مخطئ من يظن أن فلسطين على حدود لبنان الجنوبية. ففي الجغرافيا العقلية ما فيها. هذا ليس هذرًا، إنما منطق "لبناني" بامتياز

قبل أيام، في عز التهديد الإسرائيلي للبنانيين بالويل والثبور وعظائم الأمور، وقعت بين جارين، أحلاهما مرّ في السياسة الإقليمية: شيوعي سابق عاد إلى شيعيته وغالى فيها متتلمذًا على "السيّد حسن" لكنه ما زال يعلّق صورة تشي غيفارا على جدارٍ في بيته؛ وناصري سابق عاد إلى سنّيته وغالى فيها متتلمذًا على "أبو عبيدة" فعلّق صورته الملونة ملثمًا إلى جانب صورة بالأبيض والأسود لجمال عبد الناصر.

ما كنت أنا ثالثهما، إنما كانت فلسطين.

أخذ الحماس السني فكال للشيعي السباب، واتهمه بالقعود عن الجهاد الذي فتح "المجاهدون" بابه في السابع من أكتوبر "المجيد"، فعاد الشيعي إلى نصر من الله وفتح قريب، رادًا الشتيمة بأحسن منها وأحدّ، متهمًا ذاك الجار بأنه فتح المعركة بغير أوانها، ومن دون استئذان، وما نظر في العوامل المحيطة، إقليميًا ودوليًا، وكان عليه أن يستشير الأسياد في فعلته هذه.

وهل الحرب ضد إسرائيل تحتاج إذنًا؟ أما قال مرشدكم دام ظله إن إيران تستطيع محو دولة إسرائيل عن الخريطة في ثوانٍ معدودة؟ أما حذر نائب رئيسكم في طهران تل أبيب من أن تقدم الذريعة لإزالتها من الوجود؟ أما تخجلون من دماء قاسم سليمان، ورضي الموسوي، وأبو صادق، وأبو فلان.. وغيرهم ممن قتلتهم الغارات الإسرائيلية في سوريا؟ أما تريدون الانتقام لخيرة شباب لبنان الذين يذهبون في الجنوب سدى؟ أما كان ملائمًا أن يدخل آل الرضوان إلى الجليل في 8 أكتوبر، فيكتمل نصر فلسطين، فيما إسرائيل تتخبط في عجزها؟ أما كان الأجدى أن تأتونا بالصواريخ بدلًا من خطابات التهويل وذرائع الإشغال؟

كان وابلًا من تساؤلات حادة انهالت من جاري السني، ومعها رذاذ كثيف من لعابه الذي سال على النصر الإلهي المعمد بدم أكثر من 25 ألف فلسطيني بريء من دم 1200 إسرائيلي سال في 7 أكتوبر، على جاري الشيعي الذي احمرّ وجهه، ثم ازْرَقَّ، ثم اسْوَدَّ... بقي صامتًا كاظمًا غيظه، ثم قال: "وهل تريد أن يهدي أبو هادي كل سنوات نضال المقاومة في جنوب لبنان لسنة غزّة الذين قرروا الحرب في غفلة من الزمن، بعدما كانوا يتقاضون مالهم من تل أبيب؟ هل تريدنا أن نقدم جنوبنا الآمن العامر بالسلام منذ 2006 ضحية على مذبح نزوات يحيى السنوار؟ هل..؟ هل..؟".

لم يصل هذا النقاش الهادئ إلى مرحلة العراك بالأيدي.. أو قل إني لا أعرف إن كان قد وصل. فأنا آثرت الانسحاب تكتيكيًا، آسفًا على فلسطين وحدها، وعلى سُذَّج يصدقون ما يقال.

ما كان الكلام الذي سمعته من الرجلين عربيًا أو إسلاميًا أو مقاومًا، إنما كان عبريًا بين سبابتين، أو قل اصبعين: اصبع نصر الله واصبع أبي عبيدة... وبهذا المنطق، انتصر عليهما - وعلينا - اصبع الجليل.

أذكر مناضلًا في الحركة الوطنية اللبنانية، تاب عن نضاله مبكرًا، قال لي يومًا: "الأجدى تحرير فلسطين من ’قضية‘ تحرير فلسطين".