لا تعجب ولا تندهش إن اعترضك وأنت تقوم بجولة رائقة ذات مساء في جادّة باب البحر بقلب العاصمة التونسية كاتب أو شاعر أو صحافي مخدوش الوجه أو متورم العينين أو مدمى الأنف والفم، ذلك ان ظاهرة العنف باتت أمرا عاديا في المشهد الثقافي التونسي. ظاهرة تكاد تكون سلوكا يوميّا تقريبا لدى البعض من الشعراء والكتاب والفنانين والصحافيين خصوصا في تلك الأماكن التي فيها يجتمعون ليتبادلوا الآراء والأفكار حول ما يجري داخل البلاد أو خارجها على المستوى الثقافي أو السياسي. و"دار الصحفي" الكائنة بجادة الباب البحر والمواجهة لمبنى وزارة الداخلية، ودار الكاتب الكائنة بشارع شارل ديغول هما في بين أكثر الأماكن التي تشهد بين الحين والآخر معارك حامية كما تلك التي تحدث بين الديوك المكسيكية. معارك تسيل فيها الدماء وتكسر فيها الأسنان. وخلالها يظهر هذا المثقف أو ذلك الشاعر قدرته الفائقة في فن الملاكمة أو في المصارعة أو في "التيكواندوا"....
وعادة ما تبدأ الجلسات هادئة وودية.. عناق وضحكات وتبادل للورود.. لكن حالما يصعد ما في الكأس إلى الرؤوس، تحتقن السحنات، وتحمر العيون، وتخرج المخالب من أغمادها، ويصبح الشاعر أو الكاتب الوديع، اللطيف المعشر، ذئبا ضاريا يكشّر عن أنيابه في استعداد واضح للفتك بالذي هو جالس أمامه،
أو إلى جانبه يسارا أو يمينا..وحتى وإن حاول البعض تهدئة الخواطر، فإن المعركة الحامية لابدّ أن تندلع، ولا بدّ أن ينقلب المشهد الودي إلى مشهد مروّع ومخيف ولا بدّ أن ترتفع الكلمات البذيئة لتضيف من العنف والكراهية والحقد فهذا الشاعر أو ذالك الكاتب يعتقد أن عدم حصوله على جائزة أو على وسام، أو على ترقية في الوظيفة التي يشغلها، هو صديقه الذي يجالسه في الصباح وفي المساء، والذي يبوح إليه بأسراره ويفضي إليه بمكنونات قلبه. والمسرحي المثقل بالديون يشعر أنه مظلوم ومهان ومحروم من العروض لأن زميله الذي طالما أسْدى إليه خدمات جليلة ووقف معه في السّراء والضراء لا يفعل شيئا أخر غير الإساءة إليه لدى السلطات العليا. وذلك الكاتب الذي تطالبه زوجته بالطلاق لأنها سئمت الحياة مع كائن لا تراه إلاّ لماما لأنه يعود مخمورا فاقدا للوعي أخر الليل، يتصور أن كل المصائب التي ابتلي بها، والتي باتت تهدده حياته ومصيره، هم أولئك الذين انتقدوا كتابه الصادر حديثا والذي ألفه وهو يئن من وجع سهراته الطويلة. والفنان الذي لا يبيع لوحاته استشار قارئة كفّ عجوز التقاها بالصدفة في أحد شوارع المدينة العتيقة فأكدت له أن كائنات سوداء، تقاسمه الماء والملح يوميا، لكنها تكن له عداء دفينا، وتحول دون حصوله على الذل والشهرة. ومثقلين بمشاعرهم هذه يذهب جميع هؤلاء إلى "دار الصحفي" أو إلى "دار الكاتب" وهم عازمون على تحطيم خلائق الذين يظنون أنهم يكدّرون عيشهم، ويمنعونهم من الاستمتاع بملذّات الحياة..وخلال الأشهر الأخيرة مثل أمام القضاء كتّاب وصحافيون بتهمه استعمال العنف. وواحد منهم حكم عليه بأربعة أشهر سجنا وبستة آلاف دينار تونسي لأنه حطّم أربعة من أسنان صديقه الشاعر عقب سهر رائقة بصحبة فتاتين جميلتين!