من يقرأ تاريخ العلاقة بين بغداد وأربيل منذ 2005، العام الذي كرّس فيه الدستور العراقي النظام الفيدرالي، يدرك أن ملف النفط والموازنة كان ولا يزال حجر العثرة الأكبر في طريق الاستقرار. حصة إقليم كردستان المقررة بـ 17 بالمئة من الموازنة الاتحادية لم تكن يومًا محصّنة، بل ظلت ورقة تفاوض وضغط، تُقطَع أو تُؤجَّل بحسب مزاج السياسة المركزية. ففي عام 2014 أوقفت بغداد تحويل الأموال تمامًا، ليجد الإقليم نفسه أمام أزمة خانقة انعكست مباشرة على رواتب الموظفين، فيما اضطر المواطن الكردي أن يتحمل سنوات من الحرمان دون ذنب. وجاء استفتاء أيلول (سبتمبر) 2017 ليضيف مزيدًا من الزيت على النار، حين ردت الحكومة الاتحادية بإغلاق المطارات وقطع الموازنة وفرض حصار اقتصادي، ما أجبر أربيل على الاعتماد شبه الكامل على صادراتها النفطية المباشرة.
وسط هذا المشهد القاتم تولّت التشكيلة التاسعة لحكومة إقليم كردستان برئاسة مسرور بارزاني مهمتها في صيف 2019. لم يكن الطريق مفروشًا بالورود، فالموازنة ما زالت محل نزاع، والرواتب تُستَخدم كورقة سياسية، والشركات النفطية الأجنبية تعرضت لقصف بالصواريخ والطائرات المسيّرة في 2022 و2023، فيما استُهدف رجال أعمال أكراد في محاولة واضحة لخلق بيئة طاردة للاستثمار. ومع ذلك، اختارت حكومة الإقليم أن ترد بالعمل لا بالشكاوى، وأن تحوّل الأزمات إلى مشاريع ملموسة على الأرض.
الأرقام هنا تتحدث بوضوح. تسعة سدود جديدة بطاقة تخزين تقارب 150 مليون متر مكعب، ومشروع مياه أربيل الطارئ الذي تصل كلفته إلى نحو 480 مليون دولار ليؤمّن حاجة العاصمة لأكثر من ثلاثة عقود بطاقة يومية تقارب نصف مليون متر مكعب. في الزراعة، توسعت كردستان في بناء الصوامع وشجعت تصدير الفواكه والخضراوات إلى أسواق خليجية وأوروبية، بينما شهد قطاع الصناعة إنشاء ما يقارب ألف معمل جديد أضيف إلى أكثر من 4500 معمل قائم. وعلى صعيد البنية التحتية، جرى إنجاز ما يقارب ألفي مشروع طرق وجسور، إلى جانب بناء عشرات المستشفيات والمدارس. أما في مجال الطاقة، فقد انطلقت مشاريع بديلة أبرزها محطة كهرباء شمسية بقدرة 25 ميغاواط/ساعة ومشروع "روناكي" الذي رفع إنتاج الشبكة بنسبة 35 بالمئة، مما خفف من ساعات القطع الكهربائي التي عانى منها المواطنون طويلًا.
لكن الصورة لا تكتمل من دون التوقف عند البعد الإنساني. فالإيزيديون الذين تعرضوا لأبشع الجرائم على يد داعش عام 2014 وجدوا في حكومة مسرور بارزاني دعمًا حقيقيًا لإعادة إعمار قراهم وترميم معابدهم وتقديم الدعم للناجيات منهم. هذا البعد الاجتماعي لم يكن تفصيلًا ثانويًا، بل كان رسالة بأن الإعمار لا يُقاس بالإسمنت وحده بل أيضًا بترميم النسيج الإنساني.
إن قراءة المشهد بهذه الطريقة تكشف أن إقليم كردستان عاش أكثر من عقد كامل بين مطرقة الموازنة وسندان الخلافات السياسية، وتحمّل شعبه سبع سنوات من اقتطاع الرواتب أو تأخيرها، وعشرات الهجمات على منشآته النفطية. ومع ذلك، أُنجز ما يقارب ألفي مشروع طريق، وبُنيت سدود عملاقة، ونُفذ مشروع مائي استراتيجي يكلّف نصف مليار دولار، وانطلقت محطات كهرباء بديلة، وتوسعت الزراعة والصناعة والخدمات. هذه ليست مجرد أرقام جامدة، بل شهادة على أن إرادة العمل يمكن أن تتفوّق على حسابات السياسة.
اليوم، وبعد مرور أكثر من أربع سنوات على تولي مسرور بارزاني رئاسة الحكومة، يمكن القول إن كردستان تقف على أعتاب مرحلة مختلفة. صحيح أن الخلافات مع بغداد لم تُحل بالكامل، وأن الرواتب لا تزال ورقة بيد المركز، لكن المؤكد أن الإقليم وضع لنفسه أساسًا جديدًا للنهوض. فالصبر الذي تحلى به شعبه وثقته بقيادته، مع المشاريع التي تحولت من أفكار على الورق إلى واقع على الأرض، كلها مؤشرات إلى أن القادم سيكون أفضل. كردستان التي قاومت الأزمات والحصار والقصف تبدو اليوم مهيأة لأن تدخل مرحلة الإعمار المستدام، حيث تتحول المعاناة الطويلة إلى قوة دفع نحو مستقبل أجمل وأكثر استقرارًا.
ولا يمكن في هذا السياق إغفال الدور السياسي لمسرور بارزاني في إدارة حوار صعب ومعقد مع بغداد، بدأ بجولات تفاوضية شاقة وانتهى بالتوصل إلى حلول مرحلية سمحت بإعادة تصدير نفط الإقليم عبر شركة "سومو"، ما أعاد بعض التوازن إلى مالية كردستان وفتح نافذة جديدة للتعاون الاتحادي – الإقليمي. تلك العودة لم تكن مجرد خطوة اقتصادية، بل إشارة إلى أن الحوار حين يقترن بالإرادة السياسية يمكن أن يُنتج حلولًا عملية تحمي مصالح الجميع.













التعليقات