باختتام القمة العربية رقم 32 في جدة يوم أمس 19 مايو الجاري، يمكن القول أن هذه القمة ستفتتح فصلاً جديداً في العمل العربي المشترك، يعكس إرادة مختلفةً وتغييراً واعداً بارتياد آفاق غير مسبوقة لذلك العمل، ترتكز على دعم التغيير والاستقرار في المنطقة بعد سنوات من الفوضى التي ضربت بعض بلدان المنطقة العربية خلال ما سمي بالربيع العربي منذ العام 2011.

وتنبع إرادة دعم التغيير بحثاً عن الاستقرار بالمنطقة العربية في ظل واقع دولي متغير، ومناخ عالمي فرضته تحولات عديدة ووقائع جديدة، لا يمكن اليوم في ظلها أي امكانية لاستمرار الأوضاع على ما كانت عليه قبل سنوات.

ولعل مشاركة الرئيس الأوكراني فولادمير زيلنسكي، من ناحية، والرئيس السوري بشار الأسد، بعد غياب 12 عاماً، من ناحية ثانية، تعكس جدية التحديات التي تضطلع بها أجندة قمة جدة 32.

فمن الواضح اليوم أن العرب أصبحوا مدركين على نحو غير مسبوق لضرورة استئناف صناعة الاستقرار في المنطقة بعد أكثر من عقد ضربت فيه الاضطرابات بلداناً عربية عديدة، بما بدا معه في حكم المؤكد أن ترك الأمور على ما هي عليه من اضطراب في تلك البلدان العربية سينعكس سلباً على كافة دول المنطقة، لذا فإن الاتجاه نحو التغيير ودعم الاستقرار كأجندة أولى لهذه القمة هو الرهان الحقيقي الذي يتجاوز في تطلعاته المنطقة العربية إلى مساهمة عربية جادة في السلم الإقليمي والدولي.

لقد أدرك القائمون على أجندة قمة جدة 32 بأن المصالح الأمنية اليوم في منطقة عربية تتوسط العالم وتمر عبرها أهم خطوط إمدادات الطاقة العالمية، تقتضي تعاونا وقرارات وتنسيقاً مع العديد من صانعي القرار العالمي على نحو يتوخى مصلحة الاستقرار في المنطقة العربية قبل كل شيء ولكن ضمن صيغة تنظر إلى أهمية التعاون المشترك كمرجعية لا بد منها للتعاون مع الدول الكبرى في العالم بما يضمن استتباب الأمن لكل الدول التي تتشابك مصالحها الحيوية في المنطقة.

لقد أصبح عالم اليوم على نحو بالغ ومؤثر من التشابك والتعقيد بحيث يقتضي فيه الحفاظ على المصالح المشتركة استراتيجيات محكمة بدرجة كبيرة، فعالم اليوم بعد حدث الحرب الروسية الأوكرانية أصبح عالماً يسمح بالكثير من المعادلات والمتغيرات التي يمكنها تسجيل اختراق كبير، على نحو ما رأينا في الجهود الدبلوماسية الناجحة لدولة الصين في رعاية الاتفاق التاريخي بين كل من المملكة العربية السعودية، والجمهورية الإيرانية، وهو اتفاق تم انضاجه برؤية جديدة تربط السلم والاستقرار بالمصالح التجارية الوازنة لكل من السعودية وإيران مع الصين.

فمن المعروف أن الصين وقعت قبل أكثر من عام معاهدة استراتيجية تاريخية بينها وبين إيران ستستمر لربع قرن في العديد من مجالات التعاون الاستراتيجي بين الصين وإيران، كما أن الصين عقدت في الرياض قبل شهور القمة الصينية العربية التي استضافتها الرياض بنجاح من أجل تطوير علاقات جديدة في سبيل استراتيجية سلمية تقترح الحفاظ على السلم من أجل حماية المصالح التجارية المشتركة.

وهكذا فإن الصين كضامن دولي للاتفاق بين المملكة العربية السعودية وإيران تفتتح فصلاً جديداً في مقاربة وحلحلة أوضاع المنطقة من منطلق المصالح المشتركة، لأن الصين تدرك تماماً أن عالم اليوم هو عالم المصالح المشتركة. ومن هذا الباب ستضمن رعاية ناجحة للاتفاق السياسي بين المملكة العربية السعودية بما يساعد في حلحلة أوضاع المنطقة في أكثر من دولة عربية نحو الاستقرار.

إن هذه القمة العربية 32 التي استضافتها مدينة جدة يوم أمس هي ترجمة لهذه الروح الجديدة نحو حماية الأمن والاستقرار عبر حماية المصالح المشتركة لبلدان المنطقة العربية والإقليمية، ومن هنا كانت مشاركة كل من الرئيس السوري بشار الأسد والرئيس الأوكراني زيلنسكي، في هذه القمة لتعزيز تلك الرؤية التي ستجعل من قيمة الاستقرار وضمان السلم في المنطقة عبر شراكة محورية مع دول كبيرة في العالم مثل الصين أولوية كبرى، لأن الزلازل التي شهدتها المنطقة العربية من تداعيات ما سمي بالربيع العربية بدا واضحاً اليوم أنها كانت تجربة خصمت كثيراً من استقرار السلم في المنطقة العربية بل هددت السلم الدولي كذلك.

ستقود المملكة العربية السعودية لعام كامل منظومة العمل العربي المشترك وفي أجندتها العديد من مستهدفات قمة جدة 32، كدعم الاستقرار في سوريا وعودة المهجرين واللاجئين فيها بما يضمن استتباب الأمن لهم، وكذلك الاستمرار في رعاية المبادرة الأمريكية السعودية من أجل السودان لوقف الاقتتال الدائر منذ شهر بين الجيش والدعم السريع، وهو اقتتال ينذر بكارثة كبيرة لا سمح الله حال استمرار الحرب لشهور أخرى، وتسخر المملكة العربية السعودية كل جهودها في سبيل الحيلولة دون استمرار القتال، والعودة بين الفرقاء السودانيين إلى طاولة الحوار دعماً للحل السياسي الذي لا يمكن أن يصار إليه إلا بالحوار السياسي والحل السياسي.

كما تدرك المملكة العربية السعودية مركزية القضية الفلسطينية وأهميتها، لاسيما في ظل توترات العنف التي اندلعت منذ أيام في الأراضي المحتلة.

وبإلقاء نظرة سريعة على بيان إعلان قمة جدة 32 سنجد للمرة الأولى حديثاً مختلفاً في محتوى وطبيعة الإعلان الذي تطرق لجوانب استراتيجية وثقافية ستلعب دوراً بارزاً في تحسين الكثير من جهود العمل العربي المشترك.

فإعلان قمة جدة 32 الذي جاءت فيه بنود تتحدث عن الالتزام والاعتزاز بالقيم و الثقافة القائمة على الحوار والتسامح والانفتاح، وعدم التدخل في شؤون الآخرين، لهو أمر مهم جداً وحيوي، كذلك نرى مبادرات جديدة تضمنها إعلان جدة ضمن الجهود الجبارة التي ستضطلع بها المملكة العربية السعودية لعام كامل من قيادة للعمل العربي المشترك، كمبادرة تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها التي تستهدف أبناء الجيل الثاني والثالث من المهاجرين العرب في العديد من البلدان بما يسهم في تعزيز التواصل الحضاري بين الدول العربية والعالم.

وكذلك، مبادرة الثقافة والمستقبل الأخضر التي تهدف إلى رفع مستوى التزام القطاع الثقافي في الدول العربية تجاه أهداف التنمية المستدامة، وتطوير السياسات الثقافية المرتبطة بالاستدامة، بالإضافة إلى المساهمة في دعم الممارسات الثقافية الصديقة للبيئة وتوظيفها في دعم الاقتصاد الإبداعي في الدول العربية.

إلى جانب مبادرة استدامة سلاسل إمداد السلع الغذائية الأساسية للدول العربية، التي تعتمد بشكل أساسي على مجموعة من الأنشطة وتوفير فرص استثمارية ذات جدوى اقتصادية ومالية تساهم في تحقيق الأمن الغذائي لدول الوطن العربي، والمساهمة الفاعلة في تلبية احتياجات الدول العربية من السلع الغذائية.

ومبادرة إنشاء حاوية فكرية للبحوث والدراسات في الاستدامة والتنمية الاقتصادية والتي من شأنها احتضان التوجهات والأفكار الجديدة في مجال التنمية المستدامة وتسليط الضوء على أهمية مبادرات التنمية المستدامة في المنطقة العربية لتعزيز الاهتمام المشترك ومتعدد الأطراف بالتعاون البحثي وإبرام شراكات استراتيجية.

كل هذه الوعود التي ستشتغل المملكة العربية السعودية على انجازها خلال عام كامل، إنما هدفها، رغم تعدد مجالاتها، يصب في دعم استقرار المنطقة العربية والعالم. لأن إعادة واستئناف السلم والاستقرار هو الخيار الاستراتيجي الذي تسعى المملكة العربية السعودية للاضطلاع بها بعد زلازل كثيرة ضربت الاستقرار في الدول العربية وآخرها كانت الحرب الجارية منذ أكثر من شهر في السودان.