quot;الحنين للحرب الباردةquot;، أي للعهد السوفيتي، كان عنوان صحيفة لوموند اليسارية عندما أطلق بوتين في شهر فبراير الماضي خطابا صاخبا ضد الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، مستعملا نفس المفردات السوفيتية خلال الحرب الباردة. أما عنوان صحيفة لو فيجارو، القريبة من الحزب الفرنسي الحاكم، فكان عنوانها quot; حرب باردة حول الدروع المضادة الصواريخquot;.
لقد علقنا على الموضوع في مقال بتاريخ 26 فبراير الماضي تحت عنوان quot;هل تعود الحرب الباردة؟!quot; وكان من رأينا أن عودة الحرب الباردة كما كانت غير واردة وشرحنا الأسباب التي تجعلنا نرى هذا الرأي، وفي الوقت نفسه قلنا إن ما يجري هو حرب المصالح بمفردات وروح عدائية قديمة تذكر بالعهد السوفيتي، وأن بوتين يستخدم بعض أساليب ذلك العهد، كتسميم المعارضين، أو إرسالهم للمصحات العقلية، وتهديد وابتزاز الجمهوريات، كأوكرانيا وروسيا البيضاء، وجورجيا، التي انفكت عن روسيا، بسلاح النفط والغاز.
إن المعلومات الجديدة التي تنشر في بعض الصحف الفرنسية والغربية الأخرى تسرد سلسلة وقائع عن العودة الروسية التدريجية للعهد السوفيتي، رغم أن عودة الحرب الباردة كما كانت غير ممكنة حسب رأينا.
صحيح أن هناك جرحا روسيا عميقا لانهيار العهد السوفيتي وإمبراطوريتها، وأن الروس يشعرون بمرارة قاتمة وبحنين قوي للعودة لذلك العهد، ولكن العهد السوفيتي قد انقضى ولن يعود، والدولة السوفيتية القديمة بالجمهوريات الملحقة بها قد انهارت إلى الأبد بعد سقوط جدار برلين.
إن الوقائع الجديدة تشير لجهود بوتين قبل انتهاء ولايته لرد الاعتبار للعهد السوفيتي والتخفيف من هول جرائمه؛ ففي خطاب لبوتين مؤخرا قال إن أعمال القمع السوفيتية كانت quot; أقل هولا من حرب فيتنام أو الجرائم النازية.. نحن لم نستخدم الأسلحة النووية ضد السكان الآمنين ولم نزرع مواد كيميائية كما فعلوا في فيتنام... إن الصفحات السود (أي في العهد السوفيتي) لم تكن رهيبة بهذه الدرجةquot; وذلك، كما فالت فيجارو، quot;من منطق نسبوية عجيبة للأمورquot;، بدلا من إدانة الجرائم الماضية، وتثقيف الناس بدروس ذلك العهد، وأين كانت الأخطاء الفادحة التي أدت للانهيار السوفيتي. يضاف في هذا السياق إعطاء التعليمات بتنقيح كتب التاريخ بما يلمع الماضي، وإعطاءه نوعا من الشرعية وبما يجعل العهد الراهن استمرارا للعهد السوفيتي. إن الهدف من تأجيج التطرف الوطني هو بحجة جعل الشباب يعتزون بكل التاريخ الروسي.
أما عن الأساليب السوفيتية من القمع والترهيب، فقد كانت الأمثلة الأخيرة إدخال صحفية معارضة ومعروفة إلى مصح عقلي، و على صعيد العلاقات مع الجمهوريات السابقة، نشير إلى إلقاء صاروخ على جورجيا، مما دفع بالأخيرة لطلب اجتماع عاجل لمجلس الأمن بحث هذا quot;العدوانquot;، كما وصفته.
نعم من حق الروس الشعور بالمرارة للانهيار السوفيتي، ولكن ذلك الانهيار يجب أن يدفع بوتين وزملاءه لاستعراض هول الجرائم، وخصوصا في عهد ستالين، وعواقب ضم الجمهوريات بالقوة لروسيا، ونتائج فقدان الديمقراطية والأخذ بنظام الحزب الواحد والقائد الأعظم.
لقد حلل الرمز الشيوعي العراقي المعروف الراحل عامر عبد الله بعمق متميز عوامل الانهيار السوفيتي، ملخصا الجرائم الرهيبة لذلك العهد، وخصوصا في عهد ستالين، وذلك في كتابه quot;مقوضات النظام الاشتراكي العالميquot; الصادر عام 1997. لقد أورد أمثلة:
كان القانون الجنائي منذ لينين يأخذ بالنوايا، وليس البحث عن الدليل، مع غير العمال منشأ طبقيا، إذ كان ذلك المنشأ هو المعيار والحكم؛ صدرت تصريحات قانونية رسمية بتبرير التعذيب؛ تشتيت العائلات، وانتزاع الأطفال من العائلات ووضعهم في دور اليتامى؛ عدد الإعدامات من 1918 إلى 1919 جاوز 6ا ألفا، وما بين 1938 و1939 نصف مليون أودعت جثثهم بالجملة في سراديب بعض الكنائس، كان بينهم العشرات من قادة الحزب اللامعين والمضحين في تاريخ مجيد لهم؛ يحق إعدام الذي لا يعمل أو هو عاجز عن العمل في معسكرات الاعتقال؛ تهجير أقوام وشعوب بأسرها من مناطقهم؛ قتل ملايين الفلاحين الميسورين نسبيا باعتبارهم quot;أعداء طبقيون؛ العدوان على دول اشتراكية لقمع حركات المعارضة المطالبة بالديمقراطية، كما حدث في وارشو وبراغ..ألخ ألخ.
إن الجرائم ضد الشعوب والإنسانية تدان كلها بدلا من البحث عن أيها كانت الأقل بشاعة: قنابل هيروشيما وناكازاكي خلال حرب دولية طويلة كان الجانب الياباني فيها يرفض الهدنة، أو حرب فيتنام الذي لعب الرأي العام الأمريكي دورا حاسما في إنهائها، أم المقابر الجماعية المكتشفة منذ سنوات في روسيا، أو انتزاع الأطفال، أو تهجير الشعوب، أو العدوان على واشو وبراخ. ألخ..؟!
إن بوتين يواصل في سياسته الخارجية استعمال خطاب الحرب الباردة والأساليب السوفيتية القديمة..فإلى أين هي ذاهبة يا ترى؟؟


أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلافتسبب ملاحقة قانونية