أخيراً وبعد شد وجذب مطول، أعلن نظام الملالي الايراني عن موافقته على المشاركة في مفاوضات تعقد في فيينا في 29 نوفمبر الجاري مع ممثلي "4+1" (الصين وروسيا وألمانيا وفرنسا وبريطانيا) بمشاركة أمريكية غبر مباشرة، وقال كبير المفاوضين الايرانيين علي باقري قاني أن بلاده وافقت على "البدء بالمفاوضات الهادفة إلى إزالة العقوبات المجحفة وغير الانسانية"، ومن ناحيته قال المتحدث باسم الخارجية الأمريكية نيد برايس إنه بالامكان التوصل سريعاً إلى اتفاق إن كان ممثلو إيران "جادين".

هذا الاعلان ليس مفاجئاً في ضوء متابعة التطورات المتسارعة التي شهدها ملف أزمة البرنامج النووي الايراني خلال الأسبوعين الماضيين، واعتقد أن تشديد لهجة الخطاب السياسي الأمريكي في الآونة الأخيرة وتحديداً بعد بروز الحديث الاسرائيلي الأمريكي عن الخطة "ب" أو الخطة البديلة لوقف التهديد النووي الايراني في حال فشل الجهود الرامية لإحياء الاتفاق النووي الموقع عام 2015؛ فقد أظهرت المواقف والتصريحات الايرانية مايشير إلى وجود دور للتغير النسبي في نبرة الخطاب السياسي الامريكي في تحريك الموقف الايراني ودفعه للموافقة على العودة للمفاوضات، حيث أشار المتحدث باسم الخارجية الايرانية سعيد خطيب زادة إلى أن إطلاق التهديدات لم يعد مجدياً في التعامل مع إيران، وأضاف خطيب زاده إن "الخيارات الأميركية المطروحة، ثبت فشلها في المنطقة سابقاً، مشيراً إلى أن أميركا جربت الهزائم الكارثية الناجمة عن اختبار خياراتها والعالم كان شاهداً على ماخلفته هذه الهزائم الفاضحة من نتائج"، وكان زادة يُعقب هنا على تصريح أدلى به وزير الخارجية الأمريكي بلينكن بشأن وضع الخيارات الأمريكية جميعها على الطاولة، واللافت هنا أن تصريحات زادة قد جاءت عقب الاعلان عن الموافقة على الذهاب إلى فيينا نهاية الشهر الجاري، مايوضح بجلاء قوة الارتباط بين التغير النسبي في لهجة الخطاب الأمريكي من ناحية وتغير الموقف الايراني من ناحية ثانية، لاسيما أن الرئيس بايدن يركز على بناء توافق قوي مع فرنسا وألمانيا وبريطانيا بشأن ضرورة عودة الملالي للالتزام بالاتفاق النووي، وهي قاعدة داعمة لأي تحرك أمريكي ضاغط على النظام الايراني.

ورقد أشرت سابقاً إلى أنه رغم تفضيل إدارة الرئيس بايدن ـ حتى الآن ـ للخيار الدبلوماسي في التعامل مع الملف النووي الايراني، فإن مراوغات الملالي قد وضعت البيت الأبيض في موقف حرج استراتيجي للغاية، وأظهرت الرئيس بايدن وكأنه عاجز عن تبني خيارات استراتيجية بديلة تحفظ للولايات المتحدة هيبتها ومكانتها وقدرتها على حماية أقرب حلفائها، اسرائيل، وهو ماأسهم بشكل متسارع في تقارب الموقفين الأمريكي والاسرائيلي، ووقفهما على أرضية مشتركة، لاسيما أن الولايات المتحدة لم تعد تستطيع الدفاع عن رهانها الحصري على الدبلوماسية في التعامل مع التهديد النووي الايراني.

الحقيقة أن موافقة الملالي على استئناف مفاوضات فيينا ليست كغيرها من المرات السابقة، لأن متشددي حكومة ابراهيم رئيسي ليست لديهم الخبرات السياسية والتفاوضية التي كان يمتلكها الفريق التفاوضي السابق بقيادة جواد ظريف، لذا فإن الفريق الحالي يتمترس وراء لغة الخطاب التصعيدي المتشدد، ويحاول التركيز على كسب المعركة إعلامياً أكثر من كسبها تفاوضياً، وهذا بحد ذاته يعكس محدودية القدرات التفاوضية لهذا الفريق، الذي اعتقد أن نجاحه في الحصول على مايريد سيتحقق في حالة واحدة هي اذعان الولايات المتحدة للشروط والاملاءات الايرانية من دون مقابل، وهذه مسألة يصعب القطع بامكانية تحققها، وإن كانت واردة بنسبة ما في ظل ميل البيت الابيض الواضح لتحقيق انتصار سياسي ملموس بعد سلسلة من الاخفاقات المتوالية في إدارة قضايا السياسة الخارجية.

قناعتي أنه لا يمكن الوثوق كثيراً في الخطب الرنانة التي تتوارد على لسان قادة نظام الملالي، فالكثيرون يعلمون أن المقصود بها دغدغة مشاعر الداخل الايراني وتحقيق انتصارات دعائية في عيون مؤيدي النظام، لاسيما أن معظم أعضاء هذا الفريق يفتقرون إلى الخبرات التي امتلكها أسلافهم، ما يدفعهم إلى السعي الدائم للظهور بمظهر التشدد بغض النظر عن الحسابات ووجهات النظر والمواقف الحقيقية التي يظهرونها على مائدة التفاوض.

اعتقد كذلك أن رؤية الحكومة الاسرائيلية الحالية بشأن صعوبة التوصل إلى تفاهم لإحياء الاتفاق النووي بصيغته الحالية، لها حظوظ معقولة للتحقق لاسيما أن الواقع النووي الايراني قد ابتعد كثيراً عن الواقع الذي انطلق منه اتفاق 2015، بشهادة الوكالة الدولية للطاقة الذرية، التي اعتبرت في وقت سابق أن "الجني قد شارف على الخروج من القمقم"، فضلاً عن أن الشروط المتشددة التي يضعها الفريق التفاوضي الايراني الحالي تضع المفاوض الأمريكي في موقف لا يحفظ له ماء الوجه، حيث يسعى الملالي لانتزاع رفع كامل للعقوبات الأمريكية قبل الموافقة على العودة للاتفاق النووي.

وفي ضوء تطورات المواقف والملابسات والبيئة التفاوضية التي ينطلق منها طرفي الأزمة ـ إيران والولايات المتحدة ـ يمكن القول أن جهود الوسطاء الأوروبيين ستركز على اقناع الجانبين بعودة متزامنة للاتفاق النووي، أو تطبيق صيغة الخطوة مقابل خطوة، بحيث يحفظ كل طرف ماء وجهه في مفاوضات قد تجري وفق صيغة win-win gameوهي الاقرب للتحقق شريطة توافر "نوايا ايرانية حسنة" كما يقول الجانب الأمريكي.