منذ نشأتها، قدمت الحركة الصهيونية إسرائيل إلى العالم الغربي على أنها "واحة ديمقراطية" في محيط عربي وشرق أوسطي استبدادي لا يؤمن بالديمقراطية وقيمها، ولا يعرف سوى الانقلابات العسكرية طريقًا إلى السلطة والحياة العامة. لذلك، وجب على الغرب أن يوفر لهذه "الديمقراطية" كل أشكال الدعم، بغض النظر عن المسار الدموي الذي سلكته لتثبيت دعائم وجودها، وهو مسار يتعارض نظريًا مع القيم التي يزعم هذا الغرب أنه يدافع عنها. وقد تنبهت الحركة الصهيونية إلى هذا الأمر بشكل مبكر، فأحاطت سرديتها بمظلومية تاريخية لا تزال متواصلة حتى الآن.

وبعيدًا عن اعتبارات الغرب الاستعماري والإمبريالي في قبول هذا التوصيف، ورغم أن الأنظمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في المنطقة العربية والعالم الثالث بشكل عام، كانت نتيجة واقع زرعت بذوره الدول الاستعمارية نفسها عبر قوانين وسياسات وأعراف كرست أوضاع التخلف والتبعية بهدف إحكام السيطرة على دول حديثة النشأة، لجعلها أسيرة الارتهان الأبدي لتلك الدول، فقد كان التعاطي مع الحركة الصهيونية مختلفًا لجهة دعم مشروعها في دولة خاصة بيهود العالم. هذا العامل الأول يفسر أسباب حماسة الدول الغربية لوجود إسرائيل وجعلها مختلفة، نظريًا، عن المحيط الذي ساهمت هي في نشأته.

وإذا كانت السمة العامة للواقع السياسي في منطقة الشرق الأوسط تحديدًا هي غياب الديمقراطية والتعددية السياسية والحزبية وغياب التنمية والعدالة الاجتماعية، فإن الغرب الاستعماري لا يتحمل فقط مسؤولية مباشرة في خلق هذا الواقع، بل في تأصيله وتحويله إلى مؤسسة تشكل عائقًا أمام أي محاولات تسعى إلى التغيير. وقد بات هناك ما يشبه التفاهم أو العقد الاجتماعي بين الدول الاستعمارية والنظام الرسمي في المنطقة، مفاده أن هذا النظام يضمن الحفاظ على مصالح الدول الاستعمارية وقمع أي حركات تغييرية تحررية تدعو إلى الانفصال والتحرر من آثار الاستعمار. في المقابل، تتعهد الدول الاستعمارية بدعم هذه الأنظمة سياسيًا واقتصاديًا، وعدم إثارة قضايا مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان كذرائع للتدخل في شؤون الدول.

العامل الثاني الذي لا يمكن إغفاله في الحديث عن نشأة إسرائيل هو حاجة الغرب الاستعماري لنقطة ارتكاز تضمن له مصالحه في المنطقة بعد انتهاء الاستعمار المباشر، وتكون هذه النقطة هي عين الغرب ويده الطولى في قمع أي حركة تحررية تتمرد على الواقع الذي زرعه الاستعمار نفسه بعد مغادرته. هذا ما يفسر أيضًا أسباب مسارعة الدول الغربية في دعم إسرائيل بعد عملية "طوفان الأقصى"، التي أبرزت حقيقة أن إسرائيل أصبحت عاجزة عن حماية نفسها، فكيف لها حماية المصالح الغربية؟ الأمر الذي دفعها لأن تأتي بأساطيلها وبوارجها الحربية لتتكفل هي بحماية هذه المصالح تحت شعار "الدفاع عن إسرائيل".

العامل الثالث هو رغبة الدول الغربية، خاصة الأوروبية، في التخلص من مشكلة "المسألة اليهودية"، بكل المبالغات والتشويش الذي تعرض له اليهود في بعض الدول، خاصة في ألمانيا الهتلرية. فكانت قضية الخلاص من هذه المسألة بتصديرها إلى منطقة الشرق الأوسط أولوية لدى عدد واسع من الأحزاب والنخب والسياسيين في الغرب. اعتقدوا أنهم بدعم مطالب الحركة الصهيونية ومخططاتها، يتخلصون من "عذاب ضمير"، وفي الوقت نفسه يبعدون عنهم مشكلة كانت تكبر عامًا بعد آخر.

إقرأ أيضاً: ليست عنفاً بل جرائم موصوفة

لذلك، وفي عودة إلى الماضي، فإن مسألة "العداء للسامية" لم تكن وليدة المسألة الفلسطينية، بل كانت القضية الفلسطينية إحدى النتائج التي تولدت عن الأفكار العنصرية التي طرحتها الحركة الصهيونية منذ ما قبل القرن التاسع عشر، وكان الشعب الفلسطيني ضحية لهذه الأفكار. وبالتالي، فإن الحاضنة الأساسية لشعار "العداء للسامية" كانت في أوروبا، أما اليهود الذين كانوا يعيشون في الدول العربية والإسلامية فلم يعانوا عبر التاريخ من مظاهر كراهية. لذلك، فمن غير المنطقي أن تكون المنطقة العربية بيئة حاضنة لما يسمى "العداء للسامية"، وجميع أبنائها ساميون. وإذا كانت هناك ممارسات تتسم بالكراهية تجاه اليهود في الغرب، فقد كانت نتيجة لمشكلة طورها الغرب نفسه وسماها "المشكلة اليهودية"، وهي قامت أساسًا لأسباب تاريخية مرتبطة بالمجتمعات الأوروبية التي كانوا يقيمون فيها وبالدور الاقتصادي الذي لعبته بعض الفئات الاجتماعية اليهودية. ولم يمثل اليهود في حينه مشكلة بالنسبة للشعوب الشرقية.

لذلك، لا يمكن النظر إلى "ديمقراطية إسرائيل" المزعومة إلا في إطار الظروف التي رافقت نشأتها، بعد أن ارتبط وجود إسرائيل بفكر دموي إجرامي سيجته الدعاية الصهيونية بأساطير تاريخية ومزاعم دينية لتبرير سياسة المجازر التي ارتكبت ضد آلاف المدنيين الآمنين من أبناء الشعب الفلسطيني. وبالتالي، فإن تقييم "الديمقراطية الإسرائيلية" لا يمكن أن يستقيم خارج إطار الأفكار التي استندت إليها الحركة الصهيونية في مشروعها، وخارج إطار عمليات الإرهاب التي ارتكبتها العصابات الصهيونية، وبدعم مباشر من الدول الغربية الاستعمارية، ضد الشعب الفلسطيني.

إقرأ أيضاً: لجان التحقيق.. حاجة أم ضغوط سياسية على الأونروا!

وفقًا لمصادرهم، فإنَّ اليهود يستمدون "حقهم في فلسطين" من مصدرين أساسيين: ديني وتاريخي. وعلى هذين المصدرين بنيت كل الرواية التي نسجتها الحركة الصهيونية بحنكة وبالتواطؤ مع الدول الاستعمارية في تلك الفترة، والتي ما زالت تداعياتها متواصلة حتى اليوم. واحدة من نماذج هذه التداعيات هي شعار "معاداة السامية" الذي شاع استخدامه قبل أن تطأ أقدام اليهود أرض فلسطين.

لعل السؤال الذي يحمل الإجابة هو: هل يمكن بالمعنى الإنساني والحقوقي بناء ديمقراطية، بمختلف أشكالها، على أنقاض شعب وأرض وارتكاب المجازر بحقه؟ المنطق الاستعماري الإمبريالي يجيب بنعم، ولدينا في تجربة بناء الولايات المتحدة نفسها خير مثال. كذلك، بمواقف وزيرة الخارجية الأميركية السابقة مادلين أولبرايت عندما قالت في تفسيرها لمقتل الملايين جوعًا من أطفال العراق: "إن الثمن يستحق"، وبمواقف وزيرة الخارجية الأميركية كونداليزا رايس حين بررت قتل المدنيين في جنوب لبنان بقولها: "إنها آلام مخاض لولادة شرق أوسط جديد". ما يحدث الآن في قطاع غزة يكاد يتطابق مع المشهدين العربيين السابقين.

بغض النظر عن السردية الصهيونية وتساوق الغرب معها، فإنَّ "الديمقراطية الإسرائيلية" وما فعلته خلال عقود من نشأتها، لا يبدو أنها جاءت منسجمة مع الأفكار والمبادئ التي ما زالت الدول الغربية الاستعمارية تعمل وفقًا لها وتدافع عنها، رغم أنها تبدو متناقضة في كافة تفاصيلها، حتى وإن كان لها منطقها وتفسيرها الخاص في دفاعها عن الديمقراطية وحقوق الإنسان. فإن أحداث نكبة فلسطين وما رافقها من عمليات تطهير عرقي وتهجير أكثر من 800 ألف فلسطيني عن أرضهم وبيوتهم تسقط المنطق المضلل الذي حاولت الحركة الصهيونية وبعض الدول الغربية ترويجه باعتبار "إسرائيل دولة ديمقراطية في محيط قمعي واستبدادي"، بينما الواقع الذي يتكرس في كل لحظة هو أن إسرائيل، بممارساتها وقوانينها وأعرافها، هي دولة احتلال عنصري لا ينسجم مع الحد الأدنى من القيم الديمقراطية.

إقرأ أيضاً: الاعتراف بدولة فلسطين حق تأخر تنفيذه

مشهدان منسجمان يؤكدان سقوط كذبة "إسرائيل دولة ديمقراطية": المشهد الأول حرب الإبادة التي ترتكب ضد المنشآت المدنية في قطاع غزة، والتي أسفرت عن سقوط عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى غالبيتهم من الأطفال والنساء. فأي ديمقراطية هذه التي تجيز ارتكاب المجازر ضد آمنين، وأي منطق يمكن أن يبرر إلقاء أكثر من 70 طنًا من المتفجرات على بقعة جغرافية تعج بالسكان وتعتبر الأكثر كثافة في السكان على مستوى العالم. والمشهد الثاني هو الانقسام السياسي الراهن داخل إسرائيل، الذي يبرز هشاشة وعجز النظام السياسي والديمقراطي في معالجة واقع مأزوم نتيجة تداعيات "طوفان الأقصى"، حيث تتحكم مجموعة من الفاشيين العنصريين بمصير ومستقبل ليس اليهود فقط، بل مصير المنطقة بأكملها.

إلى جانب ذلك، كيف يمكن للديمقراطية الغربية والإسرائيلية أن تبرر قتل العشرات من الصحفيين واستهداف مقراتهم، وقصف المستشفيات والمراكز الصحية والأفران ودور العبادة ومراكز إيواء النازحين، واستهداف قوافل الإغاثة والمقرات الدولية خاصة مقرات وكالة الأونروا؟ وهي ممارسات يؤصلها فكر استئصالي صهيوني يؤمن بالقتل والمجازر وسيلة وحيدة لتحقيق أهدافه. وبالتالي، فإن الديمقراطية الغربية، بغضّ النظر عن محاولات تجميل الوجه القبيح لهذا النموذج الدموي، هي ديمقراطية زائفة تتناقض مع كل القيم التي تنادي بها وتدافع عنها.