منذ تأسيس العراق بحدوده الحالية والمحاكم العليا تتعاقب عليه في كل نظام حكمه، مؤدية وظيفة تختلف عن وظيفة المحكمة العليا في نظام آخر، ففي عام 1925 مثلاً نصت المادة 81 من دستور المملكة العراقية على ما يلي:

"تؤلف محكمة عليا لمحاكمة الوزراء وأعضاء مجلس الأمة المتهمين بجرائم سياسية تتعلق بوظائفهم العامة ولمحاكمة حكام محكمة التمييز عن الجرائم الناشئة عن وظائفهم والبت في الأمور المتعلقة بتفسير هذا القانون وموافقة القوانين لأحكامه".

وفي عام 1968، نصَّ الدستور المؤقت للانقلابيين على أن انتخاب أعضاء المحكمة العليا يتم من قبل مجلس الوزراء باقتراح من وزير العدل ويتم تعينهم بمرسوم جمهوري.

هذه المقدمة ضرورية ليعرف القارىء أنَّ المحكمة العليا ليست كياناً مقدساً أو خطاً أحمر مثلما يحاول البعض إضفاء هالة من القدسية عليها، فما هي قدسية محكمة يتم تعيينها والتحكم بها وتسخيرها لتوجهات أحزاب؟

لقد تشكلت المحكمة الاتحادية العليا الحالية بموجب الأمر رقم 30 لقوات الاحتلال الأميركي عام 2005، وتم نشره في جريدة الوقائع العراقية في عددها 3996 في 17 آذار (مارس) 2005، أي قبل استفتاء الشعب العراقي على الدستور في 15 تشرين الأول (أكتوبر) 2005.

ينص الدستور العراقي في المادة 92 الفقرة "ثانياً" على ما يلي:

"تتألف المحكمة الاتحادية العليا من القضاة وخبراء في الفقه الإسلامي يحدد عددهم وتنظم طريقة اختيارهم بقانون يسن بأغلبية ثلثي أعضاء مجلس النواب".

ولغاية يومنا هذا، لا يوجد خبراء للفقه الإسلامي في هذه المحكمة، وكذلك لم يسن أي قانون يحدد عدد أعضاء المحكمة أو آلية اختيارهم ولا حتى عدد سنوات خدمة أعضائها، ولا يزال قانون رقم 30 لبريمر هو الأساس في تشكيل المحكمة الاتحادية. والمفارقة في موضوع هذه المحكمة أن التعديل الوحيد الذي أجري على قانونها كان بعد أن أحيل عدد من أعضائها للتقاعد، فاضطر البرلمان لرفع أسماء قضاة آخرين للمصادقة عليهم... فأين هي الحالة الدستورية التي تجعل من هذه المحكمة شرعية وقراراتها باتة؟ وإن كانت فعلاً دستورية، فلماذا وافق أطراف الإطار التنسيقي أثناء مفاوضات تشكيل الحكومة على سن قانون للمحكمة الاتحادية؟

لقد أوقعت المحكمة الاتحادية نفسها في الكثير من القضايا الشائكة التي تضع علامات استفهام كثيرة حول أدائها ولا نقول نزاهتها، فقد تكون هذه الهفوات ناتجة عن تدخلات وضغوطات يتعرض لها أفراد هذه المحكمة، ومن هذه الهفوات:

*/ أصدرت المحكمة الاتحادية عام 2006 قراراً أكدت فيه أن الهيئات المستقلة تتبع فقط لمجلس النواب. ثم أصدرت عام 2011 قراراً نفت فيه قرارها السابق وأكدت أن الهيئات المستقلة تتبع فقط السلطة التنفيذية.

*/ أصدرت عام 2007 قراراً رفع الدستورية عن قانون الانتخابات لسنة 2005 الذي جرت على ضوئه الانتخابات الأولى عام 2005 من خلال تأكيدها على عدم دستورية المادة المتعلقة بآلية حساب المقاعد الخاصة بالمحافظات، ثم جاءت وعارضته مع أحكام المادة 49/ أولا من الدستور موضحة أن هذا الانتهاك الفاضح لا يلغي نتائج الانتخابات لأنها جرت بموجب قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية، وبذلك انتهكت المحكمة الاتحادية العليا المادة 143 من الدستور الذي ألغى قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية، فاعتمدت عليه في التحكيم حول انتخابات جرت بعد إلغائه.

*/ فسرت الكتلة النيابية الأكبر بالكتلة البرلمانية المشكلة في الجلسة الاولى من الدورة البرلمانية الجديدة وهذا التفسير كان لانتخابات عام 2010 حيث كان هذا التفسير يصب في مصلحة تولي طرف معين رئاسة مجلس الوزراء... ثم فسرت الكتلة الاكبر عام 2022 تفسيراً مغايراً ليصب مرة أخرى في صالح نفس الطرف لكن بطريقة مغايرة للطريقة الاولى.

*/ أصدرت قرارا عام 2010 اقرت فيها بان اختصاصها تشمل الاختصاصات الواردة في القانون رقم 30 لعام 2005 ,ثم عادت وتنازلت عن صلاحية النظر في الطعون الخاصة بالقضاء الادارة في نفس القانون. وبذلك فقد اضافت لنفسها صلاحيات ثم ألغتها.

*/ اقرت المحكمة الاتحادية عام 2011 انه لا يجوز لمجلس النواب سن او اقتراح اي قانون الا بموافقة السلطة التنفيذية وذلك ارضاءا لرئاسة الوزراء في تلك الفترة، ثم عادت في عام 2015 لاعادة صلاحية تقديم البرلمان لمقترحات القوانين.

*/ أصدرت عام 2011 قرارا منعت فيه النواب من طلب التفسيرات الدستورية وحصرتها في رئيس الجمهورية او رئيس مجلس النواب او احد نائبيه او رئيس مجلس الوزراء، ثم عادت عام 2017 وسمحت بطلب التفسيرات الدستورية من قبل الامين العام لمجلس الوزراء.

*/ لم تعترض المحكمة الاتحادية اقالة حيدر العبادي لنواب رئيس الجمهورية استجابة للتظاهرات الشعبية آنذاك، لكنها أعادت عام 2016 نواب رئيس الجمهورية بضمنهم المالكي "المقال سابقاً" الى المنصب في تحدي واضح لمطالب المتظاهرين قبلها.

*/ تفسيرها للمناطق المتنازع عليها ... فقد اصدرت عام 2013 قرارا بانها غير مختصة باعطاء الراي في موضوع المناطق المتنازاع عليها ... ثم رجعت عام 2017 فعرفت المناطق المتنازع عليها بانها الاراضي التي كانت تدار من قبل حكومة اقليم كوردستان بتاريخ 19/3/2003 ثم عادت بعد ذلك باشهر ونسفت تعريفها الاول بتعريف اخر وهو " ان المناطق المنتنازع عليها هي التي لم تكن تدار من قبل حكومة اقليم كوردستان في 19/3/2003.

*/ رفضت ترشيح مرشح الديمقراطي الكوردستاني عام 2021 ليصب في صالح اطراف اخرى.

*/ عملت مرة اخرى لصالح طرف معين حينما طالب التيار الصدري وبعض المستقلين المحكمة بحل البرلمان عام 2022 مبررة ذلك بـ"عدم الاختصاص" وعلى ذلك استمر البرلمان العراقي بالعمل رغم تجاوز المدة الدستورية لعمله... في حين انها الغت شرعية برلمان اقليم كوردستان بحجة انتهاء المدة الدستورية له.

إقرأ أيضاً: وأخيراً... انتصرت إيران في العراق

*/ تفسيرها لنصاب انتخاب رئاسة الجمهورية من خلال ثلثي عدد اعضاء البرلمان.

*/ اصدارها قرارا ضد قانون النفط والغاز في اقليم كوردستان في شباط عام 2022 في توقيت كان فيه الديمقراطي الكوردستاني يجري مباحثات تشكيل الحكومة مع التيار الصدري والحلبوسي وبذلك خلط الاوراق لصالح الطرف المنافس.

*/ إصدار قرارات الحكومة الاتحادية بارسال سلف مالية الى اقليم كوردستان تكملة لمبالغ رواتب موظفي الاقليم. ومن الواضح الاغراض السياسية الكامنة وراء هذا القرار.

*/ ما ذكره السيد مشعان الجبوري في اخر لقاء تلفزيوني يعتبر تصريحا خطيرا يفترض اجراء تحقيق دقيق حوله، حيث قال ان رئيس المحكمة العليا الحالي هدده بضرورة خروجه من التحالف الثلاثي الذي كان ينافس الاطار التنسيقي على تشكيل الحكومة في الانتخابات الاخيرة.

ان سكوت رئيس المحكمة الاتحادية عن هذا التصريح يؤكد صحة ما ذهب اليه السيد الجبوري، فالسكوت هذا لا يمكن ان يفسر بانه ترفع عن سفاسف الامور، لان الموضوع هذا ليس شخصيا كي يكون رئيس المحكمة الاتحادية حرا في التنازل عن حقه بمقاضاة السيد الجبوري وانما هو اتهام لدور شخصية معنوية يترأس مؤسسة يفترض انها مستقلة وبعيدة عن التجائبات السياسية، وهو ملزم بالدفاع عن هذه الشخصية المعنوية واظهار الحقيقة للشارع العراقي.

*/ في الدول المحترمة هناك شروط يجب ان تتوفر في رؤساء الهيئات المستقلة من بينها ألا يكونوا منتمين لأي حزب وليست لديهم ميول سياسية، ويكونون قليلي الظهور في المناسبات العامة والمناسبات الاجتماعية وان يتجنبوا الدخول في المزايدات السياسية... لكن ما لاحظناه في رئيس المحكمة الاتحادية الحالي انه حاضر في المناسبات الاجتماعية، آخرها كان حضوره مراسيم وفاة والدته وكان في استقبال وتوديع المعزين، ومرة اخرى ظهرت ميوله السياسية من خلال الحفاوة التي كان يخص بها برلمانيي طرف سياسي معين مقارنة بالمنتمين للاطراف الاخرى، مما يضع تساؤلات كثيرة حول نجاح السيد العميري في الحفاظ على مسافات متساوية مع جميع الفرقاء.

إقرأ أيضاً: مغادرة القوات الأميركية في الميزان

*/ ان اختيار السيد هادي العامري نجل رئيس المحكمة الاتحادية لمنصب محافظ ديالى يشير ايضا الى العلاقات المتميزة بين السيد رئيس المحكمة وبين هذه الاطراف السياسية، بالرغم من عدم أهلية المرشح للشروط القانونية المفترض تواجدها في المرشحين وخاصة في ما يتعلق بشرط العمر. والغريب ان السيد هادي العامري نشر في رسالة له موافقة السيد رئيس المحكمة الاتحادية على تولي نجله هذا المنصب مما يعتبر خرقاً خطيراً للقانون والأعراف، ولولا الضجة التي أثارها الرأي العام على هذا الترشيح لتم تمرير الموضوع وأصبح ابن رئيس المحكمة الاتحادية محافظاً.

استناداً على النقاط أعلاه، يتوضح لنا أن أداء المحكمة الاتحادية وكل قراراتها تصب في صالح طرف واحد من الأطراف السياسية في العراق على حساب بقية الأطراف، والطرف السياسي "المستفيد" هذا حريص جداً على إبقاء وضع المحكمة الاتحادية على ما هو عليه حالياً ليسهل له تمرير ما يراه مناسباً لمصالحه "وكله بالقانون". وبالرغم من أن مفاوضات تشكيل الحكومة الحالية كان يؤكد على وضع قانون للمحكمة الاتحادية يبعدها عن المناكفات السياسية الا ان "المستفيدين" من الوضع الحالي للمحكمة الاتحادية لم ينفذوا لغاية اليوم تعهداتهم بشان هذا القانون مما يفقد المحكمة ما تبقى له من شرعية ودستورية.