قبل يوم واحد من انتهاء فترة ولايته الثانية وتسليم السلطة لخلفه ابراهيم رئيسي، أطل الرئيس الايراني السابق حسن روحاني على الشعب الايراني والعالم في خطاب أخير معترفاً بأن اسرائيل سرقت الأرشيف النووي لبلاده، ليؤكد روحاني صحة الرواية التي اعلنها رئيس الوزراء الاسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو في مايو 2018، وكشف فيها وقتذاك عن نجاح "الموساد" في سرقة أكثر من نصف طن من الأدلة، تحتوي على 55 ألف وثيقة وضعت على 183 قرص مضغوط تضم أبحاث إيران النووي وذلك من مستودع قرب العاصمة الايرانية!. فيما كشف يوسي كوهين، الرئيس السابق لجهاز الاستخبارات الإسرائيلي (الموساد) تفاصيل عملية سرقة الأرشيف النووي الإيراني، موضحاً أن 20 من عملاء الموساد شاركوا في العملية، وجميعهم على قيد الحياة فيما غادر بعضهم إيران، مضيفاً أنه لم يكن أي من هؤلاء العشرين اسرائيلياً او يهودياً في تلميح إلى أن جميعهم، أو على الأقل أغلبهم، كانوا ايرانيين! وقال كوهين في تصريحات متلفزة في يونيو الماضي، إن العملية اشتملت على فتح 32 خزنة تحتوي على وثائق من أرشيف البرنامج النووي في غضون سبع ساعات، مؤكداً أن الموساد كان قد خطط للعملية لمدة عامين وقام بمحاكاة المستودع النووي لتكون العملية أكثر نجاحاً!
اعلان اسرائيل قوبل وقتذاك بقاموس أوصاف إيراني في محاولة لدحض الرواية الاسرائيلية، ووصفها بالصبيانية والمضحكة والمفضوحة، ولكن ماتلا هذه العملية من أحداث وتطورات متعاقبة، كان يؤكد بوضوح أنها حقيقة مؤكدة، وأن إيران ليست سوى نمر من ورق وأنها مخترقة من الداخل بشكل يفوق التصورات، وهو ماوصفه محسن رضائي أمين مجمع تشخيص مصلحة النظام في أبريل الماضي بالتلوث الأمني الذي يعانيه نظام الملالي.
بعد كل ماسبق لم تعد قصة سرقة الأرشيف النووي الايراني سراً دفيناً، بل خرجت إلى العلن ولم تكن تنتظر سوى اعتراف ايراني رسمي بوقوعها، وهو مافعله الرئيس السابق حسن روحاني قبل مغادرة منصبه بيوم واحد، ما يطرح تساؤلات عديدة حول مغزى التوقيت في رواية روحاني الأخيرة، ولماذا اندفع لإفشاء سر يتعلق بالأمن القومي للبلاد ويفعل مثلما فعل الرئيس الأسبق احمدي نجاد حين قال عقب رفض ترشحه لانتخابات الرئاسة مباشرة، إن الهجوم الذي تعرض له مفاعل "نتانز" النووي في ابريل الماضي قد خلف خسائر تقدبر بنحو 10 مليارات دولار!
أحاديث خطيرة قال بها مسؤولين ايرانيين خلال الفترة الماضية، منها التسريبات الشهيرة التي وردت على لسان وزير الخارجية جواد ظريف واتهم فيها الحرس الثوري الايراني بالتدخل في شؤون السياسة الخارجية، وغمز من قناة الجنرال قاسم سليماني الذي قتل في غارة أمريكية بالعراق. والواضح أن تصريحات روحاني وتسريبات ظريف تصب في خانة واحدة وتعكس ضيقاً وتبرماً واحساساً بالفشل، مادفعهما إلى محاولة فضح حقيقة الحرس الثوري أمام الشعب الايراني، ولم تكن هذه الاعترافات هي الواقعة الأولى في هذا الإطار، بل سبقها في فبراير عام 2019 ، أزمة تتعلق باستقالة ظريف من منصبه في واقعة وصفتها صحيفة "ابتكار" الاصلاحية وقتذاك بأنها "صرخة مرتعشة"، ظهرت عقب "تغييب" وزير الخارجية الايراني عن لقاءات أجراها الرئيس السوري بشار الأسد خلال زيارته إلى طهران مع المرشد علي خامنئي والرئيس روحاني، وقال ظريف إنه "عقب انتشار صور الاجتماعات، لم يعد لجواد ظريف قيمة كوزير الخارجية أمام العالم".
الشاهد فيما سبق أن ظريف يشعر بأنه وزير خارجية الملف النووي فقط ولا علاقة له بملفات حيوية لبلاده مثل الملفين السوري والعراقي، حتى أن ظريف قال في تلك التسريبات "كان سليماني يفرض شروطه عند ذهابي لأي تفاوض مع الآخرين بشأن سوريا، وأنا لم اتمكن من اقناعه بطلباتي، وعلى سبيل المثال طلبت منه عدم استخدام الطيران المدني في سوريا ولكنه رفض".
ما يهمنا في هذا النقاش أن الرئيس السابق روحاني قد اعتبر وقتذاك أن الهدف الأساسي من وراء نشر التسريبات هو عرقلة أي نتائج قد تثمر عنها مفاوضات فيينا بشأن الاتفاق النووي، وقال إن نشر التسريب جاء "عندما كانت محادثات فيينا في أوج نجاحها"، وهذا التصريح قد اثار تكهنات بأن ثمة صراعات داخلية محتدمة قد نشبت داخل نظام الملالي، ولكن بعد تصريحات روحاني التي اعترف فيها بسرقة الأرشيف النووي يتأكد أن روحاني قد ذهب لأبعد مدى في مواجهة الحرس الثوري حين قرر رفع الستار عن ألـ "تابو" Taboo والصندوق الأسود للحرس باعتباره الجهة المسؤولة عن أمن المنشآت النووية الايرانية، فحديث روحاني يؤكد فشل قيادات الحرس في حماية أسرار البلاد النووية حيث تركوا مهمتهم الأساسية وتفرغوا لمناكفة ومزاحمة الساسة في أعمالهم وفرض القرارات عليهم وتبديد ثروات وموارد الشعب الايراني في مغامرات خارجية بضوء أخضر من المرشد الأعلى!.
المعضلة أن اعتراف روحاني يضعه في مواجهة مباشرة مع خامنئي كونه أعلى قمة هرم السلطة في البلاد، وهذا يعني أحد أمرين إما أن روحاني يدرك خطورة تصريحاته وعلى استعداد لدفع ثمنها أياً كان، أو أن المرشد الأعلى قد ضعفت قبضته على السلطة في البلاد بسبب مرضه وكبر سنه، وأن مراكز الحكم باتت متعددة ومتصارعة في الوقت ذاته، ومن بينها الحرس الثوري ذاته، وهي مسألة لا قد لا تعكس صراعات داخلية ولا انقسامات بالمفهوم السياسي التقليدي بقدر ماتعكس صراع أبناء النظام والثورة، أي أنها ليست صراعات بين موالين ومنشقين عن الثورة الخمينية ومبادئها، بل حول تكتيكات حمايتها ممن يعتبرونهم أعداء لهم جميعاً.
في المجمل، يمكن القطع بأن مسألة تهافت النظام الأمني الايراني الداخلي ليست بحاجة إلى دلائل، فهناك سرقات للأرشيف النووي وكذلك حرائق عديدة مجهولة الأسباب اندلعت في مؤسسات حيوية ايرانية، فضلاً عن اغتيال العالم النووي الايراني الأبرز محسن فخري زادة في قلب طهران، وغير ذلك من مظاهر الفشل الأمني، وبالتالي فأهمية الاعترافات الرسمية تكمن فيما وراء التوقيت، وهل يسعى روحاني لتبرئة ذمته من هذا الفشل لاسيما أنه لم يفلح في انجاز اتفاق يحقق عودة الولايات المتحدة للاتفاق النووي، ومن ثم يحاول رد الصاع صاعين للمتشددين والحرس الثوري بإظهار فضائحهم أمام الشعب الايراني الذي يعيش بالفعل حالة من الغضب العارم بسبب مشاكل نقص المياه في محافظات ايرانية عدة.
اعتراف روحاني جاء متأخراً، ولكن تفاعلاته لن تنتهي بخروج روحاني من السلطة، بل قد يكون الاعتراف مقدمة لتحولات كبرى لن تقتصر على الداخل الايراني، ويبقى السؤال الآن: هل لقرار الملالي الخاص بتوجيه ضربة لناقلة النفط الايرانية في بحر العرب مؤخراً علاقة باعترافات روحاني؟ بمعنى هل هناك علاقة محتملة بين غضب روحاني من العواقب المحتملة لهذا القرار الذي اتخذ بالتأكيد من جانب قيادة الحرس الثوري، وبين إعلانه عن هذا السر الأمني الخطير؟ وهل تسبب تجاهل رأيه في هذه العملية في مسارعته بكشف الغطاء عما يدور وراء الكواليس.