لا أتوقع أن أحداً من العرب مهما بلغت بساطةُ معرفته لم يسمع من قبل بمقامات بديع الزمان الهمذاني، وهي من خيرة ما وصل إلينا من أدب العرب، كتبها أبو الفضل أحمد بن الحسين المعروف ببديع الزمان، وهي عبارةٌ عن قطعٍ نثريةٍ قصيرة ابتدعها كاتبها لغرض الطرفة بمنتهى الجمال اللغوي والإبداع السجعي، وضمنها ببضعة أبياتٍ من الشعر على مختلف البحور الشعرية، وهو يصفُ بها نوادر الأحداث مما تخيلهُ وألفه كنوعٍ من أنواع الفنتازيا الطريفة ذات الوقائع الظريفة.
لكن من قرأ هذه المقامات يجدُ بينها عاملاً مشتركاً في معظمها، وهو أن القصص تبدأ بأن يُحدث رجلٌ اسمهُ (عيسى بن هشام) عن القصة، فيكون اسمه افتتاحاً للمقامة، وهذا كتناقل للقصة من رجلٍ إلى رجل وهو وارد في معظم المرويات العربية وخصوصاً الدينية منها.
أما العاملُ المشترك الثاني وهو محور حديثي هنا، فهو أن هناك دائماً أحدٌ محتال تحومُ حولهُ المقامة، يقومُ باستجداء عواطف الناس لغرض الكسب، أو الاحتيالِ عليهم لغرض إفراغِ ما بجيوبهم لجيبه، لكنه يقومُ بذلك بمنتهى الذكاء والحنكة، فيعطيه الناس وهم راضون، هذا الرجل هو أبو الفتح الاسكندراني، ففي كل مقامة يلتقي عيسى بن هشام برجلٍ متنكر يقوم بالكسب بهذه الطريقة، ثم في نهايتها يكتشف أنه أبو الفتح الاسكندراني ذاته الذي التقاه محتالاً في مقامةٍ سابقة!!
أبو الفتح الاسكندراني هذا يذكرني بالسياسيين العراقيين، فهو يحتالُ في كل مرةٍ عليهم بحيلةٍ جديدة، فتارةً يقنع السياسي العراقي الناخبين بانتخابه عن طريق الاحتيال بتسميات الدين والمذهب، وتارةً يقنعهم بأنه رأى شخصيةً دينية في المنام تطلب منه الترشح للانتخابات لأنه أمل الأمة!! وتارةً ثالثة يخبر الناس بأنه إن لم يتم انتخابه فإن المذهب سيؤول إلى الفناء والزوال، وهكذا دواليك، فهي نفس الحيل التي يقوم بها أبو الفتح الاسكندراني لغرض الفوز بما بجيوب الناس والاستيلاء عليه بمنتهى الدهاء، سوى أن أساليب أبو الفتح أدهى بكثير من أساليب السياسيين العراقيين، فهو محتالٌ بذكاء، أما هم فتنجح حيلهم لأن جمهورهم ضعيف الاستيعاب، تمر عليه الحيل فلا يدركها، ويلدغ من الجحر الف مرةٍ ومرة.
يقول بديع الزمان في أبياتٍ وردت في المقامة الغيلانية بما وجدتُهُ ينطبق على ساسة العراق:
هم القومُ لا يألمون الهجاء
وهل يألم الحجر اليابسُ؟
فما لهمُ فى الفلا راكبٌ
ولا لهمُ فى الوغى فارسُ
إذا طمح الناس للمكرمات
فطرفهم المُطرقُ الناعسُ
تعاف الأكارم إصهارهم
فكل أياماهمُ عانسُ
التعليقات