تقر القيادات السياسية العراقية اليوم بأن هناك أزمة مستفحلة تمر بها حكومة السيد المالكي، وأن الوضع العراقي الراهن ما لم يعالج فسوف يؤدي لتفتيت العراق وزيادة التدخل الخارجي في شؤونه، هذا التدخل الذي يلعب دورا مهما في الأزمة. نعم إن العقليات السياسية في العالم العربي هي الأخرى متخلفة، وهي بدورها جزء من مأزق الفكر العربي الذي سبق قبل سنوات أن خصصنا له مقالا خاصا.
إن موضوعنا هنا هو عن العقلية السياسية في العراق، وهذا مقال ليس غير رؤوس نقاط في موضوع هام يتطلب دراسة تحليلية مفصلة.
أجل ثمة عوامل موضوعية خارج إرادة الحكومة والقيادات الوطنية منها مثلا وليس هذا على سبيل الحصر:
1 ndash; ثروة العراق النفطية وموقعه العراق الاستراتيجي اللذان يغريان الأطماع الخارجية ويدفعان للتدخل الخارجي؛
3 ndash; إن التدخل في شؤون العراق مارسته القوى الخارجية في جميع عهود الحكم العراقي الحديث، وإن كان قد وصل اليوم الذروة، سواء التدخل العربي أو الإيراني بوجه أخص، مقرونا بالتقاء قوى الإرهاب والعنف، من صدامية، وقاعدية تكفيرية تشجعها أوساط خليجية، أو انفلات المليشيات الطائفية المرتبطة بإيران؛
3 - طبيعة تركيب المجتمع العراقي وهو مركب، وينطوي على تناقضات وصراعات محتملة بين مكوناته العرقية، والدينية، والمذهبية؛
4 ndash; بالنسبة للوضع الراهن يجب التأكيد على ما تركه النظام المنهار من خراب سياسي، وثقافي، وأخلاقي مس المجتمع كله.
كل هذا صحيح جدا، ولكنه لا يفسر لوحده أسباب فشل حكومتينquot;، وأسباب انعدام الثقة بين القيادات العراقية، ووصول الأزمة العراقية لحد الانفجار.
إن السبب الأكبر، المتستر أحيانا، هو مرض العقلية السياسية العراقي وتأزمها. إن هذا المرض والتأزم يظهران في :
عدم الاعتراف بحق الاختلاف، وأهمية الحوار بين المتخالفين، وهذا ينعكس أيضا في حياتنا الثقافية؛
عدم وجود المرونة السياسية المطلوبة، والاستعداد للتنازلات المتبادلة، والبحث عن حلول وسط، لا تكون مجرد عملية تهدئة وتسكين مؤقتين، وذلك للوصول إلى قاعدة وطنية مشتركة للاتفاق، لا قاعدة طائفية أو عرقية، وهذا يعني أيضا التجرد من نزعات الاستئثار والمزايدة بطرح المطالب الكثيرة التي قد يكون بعضها شديد التعقيد ويتطلب وضعا هادئا مستقرا لمعالجته. لا بد من التنويه هنا بأن فقدان المرونة والتصلب السياسيين رافقا كل عهود الحكم الملكي، وأصيبت به كل قوى وأحزاب المعارضة، من يسارية أو ديمقراطية إصلاحية أو قومية. لقد كنا نعارض الحكومات على طول الخط، ونشكك في كل إجراء ولو كان مفيدا لصالح العراق. عارضنا مثلا تأسيس مجلس الإعمار، واعتبرناه أداة لخدمة الاستعمار والإقطاع، وعارضنا اتفاقية النفط لعام 1952 باعتباره التفافا على شعار تأميم النفط، الذي رفعناه منذ ذلك الوقت بعد تأميم النفط الإيراني في عهد مصدق. إننا لم نتبع المرونة في التعامل مع حكومة فاضل الجمالي في أواخر 1953 وفي 1954 ثم حكومة أرشد العمري رغم أنهما اتخذتا بعض الخطوات الجزئية لصالح الحريات العامة. نشير أيضا لموقف الزعيم الديمقراطي كامل الجادرجي في عهد الزعيم عبد الكريم قاسم بالتعامل معه بجفاء وصدود مع أن الزعيم الراحل كان يعتبر نفسه من أتباع مدرسة الجادرجي ذات التاريخ الوطني الطويل؛
تراجع الروح الوطنية والشعور بأن العراق هو للجميع، وليس لفئة ما، أو طائفة ما، أو قومية ما بعينها، ونذكر بالمناسبة الرسالة التحليلية التي وجهها كاتب عراقي لامع للسيد علي السيستاني حين قال quot; إن الطائفة ليست وطنا.quot; إن هذا الاتجاه هو الطاغي اليوم في الحياة السياسية العراقية، حيث تفاقمت الطائفية، والحقد الديني، والتقوقع القومي، وغلبة الولاء للخارج بدل الولاء للعراق عند قيادات سياسية مؤثرة.
إن تخلف العقلية السياسية العراقية مسؤول لحد كبير عن أزمة الوضع العراقي المتميز بالاستقطاب. إن هذه الأزمة لا تحل باجتماعات المآدب، ولا بالحلول الترقيعية والتسكينية، بل تتطلب أولا ترك نظام المحاصصة، وقيام كل ائتلاف الحكومي على أساس برامج سياسية وطنية، وليس على أسس مذهبية أو عرقية، وإلا تكون الحكومات، كالحكومة الراهنة، غير ائتلافية بالمعنى الصحيح. إن المطلوب عودة الشعور المطمور بالولاء للوطن العراقي، وهو ولاء لا يتناقض مع الحقوق المشروعة للقومية الكردية، والأقليات القومية والدينية كالتركمان والكلدو ndash; آشوريين وسائر الأقليات الدينية، إن الملاحظ أن القيادات العراقية في الحكم تحصر المكونات العراقية في quot;السنة والشيعة والأكرادquot;، معتبرة quot;الإتلافquot; يمثل كل شيعة العراق وquot;التوافقquot; كل سنته. فأين إذن التركمان، وأين الكلدو ndash; آشوريون، الذين يستبعدون من حضور اجتماعات القيادات الأخرى؟. هذا بينما وقت يتعرض المسيحيون والصابئة المندائيون لحملات اضطهاد، وتهجير، وإبادة دينية دون أن نسمع من الحكومة والقيادات الأخرى صوت إدانة واستنكار، أو العمل لوقف موجة الحقد والتنكيل هذه. إننا لا بد أن نحيي في الوقت نفسه موقف الرئيس العراقي في إدانته الحازمة والقاطعة للمذبحة الهمجية الكبرى، التي وقع ضحيتها المئات من أبناء الطائفة الأيزيدية المسالمين، وذوي التاريخ العريق كما هو تاريخ المسيحيين والمندائيين، كذلك موقف الحكومة هذه المرة إيجابي. فعسى أن نسمع أيضا أصوات إدانة حازمة مماثلة للحملات الوحشية ضد المسيحيين والصابئة المندائيين. إن هذه الطوائف الدينية الثلاث، التي تدخل في مكونات المجتمع والتاريخ العراقيين هي ضحية سرطان الحقد الديني الأعمى للمتطرفين الإسلاميين من المذهبين.
إن الوضع العراقي لن يعالج حقا ما لم يجر أولا تصحيح العقليات السياسية وجعلها مع مستوى تعقيد الوضع والمسؤولية الوطنية المشتركة لمعالجة الأمور، وطبعا ما لم تتكاتف القوى الوطنية في الوقت نفسه ضد جميع أشكال العنف والإرهاب وضد التدخل الإقليمي المتزايد.
إنها مهمات كبرى لم تبرهن القيادات السياسية والدينية العراقية على كونها أهلا لتحملها. فهل الطريق مغلق تماما ولا ضوء في آخر النفق؟!

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية