدافه ولا شيء سواه؟.

فلو افترضنا، جدلا، وهو أمر لم يكن متاحا ولم يعد، أن قادة الإقليم أقأموا أساس نضالهم وسياساتهم وخططهم على أساس أن الإقليم ما زال إقليما تابعا لدولة اتحادية، ولم يصبح دولة مستقلة بعد، وتعاملوا مع حكومة المركز، ولهم نصفُها وليس ثلثها ولا ربعها، بعدالة ونزاهة وإخلاص، ورفضوا المحاصصة، وأصروا على دولة قانون حقيقية وديمقراطية غير مغشوشة، أما كان العراق، اليوم، وإقليم كردستان قبل سواه، جنة فردوس تجري من تحتها الأنهار، وهم فيها متكئون على الأرائك لا خوف عليهم ولا هم يحزنون؟

وأما كان الوطن العراقي اليوم عامرا مزدهرا قويا مهابا وبلا اختلاس ولا غش ولا فساد ولا شهادات مزورة ولا مليشيات ولا هادي عامري ونوري مالكي وقيس خزعلي، ولا تحت وصاية سليماني ولا قاآني؟
يقول كاتبٌ من كتابهم،

"منذ أن دخل حقل كركوك النفطي الكوردستاني، ثاني أكبر حقل في العالم، والذي يشمل حقول بابا كركر وباي حسن وجمبور وكركوك، مرحلة الإنتاج عام 1934، والدولة العراقية تستغل إيراداته المالية، بقدر تعلق الامر بالشعب الكوردي فقط، لتكريس حرمانه من حقوقه القومية الديموقراطية والإنسانية، ولجأت الدولة لكل وسائل القمع والاضطهاد لسحق إرادته ونضاله الوطني وصهره في بوتقة عنصرية متخلفة".

وهذه واحدة من الحالات العصية على الهضم قعلى كل كاتب أو قاريء ذي عقل سليم يرى العالم كما هو، بحلوه ومره، بأسوده وأبيضه، وبخيره وشره، وليس كما يحب هذا المتحدث أو ذاك، ويشتهي.

فالحكومات العراقية المتعاقبة لم تكن هي الحكومات الوطنية الخالصة التي اختارها أحدٌ بحرية، ولكنها، في أغلبها، أنظمة جاء ت بها دبابات الجيش وقطارات القوى الخارجية الفاعلة. ولا يحق لأحد، ولا يمكن لأحد، أن يُبرئها من الظلم والعبث والاستغلال والفشل وقصر النظر السياسي والفكري والفلسفي إلى قطع النفس.
والمنصف العادل لابد أن يعترف بأن ما يتحدث عنه الكاتب المحترم من قمع واضطهاد كان موزعا بالعدل على جميع العراقيين.

وهي، جميعُها، من الحكم الملكي إلى حكم الزعيم عبد الكريم قاسم، إلى البعث، وإلى عبد السلام، فعبد الرحمن عارف، فأحمد حسن البكر، فصدام، لم تكن أرحم على فئة، وأقسى على فئة أخرى من العراقيين. فقد كان ضدها العربي والكردي، المسلم والمسيحي، الشيعي والسني، ومعها أيضا كان العربي والكردي، المسلم والمسيحي، الشيعي والسني؟ وذلك موثق ومؤرخ ولا مجال لشطبه من التاريخ.

فقد كان بقاؤها في السلطة هو الوطن والوطنية، وهو الشرف والدين، ورغم أنف من لا يرضى وأنف من يرضى كذلك. وعليه فكيف إذن يراد منا أن تسمح، لأيٍ كان، حتى لو كان من أقرب الناس إلى قائدها (المفدى)، بأن يرفع السلاح ضدها في الداخل، أو أن يجند نفسه مع أعدائها الذين يحاربونها من الخارج؟.

وحاول أن تجد نظام حكم في العالم وعلى امتداد التاريخ، من أسوأ ما يكون وأفضل ما يكون، يصادف جمعا من مواطنيه يتمرد عليه ويحمل السلاح لحربه وإسقاطه ثم يبتسم لهم ويكافؤهم على ما يفعلون.
وإن كل ما جرى في حروب الحكومات العراقية ضد بعض الكرد، وليس ضد كل الكرد، كان هو النتيجة، وليس السبب. وهذا هو أصل الخلاف بين الديمقراطيين والعلمانيين العراقيين وبين القوميين الكرد والعرب المبالغين في العصبية العنصرية، إلى حد كبير.

هذا مع الاعتراف بأن كل جريمة ارتكبتها الحكومة أو معارضوها، في أجواء ذلك الصراع الدامي بينهما، كانت مدانة لا تقرها مباديء إنسانية ولا وطنية ولا أخلاقية، ولا يمكن تبريرها بأي شكل، وبأية ذريعة.
وقد دفعت شرائح وطنية واسعة من الشعبين العربي والكردي، معا، ثمنا باهضا لمعارضة تلك الجرائم، والنضال ضد مرتكبها، والمطالبة بالاقتصاص منه، ومن النظام الذي ينتمي إليه.

ثم يقول صاحبنا الكاتب "إن أي حل للازمة المستحكمة (الآن) بين أربيل وبغداد وأي اتفاق بينهما يجب أن يأخذ بنظر الاعتبار الظلم الذي حاق بشعب كوردستان، والأضرار الناجمة عن السياسات العدائية التي جربت كل وسائل القمع الدموية، بما فيها عمليات الإبادة الجماعية".

ودعونا، هنا، نعكس النظر إلى هذه المسألة، ونحن واقفون على أقدامنا لا على رؤوسنا، فنؤيد ونطالب بأن يؤخذ الظلمُ الذي حاق بشعب كردستان بنظر الاعتبار، وكذلك الظلمُ الذي حاق بباقي شرائح الشعب العراقي الأخرى، والأضرار الناجمة عن السياسات الفاسدة السابقة والحالية التي اخترعتها الأحزاب الدينية الحاكمة وحليفاتُها قيادات الأحزاب الكردية. ونُحمّل الطرفين، بالتساوي، وربما قيادات الأحزاب الكردية أكثر من غيرها، كامل المسؤولية عن الخلل الذي لحق بحياة العراقيين منذ نيسان 2003 وحتى اليوم، عربا وكردا، والذي لم يكن ليحدث لو كانت القوى الوطنية الكردية والعربية قد أصرت، منذ العام 1958 وحتى 2003، وما بعده، على إقامة نظام وطني فيدرالي ديمقراطي غير قائم على المحاصصة، لا تكون فيه مكان لأحد إلا بالعمل الوطني الصالح والكفاءة والنزاهة وحسن السيرة والسلوك.

وبموجب هذه الصيغة للدولة الفيدرالية العادلة المفترضة سيكون لحكومة المركز جميعُ حقوق استثمار الموارد، كلها، في جميع أرجاء الوطن الموحد، ويترتب عليها، في الوقت نفسه، أن تعدل في توزيعها بدون استغلال واستهبال واستكراد وليّ ذراع من أيٍ كان ضد أيٍ كان، من أعلى مستويات الحكومة إلى أدناها.
وهنا نرجو من المتحدث أن يحكم بضميرٍ حي وعقل سليم ونزاهة كاملة على ما يجري، ويرد على هذا السؤال الأخير،

هل إن موارد نفط كركوك والبصرة وغيرهما، وموارد الجمارك والمداخل والتجارة والضرائب، تُنفق على صحة المواطن العراقي وتعليمه وإعمار مدنه وقراه، في القسم العربي من الوطن، وفي قسمه الكردي أيضا، وبما يرضي الله ورسوله والمؤمنين، أم هي تُنهب وتُسرق وتتحول إلى عمارات وقصور ومراقص ومولات وشقق للبيع والإيجار، لحساب الحاكم هنا، والحاكم هناك؟.
ثم هذا السؤال الملحق الآخر.

إن سلطات الحزبين الكريين الحاكمة في كردستان تضع العقدة في المنشار، دائما، خصوصا حين تحتاج أحزاب المنطقة الخضراء لمساعدة من حكومة الإقليم، فتقايضها واحدة بواحدة، إما أن تدفع المركزية جميع رواتب الموظفين المدنيين والبيش مركة، أو لا خدمات.
تُرى هل تسمح حكومة الإقليم لطرفٍ محايد ثالث بتدقيق قوائم الموظفين، والتأكد من صحتها، ومن عدم فضائية أعدادٍ كبيرة منها؟

شيء أخر مهم، هل التزمت سلطات الإقليم بواجبها الإداري والحسابي المنصوص عليها في الدستور الفيدرالي فحولت، بأمانة وشفافية، جميع الموارد النفطية والضرائبية والمداخيل الأخرى إلى خزينة الدولة المركزية لتطالب بنصيبها من المال العام؟.

وأخيرا هل مَن يقرأ ويسمع كما ينبغي، لا كما يشتهي؟؟