مما لا شك فيه أن ثورة 25 يناير بدأت بداية رائعة بقيادة قوى ليبرالية وعلمانية منها على سبيل المثال مجموعة quot;كلنا خالد سعيدquot; ومجموعة quot;حركة 6 أبريلquot; و quot;حركة كفايةquot; و quot;الجمعية الوطنية من أجل التغييرquot; وغيرها من المجموعات، والفضل الكبير أيضا يرجع للدكتور محمد البرادعى الذى حرك المياه فى البركة الآسنة.
وكما هو ثابت تاريخيا رفضت حركة quot;الأخوان المسلمونquot; فى البداية الإشتراك فيما عرف بثلاثاء الغضب (25 يناير)، ولكن عندما أيقن الأخوان المسلمون أن الموضوع نقلب بجد، إنضموا إلى ما عرف بجمعة الغضب (28 يناير)، ومما لا شك فيه أنهم أضافوا ثقلا للثورة ولكن للتاريخ الأخوان لم يفكروا فيها ولم يبدأوها ولم يشاركوا فيها من البداية لأنهم لم يكونوا على إستعداد للصدام مع النظام الذى سبق وأن عقدوا معه فى السابق بعض الصفقات الإنتخابية.
وأنا شخصيا لم أكن بالقاهرة فى عز الثورة ولكنى شاركت فى جمعة النصر يوم 18 فبراير فى ميدان التحرير والتى تلت تنحى حسنى مبارك والتى شارك وخطب فيها الشيخ القرضاوى خطبته العصماء، ويومها لم يكن للسلفيين تواجد يذكر، ولكن كان هناك تواجد مكثف للإخوان، وكانت تلك الجمعة بداية تراجع الذين فكروا فى الثورة وخططوا لها وقاموا بها ثم تراجعوا إلى الصفوف الخلفية، وكما قيل يومها أن quot;وائل غنيمquot; أحد شباب تلك الثورة وأحد مخططيها قد منع يومها من الوقوف على المنصة الرئيسية (وإن لم أشاهد ذلك شخصيا)، وهكذا يعيد التاريخ نفسه كما قيل :quot;فإن الثورات يخطط لها المخلصون ويقوم بها الشجعان ويقطف ثمارها الأوغادquot;!

وبعد ذلك فوجئنا بخروج عدد من المجرمين والقتلة السابقين من السجون وعودة بعضهم من الخارج، واصبح عبود الزمر نجم المرحلة بعد أن خرج بطلا من سجنه حيث كان أحد قتلة السادات وغيره. وهكذا رفعت شعارات إسلامية... إسلامية بعد أن كانت شعارات الثورة سلمية... سلمية، ثم بدأ مسلسل حرق بعض الكنائس والإعتداء على المسيحيين وتلاه مسلسل حرق الأضرحة، وكل هذا يحدث فى ظل إنفلات أمنى تام فى الشارع وقطع للطرقات، ووقف الجيش والشرطة موقف المتفرج معظم الوقت، وتعالت روح الإنتقام والتشفى وتوالت التعديلات الوزارية والدستورية، وكل هذا يحدث تحت أعين الليبراليين والعلمانيين الذين بدأوا الثورة والذين إنقلب معظمهم فجأة إلى ناصريين وإشتراكيين يريدون محاكمة كل شخص وكل مسئول وكل أصحاب رؤوس الأموال المصرية أو العربية أو الأجنبية، وتوقفت معظم الأعمال والإستثمارات وتوقف السياح عن القدوم إلى مصر وخلت الفنادق والمطاعم وعمت الفوضى، وصدقت فيما يبدو مقولة حسنى مبارك :quot;إما أنا أو الفوضىquot;.
فماذا فعلت الحركة الليبرالية المصرية إزاء كل ما يحدث، للأسف كل مافعلته هو أنها إتفقت على ألا تتفق على شئ، وضربت مثالا رائعا فى الفوضى وعدم التحضر فى الحوار أو النقاش، وأصبح دعاة الديموقراطية أكثرهم رفضا للديموقراطية، وظهر هذا واضحا فى رد فعل الليبراليين على نتائج الإستفتاء لأن معظمهم قال (لا) وفوجئوا أن الأغلبية بإكتساح (%77) قالت (نعم)، وبدلا من أن يقبلوا تلك النتيجة بروح ديموقراطية بدأوا فى مهاجمة الأغلبية، وبصراحة كان منظرهم وحش.
وبدا الإخوان أفضل تنظيما وإنضباطا وبدا وكأنهم بالفعل الحريصون على النظام والإستقرار، بينما بدأ الليبراليون بإتهام كل من يطالب بالإستقرار بأنه من فلول النظام، وكانت الطامة الكبرى فى موقعة العباسية، عندما حاولت مجموعة من متظاهرين quot;حركة 6 أبريلquot; التوجه للمجلس العسكرى (فى يوم عيد ثورة الجيش يوم 23 يوليو) فتصدى لهم المواطنون بالعباسية ودارت معركة بالحجارة إنتهت بإنتصار شعب العباسية على شعب 6أبريل، ووقف الجيش المصرى يتفرج على المعركة ثم فى النهاية قام الجيش المصرى بحماية إنسحاب آمن لقوات quot;حركة 6 أبريلquot;، وهنا تقدمت إلى الصفوف الأمامية القوى الإسلامية وقالت أن الجيش المصرى خط أحمر وهتفت للمشير وبالفعل بدت وكأنها أكثر حرصا على مصلحة الوطن وإستقراره من غيرهم، حتى كانت جمعة 29 يوليو والتى كانت من المفروض أن تكون جمعة quot;وحدة الصفquot; فإنتهت بكونها quot;جمعة السلفيينquot;.
....
وتعالوا نبحث بهدوء عن السبب فى فشل الليبرالية المصرية فى قيادة تلك الثورة التى بدأوها:
أولا: الليبرالية غير متوغلة فى الثقافة المصرية، وبسهولة يمكن للتيارات الإسلامية ضرب الليبرالية على أنها أفكار إستعمارية أمريكية إلحادية (إلخ آخر قائمة الإتهامات المعروفة ...)
ثانيا: حوالى %50 من الشعب المصرى لا يقرأ ولا يكتب، فكيف نطالبه التفريق بين العلمانية والليبرالية والأصولية والملوخية والسلفية؟؟
ثالثا: الدين متغلغل فى الثقافة المصرية، ولقد أثبت إشتطلاع للرأى أجراه معهد جالوب الأمريكى المشهور عام 2009 بأن الشعب المصرى هو أكثر شعب متدين فى العالم، سبقنا إيران والسعودية وباكستان، والمصريون القدماء هم من إخترعوا الأديان، لذلك ففكرة الليبرالية والعلمانية لن تجد فى مصر سوقا سهلا، والمسألة ليست تتعلق بالدين الإسلامى فقط، فتجد المسيحيين المصريين أكثر تشددا من مسيحيى العالم أجمع.
رابعا: الليبرالية والعلمانية المصرية ليس لها زعيم الآن تلتف حوله مثل سعد زغلول أو مصطفى النحاس أو عبد الناصر، وليس لها تنظيم قوى منضبط مثل تنظيم الأخوان المسلمون.
خامسا: الليبرالية المصرية إنحسرت فى مجموعة أفراد يكتبون على الإنترنت ويقرأون لأنفسهم وهم قلة أقل من القليلة، وأحيانا يدعون أن الأغلبية الصامتة معهم.
سادسا: كثير من الليبراليين المصريين يعيشون خارج مصر (وأنا واحد منهم) وليس لنا أى تأثير على الأحداث فى مصر وبصراحة معظمنا ليست لديه النية للعودة إلى مصر، بالرغم من إحتفاظنا ببيوتنا فى مصر.
سابعا: حتى الليبراليون الذين يعيشون داخل مصر ليسوا على إستعداد للبهدلة، فلم نسمع (إلا نادرا) عن ليبرالى دخل السجون والمعتقلات، فمعتقلات عبد الناصر والسادات ومبارك كانت عادة لا تضم سوى الشيوعيين والأخوان، يعنى بصراحة الليبراليون المصريون ناس quot;فافىquot; ممكن يعقدوا يتكلموا فى النادى أو فى ندوات شيك فى الشيراتون، لكن تقولهم تعالوا نروح إلى عشوائية منشية ناصر أو إلى نجع حمادى نتكلم مع الشعب الذى يعانى حقيقة، يقول لك يفتح الله، وكثير من الليبراليين المصريين يشعر بتعالى على الشعب الغلبان.
ثامنا: المنافس الرئيسى بإكتساح لليبرالية المصرية هم الإسلاميون، وهؤلاء مندمجون حتى النخاع مع الشعب، وبينما الليبراليون يخاطبون أنفسهم على صفحات الفيس بوك، فإن الإسلاميون يخاطبون الشعب المصرى الحقيقى من منابر 100 ألف مسجد كل يوم جمعة، ويأكلون معه على الأرض وعلى موائد الرحمن فى رمضان ويشربون من نفس quot;القلةquot; معه، هم بالفعل يمثلون هذا الشعب الشديد التدين.
تاسعا: بدا أن العديد من الليبراليين والعلمانيين سواء كانوا ناصريين أو يساريين أو غيرهم بأن كل همهم هو الإنتقام من نظام مبارك، وبدا أن تدمير الماضى أهم بالنسبة لهم من بناء المستقبل، وكلنا نعرف أن الهدم سهل والبناء صعب، وسار العديد منهم وراء بعض من الكتاب الهواة وأنصاف المحترفين ونجوم التوك شو فى التليفزيون وتصوروا أنهم يعكسون الإرادة الشعبية، حتى فوجئوا بأن أغلبية الناس يرغبون فى العودة إلى أعمالهم ويرغبون فى عودة السياح لكى يعمل أبناءهم وبناتهم ويرغبون فى جذب المستثمرين، وكل هذا لن يحدث طالما مصر تمر بحالة ترقب وقلق.
...
لذلك فاللأسباب المذكورة عاليه فحلال على الإسلاميين الثورة المباركة، وهارد لك لليبراليين والعلمانيين، وكل ثورة وأنتم طيبون!!
[email protected]