كثيرة هي ارتدادات زيارة إلى تركيا ودول الشرق الأوسط، وقد بدأت صباح السبت وعنوانها الرئيس، كما هو معروف، حرب غزة ومنع توسع رقعتها في المنطقة. وقد كانت المحطة الأولى إستنبول في تركيا، حيث التقى الرئيس رجب طيب أردوغان ووزير خارجيته حاقان فيدان، دون أن يتبع اللقاء أي تصريح صحفي أو تعليق رسمي. وأتت تركيا في المقدمة لعدة اعتبارات، أولها: التصريحات النارية الصادرة من أنقرة ضد إسرائيل طوال الشهور الثلاثة الماضية، مع أفعال ميدانية تناقضها، تدرك أميركا أن الغاية منها تتجاوز مساعدة الفلسطينيين إلى تحقيق مصالح تركيا في علاقتها مع أميركا. وبالتالي، فالزيارة المكثفة لوزير الخارجية ليست رد فعل على تصريحات حسن نصر الله، صوت إيران الصارخ في المنطقة.

الكل يعلم أنَّ أبرز ملفات الزيارة هي تلك التي تم التفاوض عليها مع تركيا، ولم تكن ناجحة، ليس لثقل مطالب أردوغان بل لما عرضته أميركا عليه، وفي مقدمها دمج القضايا السابقة مع ملف غزة، ومن بينها تسليم بعض قياديي حماس إلى إسرائيل، وقد نفى أردوغان على الأرجح وجودهم في تركيا أو في سجونها، وطلب منهم مغادرة تركيا بعد عملية طوفان الأقصى مباشرة، وعلى الأغلب ربط بلينكن الطلب بقبول السويد في حلف الناتو وهو مطلب تعارضه تركيا، عارضة في المقابل الموافقة على تزويدها بطائرات F-16 المتطورة، على أن تقوم السويد بتسليم بعض القياديين الكورد إليها، ويتبع الطلب الأخير، ما وراء الأروقة الدبلوماسية، قضية الإدارة الذاتية، وإعادة النظر في التحالف الجاري بين القوات الأميركية وقوات سوريا الديمقراطية التابعة للإدارة الذاتية، وعدم الاعتراض على اجتياح مناطقها. وربما هذه هي المرة الأولى مقارنة بلقاءات سابقة ترجح كفة مطالب أميركا على مطالب تركيا، أي عملياً، وبنظر أمريكا، تركيا تنضم إلى الحلف الروسي الإيراني الصيني لإخراجها من المنطقة.

كان من ضمن الملفات أيضاً التي طرحها أردوغان ووزير خارجيته طوال الساعتين ملف غربي كوردستان، القضية التي لا تغيب عن حواراتما مع أي طرف سياسي، ورغم إدراكهما أن أميركا متمسكة بموقفها الرافض، لكنهما كانا يأملان هذه المرة إحداث ثغرة في جدار الرفض الأميركية، عبر خلق السلبيات حول حاضر الإدارة الذاتية وربما قادم التحالف الأميركي مع قوات قسد.

يدرك أردوغان الميكيافلي أنَّ من السهل لأميركا أو أي دولة أخرى، ومن البعد السياسي والعلاقات الإستراتيجية، مقايضة أي ملف مقابل قضية أهم، ويتوقع أن تكون حرب إسرائيل على حماس والحصول على دعم تركيا كدولة إسلامية أكثر أهمية استراتيجية لأميركا من الحفاظ على تحالفها مع قوات قسد، متناسياً، ومن على خلفية خبث نواياه السياسية، أن وجود الولايات المتحدة الأميركية عسكرياً وسياسياً في غربي وجنوب كوردستان أصبح جزءاً من استراتيجية إدارة الصراع مع روسيا وإيران والصين في المنطقة.

من جهة أخرى، أستند أردوغان على عمليات التصعيد القادم من قبل أدوات إيران وأذرعها في المنطقة، والتي أصبح من أولوياتها خلق القلاقل لأميركا ومصالحها في المنطقة، وليس ضربها إلى درجة استعاد رد أميركي قوي، وبهذا يتضامن وبشكل مباشر مع محاولات روسيا وإيران إخراج دول الحلفاء وعلى رأسهم أميركا من المنطقة من دون حروب شاملة. وتدرك تركيا أنَّ غاية إيران الاستراتيجية ليس الهيمنة على المنطقة فحسب، بل ضرب إسرائيل، وهي غاية واضحة لجميع الدول المعنية بالأمر، خاصة أميركا، لذلك تضع خطاً أحمر أمام بعض الدول محذرة من تجاوز حدود بعض الملفات والمطالب، وعلى رأسها الوجود الأميركي في سوريا والعراق، وربما تحالفها مع قوات قسد، والتي تعلم الدول المحتلة لكوردستان أن الثقة الأميركية بهم والتحالف معهم مبني على أسس متينة ونابعة من حرب واسعة مشتركة ضد داعش امتدت قرابة عقد من الزمن، وبواسطتهم تم القضاء على إحدى أخطر المنظمات الإرهابية على أمن أمريكا وأمن المنطقة معاً، لذلك فالتحالف معهم، حتى ولو عرضياً، مهم ضمن استراتيجية واسعة الأبعاد، تشمل الصراع مع روسيا والصين وإيران.

جميع مواضيع الحوار على الأغلب، بدءاً من تركيا إلى مصر مروراً بالضفة الغربية أي السلطة الفلسطينية، تتمحور حول كيفية وقف الحرب على غزة وما يخطط لمستقبلها وإدارتها، مع التأكيد على عدم عودة حماس إلى الساحة. مع ذلك، أصبح مستقبل القطاع من أعقد أطراف المعادلة، والتي جلبت بلينكن إلى المنطقة للمرة الرابعة خلال ثلاثة أشهر. وقد بدأت الدول المعنية بالأمر تطرح حلولاً عدة، تتراوح بين إدارات مدنية فلسطينية وسلطة عسكرية إسرائيلية وغيرها، وجميعها تؤكد على عزل حماس كما نوهنا، وسط تخطط إسرائيل للقضاء عليها، علماً أن جدلية مماثلة غير قابلة للتطبيق، إذ ربما تتمكن إسرائيل من حصر نشاط الحركة أو إضعافها، لكنها لن تقوى على القضاء عليها، والأسباب عديدة منها مصلحة إسرائيل ذاتها، ففي أبعاد سياسية وعسكرية، ما قدمته حماس لحكومة نتنياهو لا يقل عن رد الفعل الدولي السلبي حول عملية طوفان الأقصى، والتي كان سبباً في تدمير غزة وتهجير شعبها، أي عملياً المسبب هي حركة حماس والجهاد الإسلامي، والمنفذ حكومة بنيامين نتنياهو، والكل يدرك هذه الجدلية رغم صمته.

تدرك أميركا خلفيات هذا الصمت، ويحاول وزير خارجيتها من خلال جولاته تجاوزها، مركزاً على عدم انتشار رقعة الحرب وانتقالها من جغرافية غزة وربما جنوب لبنان إلى مناطق أخرى، خاصة إلى العراق وسوريا، وربما إلى دول الخليج، وهنا ستكون الكارثة الأكبر، وهي من الأسباب التي تدفع بالقوات الأميركية إلى الرد على أدوات إيران بأسلوب كلاسيكي، أي الاكتفاء بتصفية قيادات حماس وسائر أذرع إيران في دمشق وبيروت والعراق، وقد تطال إيران واليمن قريباً، وستحاول تركيا النأي بنفسها عن ذلك نظراً لكونها عضواً في الناتو، وهو ما فعله أردوغان عندما طلب من قيادات حماس بعد عملية طوفان الأقصى الخروج من تركيا، وإن لم يكف عن إطلاق تصريحات نارية مفهومة الأغراض.

بعض الملفات التي يحملها بلينكن محلولة ومتفقة عليها مسبقاً، وبعضها سيتم الحوار بشأنه مع عرض صفقات متبادلة، ومن بين الأخيرة لا يستبعد أن تكون قضية التخفيف من التصريحات بحق إسرائيل مقابل غض الطرف عن اعتداءات أردوغان على غربي كوردستان، حيث عمليات الاستنزاف الاقتصادي الدافع إلى التهجير القسري كتمهيد لتغيير ديمغرافيتها الكوردية المتبقية في المنطقة، فلا بد من مراقبة ما سيقوله أردوغان في الأيام القادمة.

المباحثات مع الدول المعنية بالزيارة مليئة بالملفات المتممة، كملف الإدارة الذاتية وقوات قسد في غربي كوردستان، والتي جلها ستكون فروعاً متممة أو حلقات وصل ما بين القضيتين الرئيسيتين المذكورتين، أي حرب إسرائيل على حماس ومستقبل الحركة وقادم القطاع بعد الحرب، وربما قادم المنطقة بشكل عام.