قديماً كنا نستعير كتاباً لقراءته وإعادته لصاحبه، أو نستعير "بدلة" لحضور مناسبة اجتماعية ثم تعيدها لصاحبها، وربما يتكرم باهدائها لك إذا كان ميسور الحال.

حين تترك الوطن لأيّ سبب كان وتنغمس بعالم الغربة، كأنك تعيش حياة مستعارة، لن يتخلى عنك الإحساس بأنها حياة لا تعود لك مهما استطال بك البقاء، تنتهي احتفالية المكان ودهشة الجديد لهذا العالم المبهر والمثير بأجوائه وأجساده وتقاليده الغريبة، وما هي إلا أشهر معدودة حتى يعاودك هاجس الحنين للوطن والأهل، تراودك الذكريات وتأخذك نحو عزلة نفسية تعمق الشعور بغربة المكان وبلاهة الزمان والسؤال عن الجدوى.

ليس الوطن كتاباً تتم استعارته ولا قميصاً تحضر به لقاءً عاطفياً ثم يُعاد لصاحبه. في الغربة يتحول الوطن لشعور بالنقص أو الفراغ الوجودي.

تحدياتك لذاتك أن لا عودة، وتذهب باحثاً عن إثبات صلاحيتك في العمل أو الدراسة والتعليم والتفوق، تتآلف مع فكرة الوطن البديل والاندراج بعالم صرت ترتاده دون تكلفة أو حرج السنوات الأولى، ثم تمضي بك السنوات وانشغالات المعيشة واشتراطات الحياة والعائلة والمكاسب وزهو الأبناء، سنوات وتحولات وعوارض العيش تنسيك ذلك الهاجس المسمى وطن، ولا يكاد يمر بك سوى عبر اتصالات هاتفية تفرضها مناسبات متباعدة وأحيانا منسية تماماً. الذكريات تنعدم بعض ملامحها في صور مشوهة، ضائعة الملامح ودون أصوات.. تبدو من عالم غريب وبعيد، ثم يطحنها النسيان في معتركات وعوالم جديدة.

في تلك السنين كان الوطن يتحرك خارج مخيلتك منذ أن فارقته هارباً، يتشكل بأطر سلوكية ومنهجيات أخلاقية غير ما تعرفت عليها ونشأت وسطها، لا شيء يثيرك فكل شيء أصبح بعيداً عنك وغير داخل في تفكيرك وحياتك.

تستيقظ في صباح شيخوخة مبكرة لتشعر أنك بلا هدف، وقد عُزلت عن الحياة. الوطن البديل يحيلك للتقاعد ويخيرك بين العيش وحيداً أو دار العجزة! وطن بعيد مضاع منك، حياة بلا صداقات ولا ندماء. العالم مشغول عنك بتفاصيله العديدة والحديثة من حروب وابتكارات والبحث عما وراء 14 مليار سنة من عمر الكون، وأنت تصبح قطعة بشرية تصلح للمتاحف وسرد حكايات قديمة وسط محطات غادرها قطار الزمن.

تعتاد الاستيقاظ في ساعات مبكرة وضباب العمر يكرس الشعور بالكآبة، وتبدأ لعنة الذكريات تهبط بك نصف قرن، تداهمك رائحة أمك وأصوات طازجة تتسرب إليك من الجيران، المناكدات بين أخوتك على دخول الحمام الوحيد في البيت. أصوات الباعة وموعد مرور المعلمات الفاتنات للمدرسة في آخر الشارع، حنين يشبه الحريق ينتاب الروح والقلب المتعب.

يا الله ..

كم تحتاج من نشيج في محاولة العودة للوطن، ولا تدرك أنَّ الوطن الذي بكيته أول وآخر العمر قد أسقطك من ذاكرته، فالأوطان حياة يومية ورفقة وعناق وفرح وأحزان وروائح وأصوات وأنفاس وليس جواز سفر أو قميصاً مستعاراً.