أثار قرار السلطة الفلسطينية بإلغاء نظام دفع المخصصات المالية لعائلات الأسرى والشهداء والجرحى الفلسطينيين جدلاً واسعاً في الأوساط الفلسطينية، بين من اعتبره تراجعاً عن المسؤولية الوطنية تجاه فئة قدمت من التضحيات ما يفوق حجم تلك المساعدة المادية بكثير، ومن يراه خطوة ضرورية لإعادة هيكلة النظام الاقتصادي والاجتماعي الفلسطيني تماشياً مع الظروف الاقتصادية الخانقة التي تعيشها السلطة.

على مدار سنوات، واجهت السلطة الفلسطينية ضغوطاً سياسية واقتصادية أثرت بشكل كبير على مواردها المالية، مما أجبرها على تبني إجراءات تقشفية لضمان الوفاء بالتزاماتها الأساسية. وفي حين يحاول البعض الترويج لفكرة أن تعديل آلية صرف رواتب الأسرى هو تخلٍّ عن قضيتهم، فإن الواقع يؤكد أن هذه الخطوة تأتي استجابة لوضع مالي صعب.

بدأت الضغوط الغربية فعلياً عبر تقليص المساعدات المالية، في سياق سياسة واضحة تهدف إلى فرض اشتراطات سياسية على السلطة، من بينها وقف مخصصات الأسرى وعائلات الشهداء. ومع تراجع الدعم الدولي والعربي، وجدت السلطة نفسها أمام تحديات مالية خانقة انعكست على مختلف القطاعات الحيوية، مما استدعى البحث عن حلول تضمن استمرارية الالتزامات دون انهيار المنظومة المالية.

إقرأ أيضاً: من يتحمل فاتورة إعمار غزة؟

من وجهة نظر الغرب، فإن وقف هذه المساعدات يُعتبر محاولة لتجفيف منابع التحريض على العنف، حيث يُنظر إليها على أنها مكافأة لأعمال مدرجة ضمن تصنيف "الإرهابية". ووفقاً لهذا المنطق، فإن إيقاف هذه المدفوعات سيشجع على تبني خطاب أكثر اعتدالاً ويعزز ثقافة السلام بدلاً من الصراع، ما يعني أن هذه الخطوة قد تُظهر للعالم أن السلطة الفلسطينية جادة في التخلي عن أي ممارسات يمكن أن تُفسر على أنها دعم للعنف، مما قد يفتح أبواباً جديدة للحوار الدولي والدعم السياسي.

وإذا كانت هذه الخطوة ضرورية لبناء "دولة فلسطينية مسؤولة"، فإنها تبدو منطقية من زاوية سياسية غربية بحتة. ولكن هل يعكس هذا التصور الغربي فهماً عميقاً لجذور الصراع وأسبابه؟ أم أنه يقع في فخ المعايير المزدوجة التي تطبع السياسة الغربية تجاه القضية الفلسطينية؟ وهل تعالج هذه المقاربة الأسباب الحقيقية الكامنة وراء انتشار العنف ومشاعر الكراهية وثقافة الانتقام التي تغذيها الممارسات الإسرائيلية بحق الفلسطينيين؟

إقرأ أيضاً: التقارب بين لبنان وسوريا ضرورة إقليمية

الحقيقة أن العنف المتبادل بين الفلسطينيين والإسرائيليين هو نتاج لغياب العدالة واستمرار الاحتلال وانعدام الأفق السياسي. فمن جهة، يعاني الفلسطينيون من فقدان الأمل في إمكانية تحقيق دولة مستقلة، ومن جهة أخرى، يعيش الإسرائيليون في خوف دائم من الهجمات والعمليات الانتقامية. هذه الحلقة المفرغة من العنف لن تنتهي إلا بوجود حل سياسي شامل وعادل وفق الشرعية الدولية، عنوانه الرئيسي: قيام الدولة الفلسطينية.

من حيث المبدأ، تدرك القيادة الفلسطينية أهمية التفاعل مع المتطلبات الدولية لضمان استمرار الدعم السياسي والاقتصادي للقضية الفلسطينية، لكنها في الوقت نفسه تواجه معادلة صعبة: كيف يمكنها تحقيق التوازن بين الضغوط الخارجية والواجب الوطني تجاه الأسرى وعائلات الشهداء؟ فمن ناحية، استمرار هذه الدفعات يعكس التزاماً أخلاقياً واجتماعياً تجاه أبناء الشعب الفلسطيني، ومن ناحية أخرى، فإن أي خطوة نحو تقليصها قد يُنظر إليها على أنها رضوخ غير مبرر للضغوط الإسرائيلية والغربية.

إقرأ أيضاً: الدم الفلسطيني بين المأساة وأجندات السياسة

المشكلة لا تكمن في القرار ذاته، بل في كيفية تفسيره. فالسلطة لم تلغِ مستحقات الأسرى، ولم تتخلَّ عن التزاماتها تجاههم، لكنها تعمل على توزيع الموارد بشكل أكثر عدالة وفقاً للاحتياجات الفعلية والإمكانيات المادية، وهو أمر يحدث في مختلف الدول التي تواجه تحديات مالية. لكن بعض الجهات التي اعتادت استغلال أي خطوة تتخذها القيادة الفلسطينية لتأليب الرأي العام تحاول تصوير الأمر وكأنه تنازل سياسي، مع أن هذه الجهات، وعلى رأسها حركة حماس، قد سارت عكس تيار الحل السلمي، وأثبتت من خلال كل المواجهات التي خاضتها أن نهجها لا يحقق مكاسب للفلسطينيين، بل يزيد من قساوة واقعهم.

إن المطلوب اليوم هو قراءة المشهد بموضوعية، بعيداً عن الاستقطاب السياسي الذي يحاول استغلال كل خطوة تتخذها السلطة لصب مزيد من الزيت على نار الأزمات الفلسطينية. فالدعم للأسرى وعائلاتهم لم يتوقف، وإنما أعيدت هيكلته وفق رؤية مالية تضمن استمراريته في ظل أزمة مالية خانقة، كان العامل الرئيسي فيها الضغوط الخارجية وتراجع الدعم العربي، وليس أي قرار داخلي يهدف إلى التخلي عن الحقوق الوطنية الثابتة.