من مفكرة سفير عربي في اليابان

لقد آمنت الشعوب الأفريقية بأن خلاصها من الفقر والعوز لن يتم إلا من خلال أنظمة ديمقراطية، للقضاء على سوء الإدارة الذي هدر أموال القارة السوداء الغنية بمواردها الطبيعية وقواها البشرية بين السرقات والحروب. وقد نجحت دول كجنوب أفريقيا وغانا بالعمل على خلق نظم تجمع بين انتخابات رئاسية تشكل الحكومة وبرلمان يشرع ويحاسب. كما كانت كنيا مثلا للدولة الإفريقية المتمتعة نسبيا بالاستقرار السياسي والتطور الاقتصادي وجنة للسياحة الدولية، وبين ليلة وضحاها تغرق في حرب أهلية، فيتقاتل أهلها وينشل اقتصادها، فما الذي حدث؟
لقد أصبحت كنيا محمية بريطانية في القرن التاسع عشر، ولم يتم استقلالها إلا في عام 1964. وبعد الأستقلال أنتخب جومو كنياتا أول رئيسا لها، واشتهرت فترة حكمه بالاستقرار والازدهار النسبي حتى وفاته عام 1978. وقد خلفه نائبه دانيال ارب موي، ليبدءا بفترة حكم عصيبة اشتهرت بسوء الإدارة وتدهور الاقتصاد وكثرة المظاهرات، ورافقتها جفاف أدى لموت ثلاث مليون مواطن، وليترك الحكم بعد 24 عاما، كأغنى ثاني رجل في أفريقيا. وحينما استلمت المعارضة السلطة عام 2002 برئاسة مويي كيباكي، استمرت الشكوى بسوء الإدارة، وازدادت نسب الفقر ليصبح الدخل اليومي لحوالي 50% من الشعب دولارا واحدا يوميا. وأستمر كيباكي في السلطة بعد انتخابات هذا العام. وقد أتهم ريلا اودنجا السلطة بتزوير الإنتخابات، مما أدى لمظاهرات ومواجهات عنيفة نتجت عنها قتل أكثر من 600 شخص وتهجير حوالي ربع مليون مواطن.

استطاع الرئيس جومو كنياتا أن يخلق فترة من الازدهار والاستقرار النسبي بعد رحيل المستعمر، بينما استأسد دانيال مويي في السلطة واغتنى على حساب فقر شعبه. وازدادت الأوضاع المعيشية سوءا بعد استلام المعارضة، وذلك باستمرار سوء الإدارة وضعف الاقتصاد وزيادة البطالة. وحينما حاول البرلمان إصلاح التشريعات بعقد مؤتمر عام 2004 لمراجعة الدستور، والموافقة على تقليص مسؤوليات الرئيس، وتعين البرلمان لرئيس وزراء تنفيذي، اعترض الرئيس وانسحب من المؤتمر. كما تقدم البرلمان في عام 2005 بدستور جديد للبلاد، يقترح فيه تعين البرلمان لرئيس للوزراء، مع محافظة الرئيس بمعظم سلطاته، جمد الرئيس البرلمان وشكل حكومة جديدة من أعوانه. وحينما فجر الإعلام في عام 2006 فضيحتين تتعلقان بالفساد المالي والإداري والتي أدت لاستقالة العديد من الوزراء، أصدر الرئيس أوامره بمهاجمة الشرطة لمقر دور الأعلام الصحفية والتلفزيونية وتوقيف عملها. ومع شدة الجفاف ونقص الغداء وزيادة البطالة ازدادت المعارضة ضد الحكومة. مما أدى بالرئيس لإرجاع نشاط البرلمان، ولكن شكل الحكومة بتدوير وزرائه القدامى. وقد انتقدت المعارضة الحكومة، وحينما استلمت السلطة اتهمت بتكرار نفس الأخطاء التي انتقدت فيها الحكومة السابقة، فأبقت السلطة لنفسها، وشلت البرلمان، لينتهي الوضع بدمار البلاد. والسؤال لعزيزي القارئ: هل فعلا لا تصلح البرلمانات لدول العالم الثالث كما يدعي بعض أكاديمي الغرب؟

لنقراْ عزيزي القارئ ما كتبه في الأسبوع الماضي بصحيفة اليابان تايمز البروفيسور ستيفن فيش الأستاذ بجامعة بيركلي بكليفورنيا، وماثيو كرونيج الأستاذ بجامعة هارفارد: quot;انتهت الانتخابات الرئاسية الأخيرة في كينيا بالعنف وحصدت الكثير من الجرحى والقتلى وهجرت الآلاف من ديارهم. وقد وجهت الاتهامات للانقسامات العشائرية، وذلك بمعارضة قبيلة اللو وزعيمها ريلا اودنجا نجاح الرئيس السابق ميوي كيباكي المنسوب لقبيلة الكيكويو. ومنذ أن بداءت الانتخابات، تعرضت قبيلة كيكويو لعنف قبيلة اللو والجماعات الأخرى، بينما تعرضت قبيلة اللو ورفاقهم في المعارضة لوحشية هجوم رجال الشرطة. ويبدو على السطح بأن هذا صراع عرقي، وفي رأينا يجب ألا تتهم التعددية العرقية سببا لهذه المأساة.quot; ويعلق الكاتبان بأن الكثير من المراقبين يعتقدون بأن الانقسامات العرقية هي سبب الحروب الأهلية، وبحسب نظرية هؤلاء، الصراعات العرقية تختفي تحت السطح لتنفجر فجأة مع أية خلاف مثير.. ويبدو للوهلة الأولى بأن تلك الأفكار تنطبق على الأحداث الكينية. فالمنافسة الساخنة والتزوير الانتخابي أشعل المجابه ضد قبيلة الكيكويو المسيطرة، وأدت لأن تقوم قبيلة اللو ورفاقها بتظاهرات عنيفة، مما أدى بأن تقوم قوات حكومة الرئيس كيباكي بالرد بأساليب قمعية. ويرد الكاتبين بالقول: quot;في الحقيقة بأن هذا التحليل مخادع، فقد بينت أبحاث العلوم السياسية بأنه ليس هناك علاقة بين التعددية العرقية والحروب الأهلية. فقد واجهت الكثير من الدول ذات التعددية العرقية خلافات أهلية ولكن تعاملت مع معظمها بطرق سلمية. وكنيا نفسها هي بلد التعددية العرقية، استمرت فترة من الزمن مثلا للاستقرار والديمقراطية والازدهار الإفريقي.quot;

والسؤال لعزيزي القارئ هو: إن لم تكن التعددية العرقية السبب في المأساة الكينية الأخيرة، فما هو سببها الحقيقي؟ وقد رد الكاتبين بأن السبب الرئيسي هوquot; البرلمان الكيني العاجز.quot; وقد أجرى الباحثان دراسة تحليله إحصائية، تبين منها بان الدول ذو البرلمانات العاجزة معرضة للحروب الأهلية. فحينما تفوز الحكومة بالرئاسة في الدول ذات البرلمانات الفاعلة، تبقي لذي القوى المعارضة الأمل بأن ممثليها في البرلمان يمكن أن تدافع عن مصالحها وتمنع سوء الإدارة الحكومية بإصدار التشريعات اللازمة من غير الحاجة للعنف والتطرف. ويعقب الكاتبان بالقول: quot;مع الأسف الشديد، البرلمان الكيني مصاب بفقر الدم، فترتيبه المائة والستة والعشرين بين برلمانات العالم المائة والثمانية والخمسين. فيأتي البرلمان الكيني في الترتيب بعد الهند التي ترتيبها الأربع والأربعين، وبعد جنوب إفريقيا والتي ترتيبها الثامنة والأربعين، وبعد البرازيل والتي ترتيبها الستين، وبعد غانا والتي ترتيبها الثانية والثمانين. فالمعضلة الرئيسية في كينيا هي أن الفائز بالرئاسة يحصد كل شيء لأن البرلمان غير مؤثر. فقبيلة اللو تعرف بأنها لا تستطيع الدفاع عن مصالحها ولا السيطرة على مخالفات الرئيس بالمحاسبة البرلمانية، فهم بين مقصلة الإطاعة مع القبول بالظلم المسلط عليهم، أو بالتظاهر العنيف لأنهم يعرفون بأنهم لا يستطيعون تغير الرئاسة والحكومة بالطرق السلمية، بدون تعديل التشريعات والقوانين الصادرة من البرلمان.quot;

والجدير بالذكر بأن الدول الإفريقية عانت من هذه المأساة من قبل، فمثلا بنين وغانا، بها تعددية عرقية مثل كينيا، وعانت من صراعات تزوير الانتخابات الرئاسية سابقا. ولكن بينين وغانا لديهما برلمان فاعل ويصدر تشريعات فاعلة ولذلك حينما تخسر المعارضة الانتخابات الرئاسية للحكومة تعرف بأنها لن تهمش سياسيا وتضيع حقوقها. فيعوضوا عادة عن خسارتهم في الانتخابات الرئاسية بنجاح مندوبيهم في الانتخابات البرلمانية للدفاع عن مصالحهم والوقاية من سوء الإدارة الحكومية ومحاسبته، ولذلك لم يستغلوا العنف وسيلة للتعبير. ويختتم الكاتبان مقالهما بالقول: quot;ومع الأسف الشديد بأنه حينما قرر الغرب نشر السلام والديمقراطية في دول العالم الثالث لم يهتم بتقوية برلماناتها وتشريعاتها. ولخلق كنيا المستقبل والوقاية من تكرر الحروب الأهلية في المناطق الأخرى في العالم الثالث، تحتاج دعم برلمانات المنطقة وتشريعاتها. لذلك تحتاج هذه القضية الهامة والطارئة من صانعي السلام والديمقراطيين في العالم المتقدم لحل سريع.quot; والسؤال لعزيزي القارئ هل من الممكن أن تستفيد الدول العربية من التجربة الكينية للوقاية من الحروب الأهلية في وطننا العربي؟ ولنا لقاء.

كاتب المقال سفير مملكة البحرين في اليابان

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية