لم تعد ركضة طويريج، التي يقوم بها زوار الإمام الحسين في ذكرى عاشوراء، شَعيرة حسينية أو طقساً شيعياً، بل باتت تراثاً عراقياً جامعاً لكل العراقيين رغم دلالاته الشيعية والدينية، فقد شارك فيها خلال مراحل التأريخ المختلفة الشيعي والسني والعربي والكردي والتركماني والمسيحي واﻻيزيدي والصابئي، كونها طقس طبيعي ليس فيه خروج مبالغ عن المألوف، يُسَخّر الركض الذي تعتمده كثير من الشعوب في طقوسها الدينية ومهرجاناتها الثقافية، كوسيلة للتعبير عن الإستجابة للنداء الذي يُنسَب الى الإمام الحسين في يوم عاشوراء: "ألا من ناصر ينصرني"، وتنفيساً عن عقدة التقاعس والخذلان الذي سجله التأريخ لِمَن بايعوه وإستنجدوا به ضد يزيد حينها، ثم غدروه في ساعة الجد وساحة المعركة!

ورغم أن بعض الأنظمة السياسية العراقية حاولت منع تأدية طقوس عاشوراء، وأغلب الشعائر الحسينية، لسنوات، لأسباب لا مجال هنا للخوض فيها، إلا أنها سرعان ما عادت للظهور بعد 2003 بشكل مبالغ فيه أكثر مما كان موجوداً قبل منعها، بل وأضاف اليها الوعي الجمعي العراقي المُعَبأ بالأوهام والخزعبلات، والمُنهَك بسنوات القَمع والمَنع، وبتحريض من المؤسسات الدينية وأحزابها التي تسعى لتجهيله لإدامة سلطتها على مقدراته وسطوتها على عقول أفراده، طقوساً جديدة دخيلة مشوهة منافية للعقل والمنطق، مُسيئة لذكرى الحدث وشخوصه، أفرغت ذكراه من محتواها، وحوّلت إستذكاره السنوي الى مُتَنَفّس لعُقد المجتمع وأمراضه، بعيداً عَمّا يمثله من قيَم رمزية للإيثار والوقوف بوجه الباطل. بالتالي أثبت المَنع بأنه ليس حلاً، لأن ما ترسخ في وجدان الناس ليس من السهل إقتلاعه بالقوة والقمع، فمتى ما زال القمع ظهر الى السطح مع تراكماته. ولأن ركضة طويريج هي من طقوس عاشوراء التراثية، الى جانب مجالس العزاء وطبخ الطعام وتوزيعه على الفقراء، التي ما تزال تمارس الى جانب ما ذكرناه من الطقوس الدخيلة، لذا بات لزاماً تمييزها عنها، وعدم وضعها جميعاً في خانة واحدة ومحاربتها بالمُجمَل، حتى في حال زوال الظروف المشوهة الحالية، وأستعادة الوضع السياسي والمجتمعي العراقي لعافيته، وهو أمر صعب الحدوث حالياً، لأنها ليست طقوساً مُشَوّهة، ومؤذية للنفس والجسد كتطبير الرأس والزحف على الأرض والتمَرّغ بالوَحل وضرب الزنجيل على الظهر والصدر مثلاً، وغيرها من طقوس لا عقلانية هستيرية بدأت تجتاح المجتمع العراقي وتأخذ صفة القداسة في نفوس أفراده العليلة، بل هي مُتَنَفّس روحي يمنح هذه النفوس بعضاً من الإطمئنان الروحي الذي تحتاجه، وهو أمر موجود في كل دول العالم، حتى المُتقدمة منها.

لذا ينبغي بالعُقلاء من القائمين على العتبات المقدسة، إن وجدوا! وإن وُجِدوا فهُم قلة، وعلى رأسهم الدولة بمَن بقي فيها من عقلاء، إن وُجِدوا، الإهتمام بهذه الفعالية وتنظيمها بشكل يضمن سلاسة ممارساتها وسلامة المشاركين فيها، خصوصاً قرب ضريح اﻻمام الحسين، إذ ينبغي إعتماد آليات وحواجز تدريجية للسيطرة على زخم الحشود وإمتصاصها قبل أن تبدأ بالتكدس عشوائياً في الطريق المؤدي لأبواب الصحن، لمنع وتجنب حالات التدافع، التي قد تؤدي لحوادث مأساوية مؤسفة قد يذهب ضحيتها عشرات أو مئات، كما يحدث بين الحين والآخر عند أبواب الضريح، والذين تكتفي المرجعية وأحزابها عادة بأن تطلق عليهم صفة الشهداء لتخدير مشاعر أهاليهم وإمتصاص نقمتهم، وإبعاد التركيز والعين عن الإهمال المُتعَمّد الذي تسَبّب بموتهم، وعن المُقَصّرالحقيقي الذي يقف وراءه شخوصاً ومؤسسات. لكن في عالم الواقع لن تعيد هذه الصفة لمَن رحلوا أرواحهم التي تذهب هباءاً بسبب التقصير والإهمال، ولن تعيدهم لعوائلهم التي كانوا يُظِلّونها ويعيلونها، والذين ستُعَوّضهم الجهات المسؤولة بتفاليس لتنساهم بعد أيام، وكل هذا ما كان له أن يحدث يوماً، لو تم تخصيص جزء من المليارات التي تدرها زيارة الأربعين، أو تشفط من جيوب الناس بإسم الخُمس، لدراسة السُبل المناسبة لتنظيم هذه الشعيرة بما يضمن سلامتهم، ولو من باب المثل العراقي القائل "مِن لحم ثوره أطعمه" خصوصاً أنها تقام منذ مئات السنين دوريا وبشكل سَنوي، وهي نفسها تدُر على مُنظّميها المليارات! ولكن للأسف حاميها حراميها، وإلا لو كان ما يدخل لكربلاء والنجف من أموال يوضع في مكانه الصحيح، لباتتا اليوم كالفاتيكان، مُدن حديثة فيها كل وسائل الراحة والسياحة والزيارة الأمنة.

يقال بأنه في زمن غابر كان يَنعُم فيه الناس بالأمن والأمان، كانت قوافل الزوار من أهالي بغداد، أو من أهالي مدن شمال وغرب العراق المارة ببغداد، والمتجهة سيراً الى طويريج للمشاركة في ركضتها الى كربلاء، تمُر ضِمن خط سَيرها على بيت الملك علي بن الحسين، الأخ الأكبر للملك المؤسس فيصل الأول، لتُعَزّيه بوفاة جدّه الإمام الحسين، بإعتباره عميد الأسرة الهاشمية آنذاك، والذي كان يخرج إليهم في الشرفة ليُحييهم ويتقبل منهم العزاء في جده الإمام الحسين، فيومها كانت الأمور تسير عادة بسلام، وكانت الناس تمارس طقوسها بإنتظام، وكان الحكام يشاركون العوام بعض هذه الطقوس إحترماً لمشاعرهم، ما دامت لا تضر ولا تسيء ولا تخالف القانون ولا تُخِل بالأمن ولا توَظّف سياسياً. ربما في زمن قادم سينعم فيه الناس بالأمن والأمان، يَراه البعض قريباً وأراه بعيداً جداً، ستأتي أجيال سَوية ليسَت كالعليلة الحالية، تعيد قراءة التأريخ بكل تناقضاته وسلبياته وإيجابياته، ومنها الطقوس الحسينية، لتُهَذِّبها وتجعل منها تراثاً مجتمعياً مُنَظّماً يشارك فيه من يشارك، لكن بعقلانية، دون هستيريا طائفية! ودون حوادث تعَكِّر صفو أجواءه! ودون أن تتعطل فيه مصالح الناس وتتوقف أعمالهم في طول البلاد وعرضها، بلا مُبَرّر، لثُلث أيام السنة! ودون أن ينظر العالم بسببه الى مجتمعنا إستهجاناً وشَزراً، بسبب ممارسات مشوهة لا عقلانية باتت تتكرر وتتفاقهم، وتزداد تشَوّهاً وفوضوية عاماً بعد عام! وأخيراً وليس أخراً، تمنع إستغلاله من قبل المؤسسات الدينية والقوى الإسلامية الباطنية، ومَن يحركها من الخارج، كوسيلة إستعراض للعضلات أمام بقية المكونات وإستفزازها، أو تجهيل للناس كما يجري الآن، أو زعزعة لإستقرار البلد والمجتمع كما حدث في السبعينات. فالأجيال المأزومة الحالية، وبمُمارساتها الحالية، الغير سَوية مع نفسها، والمُستفزة لغيرها، لا تنظر الى أبعد من أنفها، ولا تؤسس لأرضية عَيش مشترك مع شركائها في الوطن.

وتبقى ركضة طويريج جزء من تراث مجتمعي متوارث ينبغي تمييزه عن غيره من عبث مرتبط بطقوس إنفعالية غوغائية، كتطبير الرؤوس وضرب الزنجيل، هذا إذا أردنا التواصل مع مجتمعنا والتحدث معه بلغته وإصلاحه بحق، وليس بالتنظير من أبراج عاجية بخطاب مُعقد مُتعال يدعوا لنَسف كل ما يؤمن به هذا المجتمع مرة واحدة، وهو ما سيدفعه الى التمسك أكثر بالدين وخزعبلاته، وسنكون حينها قد ساهمنا في دفعه بإتجاهها، بدل إبعاده عن السيء منها، وإبقاء المعقول منها، وما تربى عليه من تقاليد باتت جزئاً من ثقافته المجتمعية.


[email protected]