يعيش العالم اليوم، خصوصاً بعد الحرب الروسية الأوكرانية، أوضاعاً تهدد مستقبل النفوذ فيه بصورة يختلف فيها الوضع عن العالم الذي كنا نعرفه من قبل، لاسيما وأن الحرب التي تدور هناك هي حرب تحدث لمرة أولى منذ الحرب العالمية الثانية بالقرب من أبواب أوروبا الغربية – قلب العالم – وبالتالي فإن الانخراط الذي يعكس وحدة الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة في دعم أوكرانيا دعماً مطلقا في هذه الحرب سيفسر لنا الكثير مما يخشاه الغرب من انتقال محتمل للحرب إلى قلب أوروبا من خلال التداعيات التي يمكن أن تنعكس جراء هذا الدعم اللا محدود لأوكرانيا.
كما أن حلف الناتو (الذي يعتبر اليوم بصورة أو أخرى من أسباب تدخل روسيا بالحرب ضد أوكرانيا خشية أن تنضم الأخيرة إلى الحلف فتضع خطر تمدد الحلف على أبواب موسكو) لا يزال يراقب أوضاع الحرب دون أن يتدخل فيها.
البعض يراهن على أن هذه الحرب الروسية الأوكرانية ستحدث تغييرات في العديد من صور التحالفات الاستراتيجية التي كان يشهدها العالم من قبل، لأن انشغال الولايات المتحدة وأوروبا الغربية بالحرب الروسية الأوكرانية سيحرر بعض القوى العالمية كالصين تبعاً لتخفيف النفوذ الأمريكي الذي كان يحدد أطرافاً معينة في العالم كمناطق لتبادل المصالح الاستراتيجية، كالخليج، والقرن الأفريقي، ومنطقة تايوان. لكن هذا يعني اليوم - بعد هذه الحرب الروسية الأوكرانية - أن هناك محاور كثيرة ستتحرك على وقع خطى نتائج الحرب الروسية الأوكرانية، بل يمكن القول أن تحركات قوى عالمية قد بدأت بالفعل استباقاً لما يمكن أن يترتب على مجرد اشتعال هذه الحرب.
فالصين التي تدرك تماماً أن تايوان جزءاً لا يتجزأ منها، وأن تايوان في ظل نفوذ وحماية الولايات المتحدة تشكل استفزازاً كبيراً لها ولهويتها ونظامها، تنتظر نتائج الحرب الروسية الأوكرانية بترقب قد يصب في مصلحتها، حال نجاح روسيا في هزيمة أوكرانيا أو اقتطاع جزءاً من أراضيها، فتايوان اليوم هي دولة تحت حماية أمريكا ولا وجود لها في عضوية الأمم المتحدة، كدولة ذات شخصية اعتبارية، وهذا الوضع الذي قبلت به الصين تحت ضغط الولايات المتحدة، مقابل حصولها على مقعد تايوان في مجلس الأمن في العام 1971 لكن لا تزال الصين ترى بإمكانها انتهاز أي فرصة لاهتزاز النظام الدولي كي تضم جمهورية تايوان.
ونلاحظ كذلك من آثار تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، دخول الصين في خط النفوذ الأمريكي في أكثر من منطقة، ولعل الاتفاق السياسي الذي رعته الصين بين كل من المملكة العربية و إيران هو أثر ظاهر من تحولات في المحاور يشهدها عالم اليوم.
ولقد كانت المملكة العربية السعودية سباقةً في حرصها الكبير لرعاية وضمان أمنها القومي ومصالحها الاستراتيجية بما يعجل لها امتيازاً وحريةً في الانفتاح على علاقات مع محاور متعددة من دول العالم، لأن قراءتها لتطورات الأوضاع العالمية فرض على صناعي القرار في المملكة تنويعاً في العلاقات مع دول العالم، وهو خيار ذكي لا يلغي أولويات المصالح وترابيتها بحسب الأهمية ولكنه في الوقت ذاته يمنح المملكة أفقاً وساعاً لضمان مصالها وأمنها مع دول العالم كافة.
فاليوم في ظل الصراع الكبير داخل أوروبا بين كل من أوكرانيا وروسيا، وانخراط كل من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة في الاصطفاف مع أوكرانيا، تظل هناك حاجة إلى الصين لضمان السلم والأمن العالميين انطلاقاً قدرتها على بلورة مبادرة سلمية للصراع للحرب الروسية الأوكرانية، ويبدو أن الرئيس الأوكراني فولادمير زيلنسكي متقبلاً مبدئياً لدور صيني في حل هذا الصراع، مع بوادر انفتاح أمريكي أوروبي متحفظ على وساطة صينية للوصول إلى اتفاق ينهي هذه الحرب التي تهدد السلم والأمن الدوليين، كما لم يتهدد من قبل منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
هل سيعني نجاح الصين في قيادة اتفاق سلمي ينهي الحرب الروسية الأوكرانية؛ بداية نفوذ أكبر للصين على حساب النفوذ الأمريكي بطريقة يمكن القول معها بأفول النفوذ الأمريكي في العالم؟
في تقديرنا أن الأمر سيكون سابقاً لأوانه ولا يخلو من تسرع، إذ أن النفوذ الأمريكي في العالم فضلاً عن كونه نفوذاً متفوقاً في العديد من الحالات المتصلة بالتكنولوجيا والاقتصاد والقوة العسكرية والنظام السياسي، فهو كذلك نفوذ تعززه القوة الناعمة التي تميزت بها الولايات المتحدة الأمريكية في العديد من الجوانب كاللغة الانجليزية، والتصورات العامة للحياة من خلال نموذج العولمة، إلى جانب الدعاية الكبيرة للسينما والحياة الأمريكية، فكل هذه المؤثرات تجعل من النفوذ الأمريكي اليوم في العالم لا يزال محتفظاً بأوراق كثيرة لصالحه.
لكن هذه لا يعني أنه ليست هناك مهددات صينية لمقاومة هذا التفوق على مستوى العالم في العقود القادمة وعلى المدى الطويل في جوانب التجارة العالمية والمنافسة الهادئة في سياسات كسب المحاور الجديدة عبر مقايضات تدرك الصين أهميتها في العلاقة مع الولايات المتحدة، ونعتقد أن هذه الحرب الروسية الأوكرانية من أهم الأسباب التي سرعت بكسب الصين لمناطق نفوذ جديدة في العالم على هامش الصراع الروسي الأوكراني لعلمها أن مثل هذا الصراع الخطير سيحتاج إلى وساطتها في إنهائه بما لديها من علاقة جيدة مع كل من روسيا وأوكرانيا، عاجلاً أم آجلاً.
التعليقات