أصبحت الثقافة اللغوية مثار جدل واسع لدى أغلب المهتمين. فلحد الآن، لا زالت ملامح الغموض المبهم، تحول دون فهم ثقافات الشعوب الإسلامية، خصوصاً تلك الناطقة باللغة العربية. هذا الغموض تزداد حدته عندما نقع في الثنائية اللغوية، وتتعدد الألسنة داخل المجتمع الواحد، فاللغة ليست أداة تقتصر على التواصل كما يظن البعض، وإنما هي أعمق بكثير، على خلاف ما يروج له أصحاب النظريات السطحية، والتي قد تكون لها أهداف مبطنة، تستهدف النيل من مقومات الأمة الحضارية والثقافية.
ولعل ما يقال عن اللغة العربية الفصحى التي هي لغة النبوة أصلاً، لغة قاصرة وغير قادرة على استيعاب العصر ومفاهيمه، لدليل على مدى التمرد المكشوف والانسلاخ عن الهوية والأصل، إذ أثبتت دراسات لسانية وسوسيو - ثقافية أن هذه اللغة هي مرآة التطور الفكري لدى المجتمعات التي تسعى للبناء وليس الهدم.
لقد سعت الدول الاستعمارية منذ أن وطأت أرض الشعوب المستضعفة على فرض لغتها بالقوة، واعتبرتها نموذجاً يقتدى به للأبد، فتمت أجنبة الأصل بهدف خلق التابع والمتبوع إلى ما لا نهاية. فاللغة، وبصفة أدق المصطلحات والمفاهيم التي تستعمل من قبل حضارة ما، يستحيل أن تكون لها نفس الدلالة اللغوية، حتى وإن كان التعبير بنفس اللفظ، إذ أن اللغة حمولة ورزنامة من التصورات الخاصة بالبيئة الاجتماعية الثقافية والأخلاقية التي تؤثر على العقل والخلق والدين. واستيراد اللغة والمصطلحات يؤدي إلى زعزعة الشخصية الثقافية للأمة، ويخلق القطيعة معها على المستوى الحضاري. فاللغة العربية الفصيحة تعرضت لهجمات شرسة، تعد جزءاً لا يتجزأ من الهجوم على العقيدة، بحيث اتصفت ووصفت ولا زالت هجمات من هذا القبيل تصفها بالجمود المطلق وعدم قدرتها على استيعاب العصر وتطوراته.
ولعل من أسباب عدم قدرة اللغة العربية الفصيحة على إيجاد موطئ لها ضمن اللغات المتداولة في قمة الهرم على المستوى العالمي، المستويات المتدنية للتنمية في جميع المجالات للدول الناطقة بها. وهو ما يمكن أن نسميه تراخياً. بعد زمن حضاري أسال لعاب مفكري الغرب، ودفعهم لتعلم هذه اللغة القائمة الذات، والنهل من أمهات كتب الفكر الإسلامي. ومن بين أسباب النكوص اللغوي للأمة العجز عن استيعاب المصطلحات العلمية والأشياء المستحدثة، فضلاً عن أسباب تاريخية ناتجة عن الإقصاء من الحياة اليومية وطغيان العامية، إضافة إلى الإعلام والمسلسلات المدبلجة. ويضاف إلى ما تقدم الوضع الراهن الذي تعيش عليه أمة القرآن.
كما أن اللغة العربية لم تستعمل مدة أربعة قرون في عهد الإمبراطورية العثمانية. هذا بالإضافة إلى انبهار أبناء الأمة باللغات الأجنبية، حيث تكونت في العالم العربي جبهة عنيدة ترفض إدخال اللغة العربية الفصيحة في المجال التكنولوجي. ولعل ما يثير السخرية محاولة بعض ممن يدعون التطور سلخ الإنسان عن أصله من خلال فرض نموذج لغوي أجنبي على المجتمع بالقوة والمال والإعلام. لذا أصبح لزاماً تعميق النقاش، بين من لهم دراية علمية، ولغوية، بهدف إثبات الذات، أمام الآخر، لإعادة المجد للهوية، مع احترام تعدد الألسنة الوطنية لجميع الأقطار، والتي تعد جزءاً لا يتجزأ من التنوع المجتمعي، والذي يطبع تاريخ ومجد الشعوب العربية.
التعليقات