قابلت صديق عربى يعيش فى أمريكا منذ عقود طويلة، وتقريبا قطع كل علاقته ببلده الأصلية وإعتبر أن بلد المهجر هى حاضره ومستقبله، وطلق بالثلاثة ماضيه تماما، وأصبح حتى لا يكلف خاطره بقراءة أخبار الشرق الأوسط على ما فيه من أحداث، ويكتفى بما يسمعه فى أخبار راديو السيارة، ويصر تماما على أن يتحدث معنا باللغة الإنجليزية، ويدعى أنه نسى تماما العربية، وأنه أصبح لا يحتاج اللغة العربية فى شئ، لأنها على حد تعبيره لغة لا تساير العصر، وتزوج من أمريكية وأطلق على أولاده أسماءا أجنبية، وأعطى لنفسه إسما أمريكيا (مايك) ولم يتبق من ماضيه سوى إسم عائلته العربية، ولو أن الأمر بيده لغير إسم عائلته العربية بإسم آخر أمريكى مثل سميث أو جونسون، وحاولت أكثر من مرة أن أتبين ديانته أو نتكلم فى أمور دينية، ووجدته رافضا تماما فى الإفصاح عن دينه ودائما يقول أن :الديانة مسألة شخصيه تماما بينه وبين الإله الذى يعبده، ورغم أنك لا تستطيع أن تحب صديقى هذا، إلا أنك لاتملك سوى أن تحترمه، ودائما أستمتع بلقاءاته المتباعدة، والتى لا تتعدى ثلاث أو أربع مرات فى السنة، ومعظمها يأتى عن طريق المصادفة.
ومؤخرا قابلته فى لقاء فى مهنى نظمته إحدى الهيئات الهندسية الأمريكية، و تناولنا الطعام سويا أثناء إستراحة الغذاء، ودار بيننا الحوار التالى :
- إنت سمعت خبر مصرع عماد مغنية؟
- مين عماد مغنية ده؟
- ده شخصية مهمة قوى فى العالم العربى النهاردة، وتم إغتياله فى دمشق بسيارة مفخخة.
- إبن مين فى مصر عماد مغنية ده؟
- لأ ده مش مصرى، ده لبنانى.
- والله أنا قلت لك قبل كده أنا تركت العالم العربى للدراسة فى أمريكا بعد هزيمة 1967 مباشرة، لأنى إعتبرت إن الهزيمة دى هى نهاية الحلم العربى إللى إتربينا عليه، وأنا لا يهمنى مين مات وميت إتقتل ومين عاش، لأن المنطقة مازالت فى النازل من 1967، ولم نصل لقاع المستنقع بعد.
- إنت متشائم قوى، يامايك، لكن ضرورى تعرف عن إغتيال عماد مغنية ده، لأن ردود الأفعال الإنتقامية ممكن تأثر كثير على المنطقة والعالم.
- وكان بيبيع إيه عماد مغنية ده إللى بتقول عليه؟
- ده ماكانش بيبيع حاجة، ولكنه يعتبر فى نظر العديد بطل قومى.
- بطل قومى بأمارة إيه؟ بيشتغل إيه يعنى؟ مهندس.. طبيب..ضابط بوليس.. عالم.. سياسى.. مدرس.. مكوجى؟ بيعمل إيه بالضبط؟
- الحقيقة أنا ما أعرفش هو كان بيشتغل إيه بالضبط، هو كان مشهور عنه إنه فدائى.
- يعنى إيه فدائى، وكان بيفدى مين بالضبط؟
- أنا عارف إنك عاوز أجوبة محددة، لكن إنت عارف جماعتنا فى العالم العربى، ما يعرفوش الأشياء المحددة.
- ما هو ده سبب تأخرهم، إيه بقى ياسيدى حكاية عماد مغنية، قلت لى إنه كان فدائى عظيم، كان بيشتغل لمصلحة لبنان، ضد مين بقى؟
- عمل عمليات ضد أمريكا وضد إسرئيل.
- وكان إيه نتيجة العمليات دى؟
- ماتت ناس كثير.
- طيب وبعدين، هل تم تحرير فلسطين، بسبب فدائيته؟
- لأ..
- هل تم هزيمة أمريكا وإنهيارها، بسبب عماد مغنية.
- لأ... بس هو كان على رأس المطلوبين إعتقالهم فى أمريكا.
- يعنى تقصد تقول إنه كان على لائحة المجربين المطلوبين فى أمريكا؟
- لأ هو ماكانش مجرم طبعا..
- طيب هو كان بياكل منين وبيصرف على عيلته منين (لو كان عنده عيلة)
- الحقيقة ما أعرفش مين إللى كان بيصرف عليه، بس هو كان راجل فدائى والأمور الدنيوية دى ماتهموش.
- بس كان ضرورى يسكن وياكل ويربى عياله، مين إللى بيدفع المصاريف دى كلها؟ يعنى كان فاتح شركة فدائية قطاع خاص وبيعمل عمليات فدائية للى يدفع؟
- لأ يأخى إنت بتجيب الأفكار دى منين، ده كان مسلم شيعى من جنوب لبنان وكان بيحارب إسرائيل وأمريكا.
- أنا ما يهمنيش شيعى أو سنى أو مسلم أو مسيحى أو يهودى، كل دى مسميات بتستغل لأسباب سياسية، الديانة دى حاجة بتاعة ربنا، أنا إللى عاوز أعرفه، هو ليه أصبح بطل بالشكل ده، هل مثلا ممكن نقارنه بغاندى إللى هزم أكبر إمبراطورية فى عصره بدون إطلاق رصاصة واحدة، أو نيلسون مانديلا إللى قضى على التفرقة العنصرية وقاد بلاده لبر السلام والأمان بدون أن ينتقم من سجانه ومعذبيه بعد أن أمضى 27 سنة فى السجن وخرج ليصبح أول رئيس أسود لجنوب أفريقيا، هل ممكن تقارنه بتشى جيفارا إللى قاد الحركات الثورية فى أمريكا اللاتينية.
- مش عارف أقولك إيه، أنا مش قادر أقارنه بالأسماء إللى ذكرتها دى؟
- طيب ممكن مقارنته بكارلوس الإرهابى (الفينزويلى الأصل) إللى تمت محاكمته فى فرنسا؟ أو هل ممكن تقارنه بعصابات المافيا إللى بتقتل لحساب من يدفع؟
- الحقيقة أنا ما أعرفش، لكنى ما أعتقدش إنه كان (قاتل مأجور).
- إنتو كده العرب كثير من أبطالكم قتلة وسفاحين وإرهابيين. إيه إللى عمله عماد مغنية لبلده لبنان: هل ساعد فى إستقرار البلد؟ هل ساعد فى بناء أى شئ؟ هل قام بتحسين معيشة أهله فى جنوب لبنان؟ هل عمل أى شئ لصالح البشرية؟ هل إخترع أى شئ؟
- إخترع إيه ياأخى بأقولك ده راجل فدائى عظيم، مش مخترع، إنت عارف أن مئات الآلاف طلعوا فى جنازته، وحضروزير خارجية إيران شخصيا للتعزية فى وفاته.
- وإيه علاقة إيران بالموضوع، هو كان فدائى لصالح لبنان وفلسطين ولا كان فدائى لصالح إيران؟
- لأ يعنى... علشان هو كان من قادة حزب الله الشيعى فى لبنان. وإنت عارف إيران شيعية.
- حزب مين؟
- حزب الله.
- هو ربنا عمل حزب بإسمه من ورانا؟
- لأ ده إسم الحزب بس.
- يعنى إيه حزب الله، يعنى باقى الأحزاب تبقى أحزاب الشيطان، إيه الكلام الفاضى ده.
- ياأخى ده مجرد أسم، المهم أنا خايف قوى من ردود الإفعال إللى جاية.
- لأ ياخويا ما تخافش، وحط فى بطنك بطيخة صيفى، مش حيحصل حاجة، وإن حصلت ردود أفعال حتكون ما بين العرب وبعضهم.
- لكن إنت تفتكر مين إللى قتل عماد مغنية؟
- والله أنالا يهمنى عماد مغنية ولا مين إللى قتله، ولعلمك التاريخ لا يذكر سوى الأبطال الحقيقيين الذين غيروا مجرى التاريخ الإنسانى وقدموا شيئا لخير البشرية ، أما من يعطى البشرية الحروب والقنابل والمتفجرات والقتل لا يكون مصيره سوى مزبلة التاريخ.
....
وأنهيت مقابلتى مع صديقى، وبعد أن تأكدت من أنه دفع حساب طعام الغذاء، صممت على أن يكون هذا آخر لقاء معه لأنه يسبب لى الإكتئاب بأسئلته المحرجة ويمكن يودينى فى داهية!
[email protected]

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية