"ليس سهلا ربما أن أغيّر الواقع، لكنني على الأقل
كنت قادرة على إيصال ذلك الصوت إلى العالم"
شيرين ابو عاقلة


صدق الكاتب المصري الراحل محمد قطب في قوله "إن فساد المفاهيم أخطر وأشق علاجاً من فساد السلوك" وذلك باعتبار أن الفساد السلوكي هو إفرازٌ يخرج للسطح بعد التفاعل وتنازع الرغبات في جوف الفاعل، ويأتي التحرك السلوكي عقب تأسُّن التصورات والمزاعم التي اكتنز بها صاحب التصرف، لأن القيام بأي عمل غير سوي بنظر القانون الإنساني والأعراف المجتمعية عادةً ما يُمّهد ببعض المسوغات والنظريات حتى يُقنع مقترف الخطيئة ذاته بها بداية الأمر، ومن ثم المباشرة بترويج تلك الحجج والذرائع بين الناس، ما يعني أنه هيأ ذاته قبيل التصرف وقام بإعداد مفاهيمه الخاصة بالخطوة التي سيقدم عليها، لذا فعُدة التبرير جاهزة لديه لكي يرميها وقت الضرورة بوجه أيّ شخصٍ يعارض الممارسات التي قام أو يقوم بها.

وما قيل في الأعلى عن الإعوجاج بوجه عام ينسحب على الكثير من المفاهيم المغلوطة والتي لا تقتصر الجناية فيها على احتلال منصة الصواب فحسب، إنما صار القابع على تلك المنصة يوجّه سهام انتقاداته للذين بقيواعلى حالهم، التزموا بما عهدوا أنفسهم عليه ولم يفروا ـ كما فعلنا نحن ـ ولم يصبحوا على شاكلة الذين غيّروا جلودهم ومفاهيمهم بناءً على الانتهازية التي بفضلها حققوا مصالحهم الشخصية الصرفة مع تقدم الزمان واستبدال المكان؛ ولعل الموقف هاهنا شبيهٌ بفحوى قصة المرأة التي قُتلت من قِبل قريناتها ليس لارتكابها فاحشةً أو جُرما، إنما بكونها الوحيدة التي حافظت على شرفها من بين حشد النساء، وحيثُ كان بقاؤها لوحدها شريفة يُهدِّد سمعة باقي نساء القرية، ووجدن أن أسلم طريقة بالنسبة لمجموعهن هو التخلص من تلك المرأة التي غدت شاذة بنظرهن، باعتبارها الوحيدة التي حافظت على ذاتها ولم تسمح للجنود بأن يدنسوا جسدها، لذا هجمن معاً على تلك المرأة التي حافظت على نفسها، وذلك حتى لا تكون في قادم الأيام شاهدةً على العار الذي لحق بهن جميعاً بعد أن قام الجنود باغتصابهن واحدة تلو الأخرى.

على كل حال فالمُطَّلع على الواقع السوري يعرف بأن بقاء المرء معتصماً ببيته ومتشبثاً بأرضه في أيِّ بقعةٍ كانت من جغرافية البلد المنهك والمنتهك هو بحد ذاته مقاومة وإنجاز، والمتمسك بممتلكاته وسط المافيات المسلحة المسلطة على رقاب الأهالي ينبغي أن يكون محط تقدير واحترامٍ دائمين، باعتبار أن الكتائب المسلحة لدى معظم الأطراف التي تتقاسم السلطة في البلد حوّلت حياة من بقي في بيته إلى جحيم، ويبقى الشيء الذي يغيظ المرء أكثر حين ينظر إلى هذه اللوحة الموجعة، هو ملاحظته أنه بدلاً من تقدير هؤلاء الذين يتجرعون نذالة العسكر، ويتحملون على مضضٍ الذل والهوان من قبل المسلحين لقاء البقاء في بيوتهم ومنازلهم، يأتي مَن فَر بجلده مثلنا منذ سنوات ليتّهم مَن بقي ملازماً أرضه وحقله بالتعامل أو التواطؤ مع الجهة المسلطة على رقاب الأوادم، ناسياً بأنه لمجرد العيش تحت حكم الأوباش وتجرع كل نتانتهم هو عمل بطولي، ويستحق المقيم هناك مننا نحن المقيمين خارج البلد أن نقدّر ظروفه على أقل تقدير، وأن نسعى إن كنا جادين للعمل بشتى السبل على رفع العبء عن كاهله، وليس فوق ما يعانيه المواطن الباقي في تلك الديار أن يأتي المزاوِد المقيم في الخارج ويحمّل المتمسك بترابه وزر الواقع القذر الذي فُرض عليه.

كما أن الشيء الذي لا يمت للعدل بصلة بحق أغلب من في الداخل هو اتهام واحدهم بأنه متعامل مع هذه الفئة المسلحة أو تلك الجهة التي تبسط سيطرتها بالعنف والإكراه على البرية، علماً أن أي نفر لمجرد أن يعيش ضمن معسكرٍ ما من معسكرات الاعتقال السورية الكبيرة، مجبر على الإلتزام بقوانين الحاكمية هناك، وربما رفع يافطاتها أيضاً ليس حباً بالحاكم إنما من باب تجنب وقوع البلاء، كما لا يجرؤ الفرد هناك في ظل سطوة القائمين على المعسكرات على اعتراض قرارات سلطات الجور المفروضة عليه، وإن فعلها فمصيره على الأغلب هو إما الاعتقال، أو الإهانة والضرب، أو الابتزاز المتواصل من قبل أوباش السلطة الحاكمة.

والأمر اللامنطقي هو أنه بدلاً من قراءة الواقع السوري كما هو على حقيقته، ومراعاة ظروف الناس وما يعانون منه، هو قيام بعض مُحدَثي النعمة في أوروبا أو في الدول الاِقليمية بالتطاول على من بقي في الداخل ولم يفر بجلده كما هو ونحن فعلنا، علماً أن المقيم هناك هو في حقيقة الأمر أشجع منه ومنا، وأجرأ منه ومنا، وأقوى منه ومنا إرادةً في تحمل الصعاب ومعاندة الظروف القاهرة، وفي ذلك الإطار السلبي ثمَّة مَن يتحدث بدون أيَّ مراعاةٍ لمشاعر المجروحين بسكاكين الواقع المر، وذلك عندما يصرح بكل بجاحة على الصفحة الشخصية في وسائل التواصل الاجتماعي: "إن من يقيمون للآن في سورية لا يمتلكون ثمن الخروج، فلو كانوا يمتلكون المال لما بقي في سورية أحد" فأي منطق أعوج لهذه الفئة التي استساغت عسل الإعانات واسترطبت ظلالَ الآخرين لتصدر هذا الحكم الجائر! وربما يدور في خلد المنتمي إلى تلك الفئة التمني الدائم بأن يترك جميع من في البلد بيوتهم ويلتحقوا به، لا لشيء سوى أن يصبح حالهم كحاله، منها لشرعنة ما قام به، ومنها لئلا يكون في ساحة الخذلان بمفرده، إذ كلما كثر الأقران بلغ ذروة الانشراح الذي هو عليه، حيث أنه من ذلك المنلطق يتحدث بتعالي عن المعتصم ويستكثر حتى الاعتراف بشهامة من بقي مزروعاً في تربته، فكيف لمن ما يزال يعتاش كالمستعطي على أعطيات الدولة التي آوته كأي كائن حي تسلّل إليها تحت جنح الظلام على غفلةٍ من حراسها بأن يتحدث بهذه الفوقية المقيتة؟ وذلك بدلاً من أن يشعر بالخزي لأنه فرّ بجلده مثلما فعلنا نحن، ولم يكن قادراً على تحمل نتائج الواقع السوري القميء الذي ربما كان هو وصحبه وعترته ممن ساهموا بحدوثه في بداية الحراك الجماهيري عام 2011، بما أن أغلبهم قبيل الإدبار الأعظم من الميدان حثوا الناس على الانتفاض بوجه السُلْطان بدعوى أن التغييرعلى الأبواب، وأن الحرية قاب قوسين من تحقيق المنال.