ما يحدث في لبنان هو انعكاس طبيعي لحالة الانقسام السياسي التي سيطرت على الأجواء في بيروت خلال السنوات الماضية، وهو أيضًا استمرار لحالة عدم الاستقرار التي ضربت دولاً عدة في منطقة الشرق الأوسط، الذي أصبح بؤرة لصراع عسكري وسياسي ارتفعت حدته بعد العدوان الغاشم على قطاع غزة، الذي يشهد أبشع أنواع الانتهاكات اللاإنسانية.

مع ترك الرئيس اللبناني السابق ميشال عون السلطة قبل نهاية عام 2022، فشل البرلمان اللبناني في اختيار رئيس جديد، نظرًا لعدم وجود أغلبية تتفق على اسم مرشح محدد، وما زاد الأمر تعقيدًا هو قيام عون بإصدار مرسوم يعتبر حكومة تصريف الأعمال برئاسة نجيب ميقاتي "مستقيلة"، وتدهورت الأوضاع على كافة الأصعدة سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا.

حذر وقلق يسود الشارع الآن في ظل الأزمات المتلاحقة التي يواجهها لبنان، بعد تصاعد حدة الصراع في الجنوب، وأصبح الوضع على مشارف حرب شاملة بين حزب الله وجيش الاحتلال الإسرائيلي، الذي يكثف هجماته على جنوب لبنان، خصوصًا بعد الدعم الذي يقدمه حزب الله لحركة حماس في الحرب التي تسببت في دمار قطاع غزة، واندلعت عقب الهجوم الحمساوي على المستوطنين الإسرائيليين في أحداث 7 تشرين الأول (أكتوبر).

في غضون الأيام الماضية، وجه حزب الله ضربات لعدد من المواقع العسكرية الإسرائيلية في مزارع شبعا اللبنانية المحتلة، الأمر الذي دفع جيش الاحتلال للرد المكثف، وفي ظل القصف المتبادل، توجه إيران دعمًا عسكريًا لحزب الله، وهو ما يزيد الأمر تعقيدًا، وينذر بمواجهات أكثر شراسة، تدفع جنوب لبنان لمصير أشبه بما يحدث في قطاع غزة، الذي شهد دمارًا شاملًا في مختلف مناحي الحياة.

ما يعيشه لبنان يمثل واقعًا خطيرًا، والغالبية العظمى من الشعب ترفض التورط في حرب من شأنها إذا اشتعلت أن تدمر البلاد، من دون أن تنقذ غزة من الحرب. لكن مشكلة لبنان لا تتوقف عند إصرار حزب الله على مواصلة الحرب، بل تتعداه إلى واقع العجز الذي تعاني منه المؤسسات الدستورية أمام استحقاق مصيري بالنسبة إلى لبنان، فمنذ 8 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، لم يدع مجلس الوزراء إلى الاجتماع من أجل مناقشة قرار حزب الله المنفرد الدخول في حرب مع إسرائيل، انطلاقا من الأراضي اللبنانية.

والأخطر أن مجلس النواب لم يدع إلى الاجتماع أيضاً، بوصفه أم المؤسسات الدستورية، لمناقشة الموضوع عينه، بما يشكله من خطر وجودي يخيّم فوق رؤوس اللبنانيين رغماً عنهم، ولكن السر الخفي وراء دخول حزب الله في معركة موسعة مع الاحتلال الإسرائيلي، هو تخفيف الحصار العسكري على حماس، لمحاولة إعادة التوازن إليها، وهو الأمر الذي يعصف بلبنان نحو مصير مجهول، ونحو عواقب لا يستطيع أحد التنبؤ بها، وإنما تنذر باستمرارية الأزمة، التي تعصف بلبنان منذ سنوات.

ومع عدم وجود مرشح قادر حتى اللحظة على حصد الأكثرية المطلوبة في البرلمان، يهدد الفراغ السياسي بتعميق أزمات البلاد في ظل انهيار اقتصادي متسارع منذ ثلاث سنوات، ومع تعذر تشكيل حكومة، وتبادل عون الاتهامات بتعطيل تشكيل حكومة نتيجة شروط وشروط مضادة. وتعد خطوة عون سابقة في لبنان، حيث يتعين على رئيس الجمهورية إصدار مرسوم قبول استقالة الحكومة، في اليوم ذاته الذي يوقع فيه مرسومي تعيين رئيس الحكومة وتشكيل حكومة جديدة.

وبعد تسوية سياسية أوصلت عون إلى الرئاسة عام 2016، تعهد الرئيس السابق بتحقيق نهضة اقتصادية واستقرار اجتماعي واستئصال الفساد، لكنها وعود لم تتحقق. واتسّم النصف الثاني من عهده بشلل سياسي وانهيار اقتصادي متسارع، وتظاهرات غير مسبوقة استمرت أشهراً عدَّة، أعقبها انفجار مروع في مرفأ بيروت، ضاعف النقمة الشعبية على أداء القيادة السياسية.

وبالرغم من مرور 80 عامًا على استقلال لبنان، لم ينعم الشعب المغلوب على أمره بالأمن والاستقرار كسائر شعوب العالم، وباتت الغالبية العظمى من اللبنانيين تعيش عنوة خارج البلاد في أوطان لا تشبهها إلا بتطلعاتها ومفهومها للدولة الممنوع قيامها في الوطن الأم، والتي أصبحت قبلة للصراع، بعدما كانت وجهة السائحين من مختلف دول العالم.

تدهورت الأوضاع الاقتصادية في لبنان، ويشهد الشعب اللبناني معاناة غير مسبوقة، فذهبت الليرة أدراج الرياح، وارتفعت الأسعار بشكل جنوني، وعاش لبنان في الظلام لفترات، نتيجة انقطاع التيار الكهربائي بفعل النقص الحاد في الوقود، وخرجت المظاهرات المناهضة للسياسات الخاطئة، التي تسببت في انهيار الأوضاع المعيشية.

وعلى المستوى السياسي، لا يمكن لأي وطن أن يستقر بدون رئيس منتخب وحكومة توافقية، تعمل من أجل مصلحة الشعب، وما يحدث في لبنان نتيجة عدم الاستقرار السياسي والتفكير في المصالح الشخصية، والسعي لتحقيق مكاسب على حساب الشعب والوطن، وعكس فشل جلسات الانتخاب السابقة، عدم وجود حكومة كاملة المواصفات، محصور دورها في تصريف الأعمال، ووزراؤها منقسمون يحضرون أو يقاطعون جلسات مجلس النواب، نسبة لما تأمر به قيادتهم الحزبية، بغض النظر عن المخاطر التي تحاصر البلاد، والتي كانت تستوجب حضورهم لتأمين نصاب الجلسات لاتخاذ قرارات مصيرية وجودية، إلا أن المقاطعة كانت نهج الأعضاء وقادة الأحزاب حسب ما يخدم توجهاتهم، فهل يحق لهؤلاء الاحتفال بعد بذكرى الاستقلال، في ظل حالة الانهيار التي يعاني منها لبنان؟

الاستقلال نهج حياة وفكر ووعي، هو فعل ارادة وطنية موحدة منعدمة الوجود لدى مسؤولين اغتالوا الوطن وما زالوا يغتالونه، ولا يتمتعون بأدنى مقومات الأهلية للحكم ولا للمسؤولية. هؤلاء لا يحق لهم الاحتفال بالذكرى لكنهم يحتفلون بالرقص على جثة الاستقلال، يطلقون المواقف الوطنية ويتغنون ببطولات لا تشبههم، يوزعون الوزراء والنواب لوضع أكاليل الزهور على أضرحة رجال ضحوا بأرواحهم من أجل الاستقلال.

وتؤكد المؤشرات انعدام قدرة إنجاز الاستحقاق الدستوري من دون تفاهم إقليمي ودولي يدفع القوى السياسية المحلية الى الانتخاب. وكل ما يحدث يهدد وحدة الجيش المُستهدف سياسيًا، وهو ما يعطي الفرصة لحزب الله وقائده حسن نصر الله، للتوغل في السُلطة، واتخاذ قرارت قد تدفع لبنان للدخول في حرب مدمرة، تلتهم الأخضر واليابس، وتعصف بآمال الشعب المغلوب على أمره، في عودة الوطن المسلوب.