التصوف كما هو معلوم ليس مذهباً إسلامياً مستقلاً بذاته(مذهب في الفقه أو العقيدة)، إنما هو بكل اختصار يُعنى بالمرتبة الثالثة من مراتب الدين وهي الإحسان، فقد يكون هناك مسلم سني صوفي أو مسلم شيعي صوفي، بل حتى الأديان الأخرى نجد فيها التصوف كمنهج أو فلسفة.
َوالواقع أن من يحاربون التصوف الإسلامي يغلب عليهم الصنفين التاليين: صنف يحاربه بحجة الابتداع، وصنف آخر يحاربه لأنه يرى في التصوف دين بلا دنيا وهؤلاء هم أتباع الإسلام السياسي.
وهذان الصنفان قد يلتقيان وقد يختلفان، لكنهما يتفقان إلى حد كبير في جعل السياسة خاضعة للدين قدر المستطاع، الأول يحمل خطاب مؤقت بحسب ظروف كل مرحلة وعصر، أو بمعنى آخر لديه مرونة عالية في لي أعناق النصوص الدينية لتنسجم مع ما تتطلبه الظروف والمتغيرات، والثاني واضح وصريح ويذكر ذلك في خطاباته فهو يريد دولة تكون امتداد للخلافة الإسلامية(حزب الإخوان المسلمون عند السنة) أو دولة تحكم بولاية الفقيه(النظام الإيراني وما يتبع له من الأحزاب الشيعية في بعض الدول العربية).
وأكثر ما يعنينا هم الذين يحاربونه بحجة الابتداع، يأتون من هذا الجانب لينفِّروا الناس خاصتهم وعامتهم من التصوف الحقيقي، لأنهم يعلمون أن التصوف هو الصورة الحقيقية للدين بل هو غاية الدين، هذهِ الصورة تقصي تماماً الدين عن عالم السياسة والمصالح الدنيوية، وهذا ما لايريده أعداء التصوف. مع التأكيد على أن الطرق والحركات الهستيرية أو الأقوال الكفرية الصريحة التي ينطق أو يقوم بها بعض المنتسبين زوراً للتصوف، ليست من التصوف في شيء، بل إن التصوف منها ومنهم براء، فالقرآن وصحيح السنة النبوية هما المرجع والمعيار والذي بهما توزن الأقوال والأعمال.
ولا أجدني مضطراً إلى الرجوع إلى معاجم اللغة أو كتب الفقه للوقوف على المعنى الحقيقي للابتداع في الدين والمراد به، فيكفي أن نعود إلى الفطرة ونستنطقها لتخبرنا عن ماهية الابتداع.
الابتداع في الدين يعني أن يأتي أحدهم بقول أو عمل يخالف روح القرآن، أو يزيد في أركان الدين ويعبث بها إما تنطُّعاً أو جهلاً. أما الأوراد والذكر عموماً وإيجاد صيغ متعددة لذلك، ومرافقة ذلك بالموسيقى الصوفية والابتهالات، كل ذلك لا يُعد ابتداعاً في الدين، هذهِ التأملات والأقوال والأوراد صادرة ونابعة من أُناس أرواحهم عند العرش وأجسادهم على الأرض.
فلماذا نحرم أنفسنا من هذهِ التجارب الذوقية العميقة الرائعة والتي تنعكس بالإيجاب على مشاعرنا الروحية والنفسية والاجتماعية وتساهم في التقريب والتقارب بين البشر بمختلف مشاربهم؟!
والموسيقى والوجد والتمايل المعقول كلها نابعة من طبيعة الإنسان، فهي رد فعل طبيعي لموقف طبيعي، مثلاً نجد أنه بعد عودة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أصبح المسلمون يتغنون به مرحبين بقدومه بالقصيدة الشهيرة(طلع البدر علينا)، ولم ينكر عليهم ذلك،
مشاعرهم تجسدت في تلك الأبيات وأجزم أنه قد ترافق معها بعض التمايل والحركات التي تعبر عن الابتهاج والفرح.
إن التصوف عند النظر إليه من منطلق التعبير عن الحب والعشق الإلهي(سواءً كان هذا التعبير ورد فيه نص قرآني أو نبوي أم أنه من عمل الشخص المسلم)، فإننا نجد له أصلاً في التراث الإسلامي. حيث نجد أن أحد الصحابة رضوان الله عليهم كان يحافظ على قراءة سورة الإخلاص في كل صلاة، فاشتكاه بعض الصحابة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وسأله النبي عن السبب الذي جعله يلتزم بقراءة هذهِ السورة، فأجاب: (إني أحبها)،
فقال عليه السلام: (حبك إياها أدخلك الجنة).
فهل ورد هناك آية قرآنية أو حديث نبوي فيه أمر أو إشارة إلى ضرورة تكرار سورة الإخلاص في كل صلاة؟
نعلم جميعاً أنه لايوجد هناك أي نص قرآني أو نبوي، بالإضافة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليه ذلك بحجة الابتداع في الدين.
فهل أنتم أكثر خوفاً على الدين من نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؟! لماذا لم ينكر عليه الرسول ذلك؟
كذلك ما يتعلق بالاحتفال بالمولد النبوي، فإنه عند استقراء الآيات الكريمة الواردة في الثناء على نبينا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، نجد أنها تشير إلى مكانة هذا النبي العظيم وسيد ولد آدم أجمعين. ولو لم يرد فيها سوى قوله تعالى(إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما) لكان ذلك كافياً! حيث نجد أن الله وملائكته لم يصلّوا على نبيٍ قط في آية واضحة وصريحة سوى محمد صلى الله عليه وسلم، وفي هذا دلالة على اصطفاء هذا النبي دون غيره، فيه دلالة على أن له مكانة خاصة عند الله لم ينلها بشرٌ قط أو حتى ملاك!
فكيف يأتي بعد هذا من ينكر التصوف وبما فيه من احتفالات وحضرات وعلى رأسها المولد النبوي؟
إن الاحتفاء به هو نوع من الصلاة والسلام عليه التي أمرنا الله بها في قوله(صلوا عليه وسلموا تسليما).
في كلمة أعجبتني للإمام مالك رحمه الله(يُنسب إليه هذا القول دون الجزم) عندما سُئل: "أأستقبل القبلة وأدعو أم أستقبل رسول الله؟ فقال مالك: ولمَ تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى الله تعالى يوم القيامة؟
بل استقبله واستشفع به، فيشفعك الله، قال تعالى(ولو أنهم إِذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيما)".
...