أن يتم "انتخاب" الرؤساء العرب بالغالبية المطلقة من الأصوات، وأن تُحسم نتائج الانتخابات من دورها الأول دون الحاجة إلى تضييع الوقت وإثارة الجدل والترقب، فتلك هي طقوس "الديمقراطية" في جمهوريات البلاد العربية التي تتحكم فيها الأقلية بالأغلبية الصامتة. ولا غرابة أيضًا في تطبيق نظرية الوفاء الجماهيري للزعيم عادل إمام، حيث يُمكّن المتوفين من الإدلاء بأصواتهم لصالح القائد "الروحي"، أو أن تُزوّد مراكز التصويت بتكنولوجيا ذكية توفر على الناخب العربي عناء التنقل وكلفة المواصلات. لكن أن تتضارب أرقام نسب المشاركة ونتائج الانتخابات، وأن يُبدي الفائز امتعاضه من ذلك، فهي سابقة لم تحدث حتى في أعتى ديمقراطيات العالم!

نتائج الهيئة الوطنية للانتخابات قفزت قفزة صاروخية في آخر ثلاث ساعات من العملية، مما كشف عن شرخ كبير بين النسب التي حققها كل ناخب والنسبة الإجمالية للمشاركة. هذا الأمر دفع الرئيس المنتهية ولايته عبد المجيد تبون، ورغم فوزه الكاسح بنسبة 94.65 بالمئة، إلى انتقاد بيان الهيئة وأرقامها "الضبابية" التي تسيء إلى فوزه وشفافية العملية الانتخابية، وذلك في بيان مشترك حمل توقيع مديريات الحملة الانتخابية للمرشحين الثلاثة.

يمكن وصف مشاركة تبون في بيان الامتعاض على أنها تنصّل من أخطاء الهيئة الانتخابية الكارثية، من باب إبعاد الشبهة في مسألة تضخيم النتائج. وفي هذه المشاركة، رسائل مبطنة تشير إلى أن النتائج المعلنة لم تكن مبرمجة بشكل صحيح، بدليل وقوع خطأ جسيم لا يقع فيه تلاميذ الطور الإعدادي. حتى مشاركة المنافسين في هذا البيان لا يمكنها تغيير الواقع ونتيجة الانتخابات النهائية، رغم أنها قد تطالب بإعادة فرز الأصوات أو العملية من أصلها. ولكنها على الأقل تُبعد شبهة المترشح "الكومبارس" أو "الأرنب".

لحسن حظ تبون، أنَّ المنافسين يرفضون النسبة ولا يرفضون النتيجة النهائية، حيث ينددون بالخسارة دون التشكيك في نزاهة الانتخابات أو أحقية تبون بلقب "الفائز". ولحسن حظه أيضًا أنَّ الأغلبية الصامتة ساهمت في فوزه الكاسح، وأنَّ المعارضة التي أُفرغت من محتواها لا تملك مشروعًا أو زعيمًا سياسيًا قادرًا على منافسة السلطة. إضافةً إلى أن الجزائريين، كغيرهم من الشعوب العربية، قد طلقوا السياسة وأداروا ظهورهم للسياسيين، واختاروا الصمت كممارسة سياسية وردٍ على السلطة الحاكمة.

داخل الجزائر، لا يوجد إعلام مستقل يمكنه تسليط الضوء على تفاصيل العملية الانتخابية وتضارب النتائج. لذا، ليس غريبًا أن يتجاوز الإعلام هذه "المهزلة" بصمت، وأن يتم التعقيب عليها باقتضاب شديد ضمن حدود مقص الرقيب. الصحافة لم تعد تتمتع بالسقف العالي من الحريات الذي وفّره نظام عبد العزيز بوتفليقة سابقًا، حين كان يُسمح بنشر الكاريكاتير الساخر والمقال الناقد. حتى الماكينات الإعلامية التي عارضت النظام سابقًا دخلت "بيت الطاعة" وتحولت إلى أبواق تنشر البروباغندا، بعد أن وضعت أقلامها في خدمة من يمولها ووافقت على الحدود الحمراء المرسومة.

ولأنه لا وجود لمشهد سياسي حقيقي في الجزائر، أو عمل حزبي باستثناء أحزاب الموالاة، أو معارضة حقيقية، فإنَّ نجاح تبون الكاسح لم يكن بحاجة إلى تزوير. فقد جاء كنتيجة منطقية وحتمية لممارسات أفرزت تصحرًا سياسيًا. ومع الفشل الاقتصادي الذي ألقى بظلاله على جميع مناحي الحياة في الجزائر، كان العزوف الشعبي الواسع حاضرًا، مما مكّن الأقلية من فرض منطقها على الأغلبية الصامتة.