عدا الفترة التي عاش فيها العراقيون تحت الحكم الملكي وجزءا من فترة الزعيم الراحل عبدالكريم قاسم، لم يهنأ الشعب ولو بقسط يسير من السلام والأمان والطمأنينة. ومُذَّاكَ لم ير هذا الشعب زعماء وقادة مخلصون يحبون العراق ويعملون لمصلحته!

فبعد مجزرة قصر الرحاب وإبادة العائلة المالكة في العراق لم تعد هناك أية مظاهر لديمقراطية حقيقية في هذا البلد الذي هو أحوج من بين كل دول العالم الى نظام ديمقراطي يعيش في ظله العراقيون بكل مكوناتهم بأمان وسلام وأخوة. وبعد أن تم إعدام قاسم في غرفة بوزارة الدفاع، لم نر زعيما مثله يسعى لخدمة الشعب ويرأف بحال الفقراء والمعوزين ويتمتع ولو بنزر يسير من الوطنية والاخلاص والإعتزاز بالإنتماء الى أرض العراق، فكل الذين جاؤوا الى السلطة عقب الإنقلاب البعثي في 8 شباط 1963 كانوا على شاكلة واحدة وبنهج سياسي واحد قوامه إستغلال الحكم لمنافع شخصية وإشاعة الفساد والخيانة وإنتهاج سياسة فردية دكتاتورية عسكرية مقيتة، وصولا الى التفريط بالسيادة الوطنية، والذي توجه الرئيس الأرعن صدام حسين بالتنازل المشين عن نصف مياه شط العرب وأراض واسعة لصالح إيران لا لشيء سوى لخنق الثورة الكردية التي كانت تطالب بالديمقراطية للعراق والحكم الذاتي لشعب كردستان. لذا أتساءل مرارا، هل كان الأمر يستحق كل هذه الخسائر الفادحة من سيادة وهيبة العراق؟

ماذا لو إلتزم البعث بصدق بإتفاقية 11 آذار عام 1970، وأجرى مصالحة حقيقية وبنية صافية مع القيادة الكردية وقتذاك وأتاح الفرصة للبناء الديمقراطي في البلد وأطلق الحريات السياسية وأجاز لأحزاب المعارضة أن تمارس عملها بحرية بدل اللجوء الى الإنقلابات والتمردات المسلحة؟

وماذا كان سيكون مستقبل العراق في ظل تلاحم القوى السياسية وتكريس وحدة وطنية حقيقية بين مكوناته في ظل النهضة الإقتصادية التي شهدها البلاد بعد تأميم النفط، والطفرة الكبيرة في خطط التنمية بأواسط السبعينيات؟

وما كان يكون حال العراق الذي حقق في تلك السنوات قفزة نوعية مثيرة للدهشة في مجالات التربية والتعليم والصحة والإسكان والتعمير والتصنيع، بدل أن تذهب موارد الدولة الى شراء الأسلحة الفتاكة لضرب الكرد والشيعة وملاحقة قادة السنة ومطاردة المثقفين والسياسيين ونفي خيرة العقول العراقية؟

ثم، ترى ماذا إستفاد النظام من حرب الثماني السنوات مع ايران والتي قضت على كل مقدرات البلاد الإقتصادية والبشرية، سوى تنظيم إحتفالات مزيفة بنصر مزيف في آب 1988؟

ثم ماذا إستفاد العراق من احتلال الكويت وتعريض المنطقة الى الخطر، هل إستطاع أن يستولي على نفط هذا البلد ليسد به ديونه المتراكمة عن حرب ايران؟. أم أن تلك الديون زادت بأضعاف مضاعفة لتنتهي الحرب بإستسلام مشين تحت خيمة صفوان؟

ثم، ماذا جنى النظام من حرب السنوات الطويلة مع الكرد، هل إستطاع إبادتهم رغم ما يمتلكه من ترسانة هائلة من كل أنواع الأسلحة المحظورة من النابالم الى الكيمياوي؟

حين وقع صدام حسين عام 1983 إتفاقية أمنية مع تركيا والتي أجازت للجيوش التركية أن تنتهك سيادة العراق وتدخل الى أراضيه بعمق 20 كيلومترا لملاحقة مقاتلي حزب العمال الكردستاني، هل فكر صدام للحظة بأنه يفرط بسيادة العراق مقابل لاشيء من تركيا؟!. فنحن نعلم جميعا، بأنه منذ أن تم توقيع هذه الإتفاقية المشؤومة لم تدخل القوات العراقية ولو مترا واحدا الى الأراضي التركية، لأنه ولسبب بسيط عدم وجود أية عناصر كردية معارضة لنظام صدام في جهة تركيا.

فطوال ثمانين سنة من عمر الثورات الكردية لم يلجأ أي حزب أو فصيل عسكري كردي الى إستخدام الأراضي التركية للإنظلاق منها لضرب القوات العراقية، اذن مقابل ماذا وافق صدام حسين بالسماح للقوات التركية أن تدخل لعمق 20 كيلومترا من الأراضي العراقية؟ هذه الحماقة الصدامية تكررت ثانية أثناء حكم نوري المالكي الذي جدد هذا الإتفاق المشين مع تركيا وأجاز لها ثانية أن تدخل الأراضي العراقية وهذه المرة مقابل لاشيئ أيضا!

والمصيبة الكبرى أنه في عهد المالكي لم تكن هناك أية ثورة كردية ضد الحكومة العراقية ولا أي تهديد من قبل الكرد، بل أن رئيس الدولة في عهده كان كرديا، وكان النواب والوزراء الكرد متواجدين في برلمانه وحكومته ولم تكن هناك أية دواع أمنية لكي تجيز لتركيا أن تتمتع بهذه الميزة في إنتهاك سيادة العراق.
هذه التنازلات المشينة التي قدمها قادة العراق لتركيا، هي التي أدت اليوم الى أن تصول القوات التركية وتجول داخل الأراضي العراقية وتنتهك سيادة البلد جهارا نهارا بل وحتى تقيم قواعد عسكرية في مناطق عراقية، وكل ذلك أيضا من دون أي مقابل!

فمشكلة حزب العمال الكردستاني التي تتذرع بها تركيا، هي مشكلة داخلية لا علاقة لها بالعراق، فمقاتلي هذا الحزب موجودون داخل الأراضي التركية وعلى الحدود، وليست لهم أية علاقة أو مصلحة مع النظام العراقي الحالي، فاذا أرادت تركيا أن تعالج هذه المشكلة أو تواجهها بالحرب فهي مشكلتها وليس للعراق شأن بها، فلماذا تغازل الحكومة العراقية تركيا وتسمح لها بكل هذه الإنتهاكات الفظيعة من دون مقابل؟

لقد ضاع العراق بين حماقة صدام وبلاهة نوري المالكي، وليس لنا الا أن نقول حسبنا الله ونعم الوكيل. والسلام.