يتفق المعارضون والمؤيدون للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، على أن التدخل العسكري الأمريكي في العراق كان مغامرة غير محسوبة، وبأن الإدارة الأمريكية والأجهزة البحثية المعاونة، سواء الاستخباراتية أو الأكاديمية، قد فوجئت بالكثير والخطير الذي تجهله عن العراق وشعبها، وبما يترتب على حدوده الممتدة والمفتوحة مع جيران، كان يفترض أن تكون ردود أفعالهم وقدرتهم على التأثير على ما يحدث في العراق معروفة لدي مخططي الحملة، وكانت نتائج ذلك الجهل المزري غير المغتفر، هي ما نراه حالياً من فوضى وإرهاب بكل منطقة الشرق الكبير، لكن الأسوأ والأخطر هو فشل ndash;وليس تعثر- مشروع تحديث المنطقة، وبدلاً من أن يكون العراق باكورة التغيير والحداثة، ونموذج لديموقراطية عربية، صار على العكس مما أريد له ومنه، إذ صار دليلاً على فشل العرب في استيعاب الديموقراطية، وعلى فشل الديموقراطية في إثبات صلاحيتها كنظام حكم لشعوب هذه المنطقة.
وإذا كان كاتب هذه السطور قد سبق له أن كتب مقالاً بعنوان: quot;العراق وفلسطين رهان الليبراليين الجددquot;، فربما ليس من المبكر، أو من قبيل السقوط في هاوية التشاؤم، أن نقر بأننا نوشك على خسارة الرهان، لكن هذا ليس موضوعنا في هذه المرحلة على الأقل، إذ لا نملك رفاهية الحديث عن التغيير والتحديث، فالمهمة العاجلة الآن هي إنقاذ ما يمكن إنقاذه، ولكي نُرضي البعض يمكن توصيفها بأنها مهمة إصلاح ما أفسده تهور وجهل الإدارة الأمريكية، مهمة إيقاف النار التي تنشر بسرعة جنونية في الهشيم العربي، فهاهي النيران تمتد من العراق إلى لبنان، الذي لا نملك إلا توقع سقوطه القريب في ذات الفوضى العراقية، أو ربما الأسوأ الذي شاهدناه فيما حدث في قطاع غزة، الذي تمكنت منه الطالبانية العربية، لتهدد رؤوس الأفاعي المطلة منه حدود مصر المتماسكة حتى الآن، رغم ما نعرفه جميعاً عن القوة الجماهيرية والتنظيمية للقاعدة الأم (جماعة الإخوان المسلمين) للتيار الذي يحقق اليوم انتصارات يصح وصفها بالتاريخية، وعلينا في ذات الوقت أن نعترف بجهلنا بمدى قوة هذه الجماعة العسكرية، وإن كان لا يبدو منها على سطح الأرض المصرية أي إشارات، لكن هذا بالتأكيد لا يعني انتفاء وجودها.
لن نكون أول من يضع النقط على الحروف إذا قلنا أن طوفان الفوضى والإرهاب الذي يكتسح المنطقة ينطلق من إيران، ويستند على ذراعها السوري، وإذا كان تشبيهنا للأمر بالطوفان صحيحاً، فإنه من الصحيح أيضاً أن مقاومة الطوفان بملاحقة فيوضه بالتجفيف هنا وهناك وحيث يذهب، هي حماقة ومجهود بلا جدوى، غير إتاحة المزيد من الوقت وإمكانيات النجاح لاستشراء الفوضى والإرهاب وتمكينه، فالتكتيك والوحيد لصد الطوفان هو منعه من المنبع الذي يتدفق منه وهو إيران، وكسر الأنبوب الذي يصله بالشرق الأوسط وهو سوريا.
ربما التعقل المفاجئ والاضطراري الذي ألم بالسيد بوش وإدارته - نتيجة مغامرته الكارثية بالعراق ndash; هي التي تجعله يحجم حتى الآن عن فعل ما يتحتم عليه أن يفعله، أن يوجه ضربة شاملة قاصمة لإيران، تنهي تماماً قضية قدراته النووية، وتدمر قدراته العسكرية الهجومية التي تهدد منطقة الخليج، التي صارت تنام وتصحو على كابوس الصواريخ الإيرانية وهي تضرب منابع البترول، كما لا بد أن تقضي تلك الضربة على قوة الحرس الثوري الإيراني، بحيث تكون الضربات من الشدة والشمولية بما يكفل سقوط نظام الملالي الذي قام عام 1979، وفي نفس التوقيت لابد من توجيه ضربة رمزية موجعة للنظام البعثي السوري، تكفل إخراس عنترياته الإعلامية التحريضية، كما تصيب بالشلل أياديه الممتدة بالعبث في لبنان وفلسطين، لتتركه بعد ذلك للشعب السوري، ولما تأتي به الأيام.
التدخل العسكري الأمريكي بالمنطقة مكروه ولا ريب، والتعقل وعدم سفك المزيد من الدماء، وعدم توسيع رقعة الصراع، توجهات جوهرية لا غبار عليها، لكن معالجة الأخطاء الكبرى ndash; كغزو العراق ndash; ربما لن تتيسر إلا بأخطاء أكبر، ونسميها هنا أخطاء تجاوزاً، فالطلقة التي أطلقت على رأس ذئب كرتوني هو صدام حسين، أتاحت للوحش الإيراني أن يمد مخالبه إلى المنطقة، وها هو يحقق انتصارات متوالية، فيما كل القوى العالمية تأخذ موقف المتفرج والمحذر والمهدد، فيما شياطين الإرهاب الإيرانية تسفر أنيابها عن ابتسامة سخرية، مادام لديها مهلة من الوقت لا يتوقع أن تكون قليلة، لتحقق حلمها، بتحويل كل المنطقة إلى مستنقع من الفوضى والظلامية، تتسيده الدمى إيرانية التحكم، ليكون تحقيق حلم الإمبراطورية الفارسية الإسلامية، ثمرة تسقط تلقائياً بين أيادي ملالي طهران.
واضح أن القوى العسكرية للدول العربية بالمنطقة، لا تقوى على مواجهة أو صد الزحف الإيراني المدعوم سورياً، كما أن هذه الدول لا ذنب لها فيما نتج عن المغامرة الأمريكية، والتي قلبت الأوضاع بالمنطقة رأساً على عقب، وفوق هذا وذاك ما هو معروف عن افتقاد النظم السياسية بالمنطقة للجدارة والشرعية الجماهيرية، التي تمكنها من القيام بالمواجهة المطلوبة مع إيران، خاصة مع ما تمثله من حلم الدولة الإسلامية، القادرة على تحدي وهزيمة الغرب الكافر، وهو الحلم الذي يراود الملايين من المحيط إلى الخليج، كما لا يخفى على أحد، أن جميع هذه النظم ndash; ربما بلا استثناء ndash; تحافظ بالكاد على بقائها الهش، ومن المستحيل تصور قيامها بأي عمل جدي لا يستهدف مباشرة قمع القوى المناهضة لبقاء رموز تلك النظم على كراسيهم إلى الأبد.
الدعوة التي تتضمنها تلك السطور تبدو لليبراليين والعقلاء غاشمة، علاوة على ما تبدوه بالنسبة لليساريين والأصوليين وكافة أطياف العداء للغرب، كأنها خيانة للشعوب وعمالة للغرب ولقوى الهيمنة والاستكبار، لكننا لا نحفل برؤية هؤلاء وأولئك، بقدر ما يؤرقنا مصير المنطقة، في حالة استمرار ما يحدث حالياً، من نجاحات متوالية لقوى الظلام والتخلف والقتل، بداية من طرفي القتل والاقتتال في العراق، إلى حزب الله في لبنان، وما يحققه من سيطرة متنامية الدرجة على واحة الديموقراطية والحداثة في المنطقة العربية، ثم ما حققته أخيراً في غزة منظمة حماس، صنيعة جماعة الإخوان المسلمين المصرية، وعميلة إيران ورأس جسرها إلى قلب العالم العربي.
هذا السيناريو اللعين لن يتيسر إيقافه بإجراءات جزئية خجولة ومترددة، فالطرف الأخر حازم وعاقد العزم على تحقيق ما يصبو إليه، ويستفيد إلى أقصى درجة من الموقف المتعقل المتردد لخصمه، وهذا ما يجعلنا ننادي بثقة، بضربة شاملة قاصمة لإيران، وضربة جزئية معوقة للنظام السوري فوراً والآن، وقبل أن تصل المنطقة لنقطة اللاعودة.
[email protected]