1من 2
العراق بلد متكامل من الداخل، أو يتمتع بقسط كبير من معالم التكامل الداخلي، ويمكن أن يشكل نقطة قوة هائلة على مستوى تاسيس أمن قومي خاص به.
ولكن ما المقصود من التكامل الداخلي هنا؟
لا أريد الجواب على هذا السؤال نظريا، بل لندخ،ل في عمق الموضوع، فإن ذلك كفيل بتوضيح مقصودي هنا.

البصرة (دبي العراق):
يمكن أن تكون البصرة بمثابة (دبي العراق) لما تتميّز به من موقع جغرافي مذهل، فهي تصل العراق بالبحر، ثم المحيط ا لهندي، لتطل ببلاد الرافدين على العالم الأسيوي، ولما تتمتَّع به من ثروة نفطية هائلة، فضلا عن ثروتها الزراعية المتجسدة بغناها النخيلي، ورغم ما أصاب هذه الثروة من عطل وعطب يمكن معالجته فيما توفرت إرادة حكومية قوية ناصحة، بل مميزات البصرة تفوق مميزات دبي، ولنا حديث عن ذلك يأتي في وقته إن شاء الله تعالى.
أن تتحول البصرة إلى (دبي) العراق يحقق قفزة كبيرة على صعيد تحقيق الامن القومي العراقي، لان حماية البصرة قد تتحول إلى قضية دولية، عالمية، لان تهديدها يشكل خطرا على الاقتصاد العالمي، كما هو حال دول الخليج النفطية الأن.
البصرة يمكن أن تتحول إلى مدينة عالمية، تصل العراق حيويا وفاعليا با لعالم، من منطق قوة واقتدار، يمكن أن تتحول إلى مدينة تقرر مصير منطقة جغرافية مهمة من العالم.

النجف (فاتيكان العراق):
فهي مركز ديني روحي علمي عالمي فاعل، يجمع بين الزعامة الدينية والشعبية والسياسية، والنجف يمكنها أن تضاهي ا لفاتيكان عالميا فيما لو تم التخطيط لذلك، لأنها محط نظر ملايين المسملين، من سنة وشيعة وإسماعيليين وزيود، فعن طريق النجف يمكن للعراق أن يحتل مكانة روحية سامقة في العالم. بطبيعة الحال، لا نقصد هنا المماثلة الكاملة بين النجف والفاتيكان. لا شك يمكن أن نلحق بالنجف كربلاء والكاظمية وسامراء. العراق بنجفه وكربلائه وكاظمييه وعسكرييه مصدر إقتصادي غني، وذلك فضلا عن الموقع الروحي لهذه المدن. يمكن توظيف المنزلة الروحية لهذه ا لمدن لصالح الامن القومي العراقي، فإن الدفاع عن النجف قد تتحول إلى فريضة دينية لدى ملايين المسلمين.
النجف حاضرة عالمية، عالم قا ئم برئسه، وليس سرا، أن الدول الكبرى وهي تخطط لسيساتها في العراق تضع النجف في خانة الاعتبارات الأولى، لما يملكه النجف من شعبية عالمية ووأقليمية ووطنية. عالمية النجف لصالح الامن القومي العراقي.
التشكل العرقي المتنوع للنجف يساعد على تكريس عالميتها، ثم خدمة العراق من خلال هذا المقترب المهم، سواء التشكل بسبب السكن أو التاريخ أو لطلب العلم.

كركوك (العراق المصغّر):
هكذا يسميها بعض الباحثين والجغرافيين، وهي بحق تجسد العراق بأصوله العرقية و الدينية، الامر الذي يجعل من التوصيفة المذكورة قريبة من الواقع إلى حد كبير، lsquo; إنها مثل عملي رائع على تجانس وتجاذب وتكامل اللغات والاديان والمذاهب والأعراق في العراق.
كركوك (العراق المصغّر) ثروة نفطية وبشرية ولغوية وحضارية، ومن الممكن أن تتحول إلى مثل لاختصار الدول بمحافظة واحدة أو مدينة واحدة. كركوك هي (الجمهورية العراقية المصغّرة)، نموذج فذ على ا لتألف الحضاري والثقافي، وهي بهذه الصفة العميقة يمكن أن تساهم في صيانة الامن القومي العراقي، وذلك من خلال هذا التعايش الجميل الخلاّق.
إن هذا التنوع الهائل والمتجانس في كركوك يمكن أن يحولها إلى مصنع عراقي للتسامح والتجاذب والتعاون، بل يمكن أن يحولها إلى عاصمة ثانية للعراق بعد بغداد. بل يجعلها مهئية لخلق نهضة إنسانية مشبعة بالروح العراقية العامة.

الحلة (أثينا العراق):
هبة الفرات وعاصمة وسطه الغني بالحياة، والحديث عن تاريخ الحلة حديث عن (العالميَّة) في هذه المنطقة، لأنه يعود بذاكرتنا إلى (بابل) و (وكيش)، وهو حديث عن (العراقيَّة) كحضارة ومدنية وسياسة لأنه يعود بذاكرتنا إلى (الأمارة المزيدية) التي ضمت المساحة الرسوبية الزراعية بين هيت والكوفة حاضنة لكل من واسط وعانة والبطحة، فيما يعزز كلامنا هذا كونها أول من شهد ولادة مفهوم الدولة في عمق التاريخ الانساني.
تشكل الحلة مرتكزا أساسيا في الامن القومي العراقي من الداخل، لأن موقعها يشكل نقطة تقع على مفترق الطرق البرية، وبوصلة تواصل حيوي بين بغداد والفرات الأوسط. كما أنها مهمة على صعيد الامن القومي العراقي من الخارج، لأنّ موقعها على نهر الفرات يربطها برا بطة مصيرية وفاعلة بجنوب العراق، الذي يتصل مباشرة بالخليج العربي!.
ليس همي في هذه السطور أن أسلط الأضواء على أ همية الحلة على صعيد الامن القومي العراقي من زواية الجغرافية السياسية للبلدة، بل أريد أن أنوّه إلى دورها الممكن في هذا المجال من ناحية فكرية وثقافية!
لقد شهدت الحلة نهضة حضارية سامقة، وكانت موئل الهاربين بفكرهم وثقافتهم من نير السلاطين، وكانت بلد الفقه والشعر والمكتبات الكبيرة، مما يؤهلها لإعادة هذا الدور العملاق في العراق الجديد! أي تعيد ذكريات مسلة حمورابي، وفقه ابن إدريس، وكلام نصير الدين الطوسي صاحب المرصد العظيم، وعباقرة الرواية، ورواد الشعر والنقد في أوأسط القرن العشرين، وما أكثرهم، يحتلون رأس قا ئمة المبدعين والناشطين العراقيين على صعيد الفكر والثقافة.
إن إختيار (الحلة) عاصمة للثقافة العراقية كان موفقا، ولكن يجب إتمامه عبر التخطيط ا لدقيق بما يوازي التسمية الحميدة، وبالتالي، يمكن أن تتحول الحلة إلى حاضرة ثقافية عالمية، مستفيدين من تاريخها المتسم بالتسامح والتألف الاجتماعي عبر سنيه الطوال.
الحلة خير بيئة للإنتاج الثقافي، ورعاية القراءات العميقة، وإحتضان مراكز البحوث العلمية والفكرية والاستراتيجية، فهي قريبة من بغداد، و تشكل مدخل الفرات الأوسط، وتقع على مفترق طرق المواصلات البرية، وموصوفة بالهدوء والسلام، وذات موارد إقتصادية هائلة، وجوها معتدل يساعد على التواصل مع الفكر، وهي متفاعلة مع محيطها، وتحمل ذاكرة بابل القديمة، نأت عن الصحراء، مدخل التواصل مع عشائر الوسط والجنوب ومن هنا كان منطلق الحملات العسكرية لقمع حركات العشائر،، تصلح لإقتصاد السوق بإمتياز.
يمكن أن تتحول الحلة إلى (أثينا العراق)، أي تساهم مساهمة فكرية وعلمية في تكريس الأمن القومي العراقي من الداخل، عبر تحويلها إلى مركز إشعاع فكري، يركز على التسامح والوسطية والاعتدال، وهي مفاهيم ذات شأن في هذ ه الايام، ليس على صعيد العراق وحسب، بل على صعيد العالم كله.

الموصل (العمق السني للعراق):
يجنح بها بعضهم ليعدها بسبب موقعها على الضفة الغربية من نهر دجلة نظيراً للبصرة وإنْ كانت تقع على النهرين بالتحليل الا خير، فهي تتميز بكثرة المرتفعات إلى أن تتحول إلى جبال شاهقة بالاقتراب من الحدود الشمالية و الشمالية الشرقية، مما يرشحها لموقع دفاعي ستراتيجي كبير وحصين، وإذا وُصِف العراق بأنه البوابة الشرقية للعالم العربي، فالموصل هي البوابة الشمالية للعراق، يشهد لها التاريخ صمودا فذا في مواجهة الغزو الصفوي لمرتين، وكأنَّها وتؤامتها (حلب / قاهرة الصليبيين) قد إ رتضعتا من نبع واحد! ينتسج كل ذلك مع نزعة أهلها العسكرية، فليس غريبا بعد كل هذا أن يشكل أهل الموصل نسبة كبيرة من النسيج العسكري للجيش العراقي، وذلك من دعاة إفتخارها دائما، فالضابط في الموصل من حيث القيمة الاجتاعية يو ازي رجل الدين في الجنوب العراقي!
يعوّل على موقعها حائلا دون تحقيق أحلام الانفصال الذي طالما يهدد وحدة العراق ومستقبله، فهل لذلك يصفها بعضهم بأنها رأس جسد العراق؟
تشكل الموصل نقطة في غاية الاهمية في مجال الامن القومي العراقي داخليا وخارجيا، فهي توازي البصرة سنيا، فالموصل عمق السنة العرب في العراق وفي الوقت ذاته العمق السني للعراق في العالم العربي، أي تمارس دورا وظيفيا جوهره التوازن من الداخل ومن الخارج، وتشكل مع بغداد والبصرة ميزان العراق، فإذا كانت بغداد هي عين الميزان، فإن كلا البلدين هما كفتا الميزان، يعدلان بالعراق دون إضطرابه وتصدّعه، وأي أختلال بأحد الكفَّتين يربك العين، ويجعلها غير قادرة على التحكم بالجسد كله، بوابة العراق باتجاه أوربا، وهمزة وصل بين العراق وفارس فسماها العرب بالموصل لهذا السبب الاستراتيجي على بعض الاراء.
إن كل هذه المقتربات التي تتميز بها الموصل الحدباء تهيئها للعب دور كبير في تكريس الامن القومي العراقي الداخلي والخارجي، ونزعة وليس من شك أن كل هذه المقتربات لا تؤدي دورها على صعيد تأسيس نظرية أمن قومي عراقي من دون رعاية الموصل إقتصاديا وعمرانيا وثقافيا وروحيا.

الناصرية (فينيسيا العراق)
من أجل تأسيس نظرية أمن قومي عراقي ينبغي تثوير الذاكرة العراقية بمأثر العراق وتاريخه المعطاء ودوره في بناء الحضارة الاسلامية والعربية، بل والعالمية، هنا يبرز دور الناصرية، المنتفك في العهد الملكي، وذي قار فيما بعد، حيث تعود بنا الذاكرة إلى أمجاد أور الثقافية والروحية، ومأثر معركة القادسية المجيدة، فتتجلى الناصرية قطعة من تاريخ ملتهب بالعطاء والحيوية. ورغم أن صحرائها التي كانت جزءا إداريا منها قد أضيفت إلى محافظة المثنى التي تأسست كمحافظة حديثا، إلا أنها تبقى وكأنها عاصمة الصحراء العراقية.
مدينة الجاموس والأسماك والطيور والماء، وليس من الإفتراء على الحقيقة لو أننا قلنا عن جبايشها بأنها (فينسيا العراق)، فيما لو أعطيت المزيد من العناية والرعاية وبأشراف عالمي، وبدعم من منظمات السياحة العالمية!
إن تشبيع الذاكرة العراقية بتاريخ الناصرية القديم والمتوسط والحديث يزيد من فرص تحقيق فكرة الامن القومي بالاعتماد على الوعي الشعبي، كعنصر جوهري يؤكد عليه كتاب الامن القومي على مختلف مشاربهم الفكرية والاديوجلية.
أن تتحول (الجبايش) إلى فينيسيا عراقية يعني أن تشكل السياحة موردا إقتصاديا غنيا للعراق، والجنوب منه على وجه الخصوص، كما أن ذلك يساهم على تواصل العراق مع العالم من منطلق حضاري وجمالي، وكل هذه قيم تصب في تصليب أمن العراق القومي، وسلامه.
أن تتحول (الجبايش) إلى فينسيا عراقية يعني أن يتحول العراق إلى منتجع سياحي عالمي يؤمه الكبار من صنّاع القرارات السياسية و الاقتصادية العالمية، وذلك هو الآخر يصب في صالح الأمن القومي العراقي بشكل وآخر.

الأنبار/ المثنى (درع العراق الصحراوي)
تشكل (الأنبار) نسبة 32 بالمئة من مساحة العراق، تعد أوسع محافظات العراق الجديد مساحة، وهي مساحة شاسعة نسبيا، بحيث تفوق مساحة المملكة الاردنية الهاشمية، بوصلة التكامل العراقي التجاري والثقافي وربما حتى الاجتماعي في بعض الاحيان مع الاردن وسوريا، ممر البحر الابيض المتوسط والفرات باتجاه الخليج العربي! وبالتالي، يمكن أن تكون عبر (رماديها) مفتاح تنمية تجارية وجسر مرور ونقل بحري بفضل منافذها على الهضبة الغربية، ولا ننسى ممكنات الثورة الفوسفاتية في رمالها، حيث تتكامل بذلك مع ممكناتها الاخرى، وفي هذا السياق تتواصل مع ثروتها من (القير) في أحد أقضيتها، أقصد (هيت) ذات الماضي العريق، يخفف من جفاء صحرائها أرض (الفلوجة) التي ما أن يمس أ رضها المطر حتى (تتفلّج) كي تفسح المجال لهذا الماء الكريم أن يتشرب سطحها ليصل إلى عمقها، فتثير خيرات ا لله عن قناعة وطوع را ئعين! وبين هذا وذاك نلتقي بـ (عانة) وضواحيها، حيث تقع على حدود سوريا، لتشكل موقع إستثمار مشترك.
صحراء الأنبار درع العراق من الغرب، الدرع الصحراوي للعراق، وليس ذلك بصعب أن تتحول الصحراء العراقية من جهة الغرب على طول إمتدادها (السماوة ـ النجف ــ الرمادي / من الجنوب و بإتجاه أعالي الفرات) إلى درع عسكري قوي مقتدر، وفي الوقت ذاته أحد منافذ التفاعل العراقي مع محيطه العربي الأصيل، ولعل هذه الجهة تفوق الموصل في إ داء هذا الدور الخطير والمصيري بالنسبة للعراق.
دفاع وتفاعل، وجهان مشرقان لهذه الصحراء الخالدة، يخرجانها من كونها مجرد رمال مخيفة إلى مجال حيوي فاعل، يساهم بالعمق في تأمين أمن قومي عراقي من الداخل ومن الخارج.
المثنى، أو السماوة تكمل الأنبار بهذه المهمة الأمنية الحيوية للعراق، فهذه المحافظة يحدها من الشرق البصرة والناصرية، ومن الغرب السعودية وجزء من بادية النجف، ومن الشمال الديوانية وجزء من بادية النجف أيضا، ومن الجنوب السعودية وجزء من محافظة البصرة والكويت. على أن من أهم ما يمكن أن يلفت النظر في هذه المحافظة بحيرة(ساوة) التي تشذ عن كل بحيرات العالم بميزات طبيعية مدهشة، حيث يمكن أن تتحول إلى منتجع سياحي كبير كما يقول أهل الاختصاص، وتتحول إلى مصدر رزق وفير لاهل المدينة.