قبل أيام وجّه علي خامنئي، مرشد إيران، قوات جمهوريته الإسلامية بتجنب المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل...! لكنه في الوقت ذاته وجه وكلاءه بـ"ضرب أهداف العدو حيث تطال الأيادي"، حسب تعبيره، في خطاب موجه إلى ما يسمى المقاومة الإسلامية. هذا الموقف يجسد منتهى الخشية من أن يتعرض نظامه الإسلامي التوسعي إلى هزة كبرى تطيح به، وتعرض إيران إلى عاصفة تكون بمنتهى القوة مقارنة بتلك الهزة التي أطاحت بعرش الشاه محمد رضا بهلوي، كما يمثل هذا الموقف هشاشة هذا النظام الذي بدأ يتخبط ويعاني اضطراب الرؤية بعد 45 سنة من الحكم القمعي والنهج التوسعي وضرب كل المعايير والمواثيق الدولية عرض الحائط، ووصلت به الحال إلى أن يرى الأشباح ويعدها أعداءً له، مستنداً بذلك على صنع الأعداء الافتراضيين. نظام لا يمكن له أن يستديم دون أن يرى له أعداء استناداً إلى مخيلة مريضة، تتوهَّم أن في الإمكان السيطرة على المنطقة برمتها من خلال الممارسات التعسفية السافرة والتدخل اللامحدود في شؤون الدول المحيطة بها وكذلك الأبعد، كتدخلها السافر في العراق وسوريا واليمن ولبنان وحتى شمال أفريقيا؛ هكذا تظن مخيلة هذا النظام أن في مقدوره تدشين إمبراطوية إسلامية تبسط سطوتها ونفوذها على المنطقة.

انطلاقاً من هذا الفكر المعتل والرؤية المتخبطة، أخذت طهران ترى في أربيل بعبعاً يهددها ويهدد أمنها القومي المزعوم، فتقوم عبر وكلائها وبشكل شبه يومي باستهداف عاصمة إقليم كردستان عبر وكلائها المحليين بالمسيرات والصواريخ التي لا تقدر على إصابة هدفٍ مزعوم باستثناء المدنيين العزل الأبرياء... في وقت تمثل فيه أربيل أيقونة للسلام والمحبة والتعايش السلمي، إلى أن أصبحت قبلة للعراقيين ومركزاً للتنمية والاستثمار تجتذب عيون العالم... طهران ترى في أربيل قوة متنامية من حيث القيم والمبادئ الإنسانية التي ترفعت على كل الأفكار الظلامية، وترى فيها مركزاً للاستقطاب العالمي والإقليمي، وهذا ما لا يروق لنظام غارق في الوهم ومعروف بمشاريعه التدميرية في المنطقة، كما ترى في أربيل مركز إشعاع قومي كردي إنساني متنامٍ يشكل تهديداً عبر إلهام شرق كردستان (كردستان إيران) وشعبها القابع تحت القمع الإسلامي الإيراني المزعوم.

إقرأ أيضاً: انتقد حماس أو إيران.. فتصبح من "الصهاينة العرب"!

جاءت الضربات الصاروخية الإيرانية الآثمة، قبل يومين، على أربيل بذرائع واهية بعيدة كل البعد عن الحقيقة، واستهدفت منازل مدنيين عزل آمنين ذهب ضحيتها أطفال ونساء ورجال لا علاقة لهم بكل تلك الإدعاءات الإيرانية التي تتحدث عن استهداف مقار للموساد الإسرائيلي، ولم تكن تلك الادعاءات إلا تغطية للتخبط وانعدام مدى الرؤية لدى نظام طهران، في محاولة لإقناع الشعوب الإيرانية أنه انتقم لضحايا تفجيرات كرمان التي حدثت قبل أيام، وهذه المحاولة يائسة لا تقدم ولا تؤخر كون غالبية الإيرانيين يدركون تماماً نمطية نظام حكمهم القمعي على صعيد الداخل قبل الصعيد الخارجي.

لقد أثبتت نتائج تحقيقات اللجنة التي توجهت إلى أربيل بعد القصف الصاروخي، وترأسها قاسم الأعرجي مستشار الأمن الوطني العراقي، أنَّ الادعاءات الإيرانية إنَّما هي ادعاءات واهية، وأنَّ المنزل الذي تعرض للقصف هو منزل عائلي، وليس له أي علاقة بالادعاءات الإيرانية التي صورته للرأي العام الإيراني أنَّه مقر للموساد، في محاولة لإقناعه أنه قادر على الرد في المكان والزمان المحددين... فالموساد أصلاً يتغلغل داخل إيران ومؤسساتها وبرنامجها النووي، وقام هذا الجهاز بتنفيذ عملياته داخل إيران وأعلنت عن مسؤوليته أيضاً، فأين نظام طهران من تلك العمليات، ولماذا لا يقدر على استهداف تل أبيب مباشرة، بالرغم من الاعترافات الإسرائيلية أن الموساد هو من نفذ تلك العمليات، سواء في نطنز، حيث المفاعلات النووية، أو عن طريق اغتيال العالم النووي محسن فخري زاده في 27 تشرين الثاني (نوفمبر) 2020؟!

أربيل واضحة على خارطة العالم... وتل أبيب واضحة أيضاً، فلماذا لا تمتلك طهران الجرأة لاستهداف تل أبيب مباشرة بصواريخها بدل أربيل الآمنة، التي لا ناقة لها ولا جمل في كل ما يدور بين إيران وإسرائيل والولايات المتحدة؟! أم أن هذا النظام يعتقد أنَّ الشعوب الإيرانية، وكذلك العالم المتمدن والمجتمع الدولي، بتلك الدرجة من الغباء التي لا يمكن معها التمييز بين الصدق والكذب؟!

إقرأ أيضاً: إيران وفشل نظرية ولاية الفقيه

إنَّ قمة الضعف والتخبط تجلت في هذا الاعتداء الإيراني السافر على أربيل، والذي أثبت للعالم أجمع بنَّ نظام طهران في مرحلة احتضار بعد أن ضاقت به السبل، وحمل نفسه أكثر من طاقته في فتح كل هذه الجبهات، سواء في العراق أو سوريا أو اليمن أو لبنان أو غزة، والتي تدفع ثمنها بالدرجة الأولى الشعوب الإيرانية المثقلة والمكبلة بالقيود، والتي تعاني الأمرين جراء هذه السياسات المتخبطة التي ترى طهران أنها تتبناها من خلال تفويض إلهي لأسلمة المنطقة انطلاقاً من رؤيتها.

بالرغم من الألم الناتج عن هذه الضربات الصاروخية على المدنيين العزل في أربيل، فإن القادم من الأيام سيثبت مدى الخسارة الفادحة التي سيمنى بها هذا النظام على المستوى العالمي والإقليمي والمحلي الإيراني، فهذا العالم ما زال يمتلك القدرة على التمييز بين الصدق والكذب، وما زال الفكر الإنساني يمتلك القدرة على التمييز بين أخلاق الفرسان النبلاء وبين الضربات الدونكيشوتية.

كيف بمقدور المنطق السليم أن يصدق أنَّ ما تتعرض له أربيل من اعتداءات من قبل إيران ووكلائها انتصار لأهل غزة؟! ساحة الحرب هناك حيث غزة وليست في اربيل الآمنة وأهلها، فأين ذلك الجيش الجرار وأين الصواريخ الإيرانية من ساحة المعركة الحقيقية؟! الأسطول الأميركي ببوارجه ومدمراته في البحر الأحمر وليس في أربيل، فأين صواريخ إيران من ذلك الأسطول ولماذا لا تستهدفه؟ أم أنَّ الشيطان الأكبر – حسب المصطلح الايراني- يدب الرعب في قلب هذا النظام؟!

يتبجح النظام الإيراني بعقليته في إدارة الحروب، لكنه يخشى المواجهة المباشرة، فكل حروبه بالوكالة، خصوصاً عبر أؤلئك الوكلاء الذين لا تحمل لهم طهران ذرة احترام، بل تستخدمهم كبيادق شطرنج من خلال مفاهيم دينية ومذهبية لا تخدم سوى ديمومة حكم هذا النظام الذي يحاول حرق المنطقة وشعوبها من أجل بقائه واستدامة مصالحه.

إقرأ أيضاً: ماذا ينتظر خامنئي؟

يدرك العرب اليوم أكثر من أي وقت آخر أن عمقهم الاستراتيجي يكمن مع الكرد، كما يدرك الكرد أن عمقهم الاستراتيجي يكمن في الشعوب العربية، ولهذا فإنَّ العرب مطالبون بنصرة الكرد وإنصافهم وإعادة النظر في العلاقة بينهم وبين الكرد، وهنا لا يمكن نكران الموقف الرسمي العربي وكذلك الشعبي العربي بمواقفه الإيجابية مع ما حدث في أربيل قبل يومين، خصوصاً الرأي العام العربي العراقي الذي توضح موقفه المشرف من هذا الاعتداء... وهذه دعوة لفتح أبواب حوار جدي بين العرب والكرد على جميع الأصعدة، فكلا الأمتين تدفعان ضريبة متساوية بسبب الممارسات السافرة لنظام طهران.

ستبقى أربيل وقلعتها ملاذاً وقبلة لكل الأحرار، وسيبقى خطاب أربيل خطاباً إنسانياً... ولن تنتكس قضية أمة حية بعدة صواريخ متهورة... ولن تتراجع أربيل عن قيمها الإنسانية الرافضة للعنصرية والتعصب والإلغاء.

سلاماً لكردستان ولأربيل وأهلها.