في لقاء مع طبيب يهودي فرنسي يزور القطاع
البروفيسور جاك بيرس: إسرائيل ستدفع ثمن هذا الهولوكوست

باسم النبريص من غزة: منذ ثلاثة أيام وأنا موعود بهذا اللقاء مع البروفيسور جاك بيرس، أستاذ جراحة التجميل في جامعة باريس، والذ ي كان من المفترض أن يصل إلى مستشفى ناصر بخان يونس، لكنه لم يصل سوى مساء أمس. وما إن وصل حتى باشر بإجراء العمليات العاجلة لعشرات من الحالات الحرجة. مما اضطرني إلى تأجيل هذا اللقاء أكثر من مرة. وفي الأخير لم يكن هناك مفر من إجرائه ليلاً، مع ما في ذلك من مغامرة الخروج من البيت، بعد العاشرة مساء، وإجراء الحديث ثم العودة وسط الظلام الدامس المخيم على أرجاء المدينة. لكنني لم أكن أعي quot; كل هذا الخطر quot;، فمضيت بعفوية وبراءة، والتقيت الرجل وأنهيت هذا الحوار، ثم وقفت على باب المستشفى الخارجي، على أمل أن تقلني سيارة لبيتي الذي يبعد كيلومترين عن المستشفى.

طال انتظاري، وفي الأخير أقلتني سيارة إسعاف مشكورة، بعد رجاءات، لكنهم خافوا من شنطتي التي تحمل اللاب توب. قالوا لي: الكاميرا، نخاف من الكاميرا. فقلت لهم لا أحمل كاميرا وإنما لابتوب. أمروني بالوقوف تحت عريشة بائع الفلافل الكائن في الشارع العام أمام المستشفى، ثم دخلوا بسيارتهم قليلا تحت العريشة وأخذوني. في الطريق فهمت منهم أنهم يخافون من كاميرا طائرة الاستطلاع المعروفة هنا باسم quot;الزنانةquot;، وهذا كان قصدهم. سألت لماذا؟ فقالوا هي تصور كل شبر في القطاع، وربما، لأنك تحمل شنطة في يدك، يظنونك مقاومًا، فيقصفوننا كلنا، نحن وأنت، أو يراقبونك، ثم يقصفونك. فنحن محظور علينا حمْل أناس عاديين، فقط نحمل المصابين والشهداء. لم أكن أعتقد أن الوضع خطر لهذه الدرجة، ولذلك غامرت، وفي الحصيلة كان ما كان، وكان هذا الحوار.

بروفيسور جاك بيرس، هل جئت من فرنسا مباشرةً عبر القاهرة إلى غزة؟

نعم. جئت يوم الأحد الماضي، مباشرة من باريس إلى القاهرة. ويوم الاثنين دخلنا عبر بوابة معبر رفح، طبيبان فرنسيان وأنا.

هل واجهتكم صعوبات في الدخول؟

طبعاً واجهتنا صعوبات. حيث أُجبرنا على الانتظار لمدة سبع ساعات في الجانب المصري من المعبر. لقد حاول المصريون منعنا من الدخول. وطلبوا منا التوقيع على quot;تعهّدquot; بأنهم حاولوا منعنا. وطلبوا منا أن نوقّع على أوراق بأننا سندخل القطاع على مسؤوليتنا الشخصية، على الرغم من أنهم طلبوا منا عدم الدخول.

لماذا فكّرت بالمجيء إلى القطاع وهو في قلب الجحيم؟ هل يعود ذلك إلى مبادئك الإنسانية أم إلى تأثّرك بما شاهدته عبر وسائل الإعلام؟

للنقطتيْن معاً، إضافة إلى أنها حرب غير عادلة. وفي الوقت ذاته، فأنا أعمل في النشاطات الإنسانية منذ أربعين عاماً. ويضيف قائلاً: إنه في العام الماضي كان هنا في غزة. وفي تموز 2006 كان في جنوب لبنان. وقبلها في عام 2003 كان في بغداد خلال الحرب الأميركية. كذلك زار الضفة الغربية والقدس عدة مرات. ويُضيف: أعتقد أن كل شخص يجب أن يفكّر بما يتعرّض له شعب من المدنيين الأبرياء، وهم يواجهون أعتى آلة عسكرية في المنطقة. فيقدم لهم ما يستطيع تقديمه، سواء بالخروج في مظاهرات احتجاج أو كتابة أو تبرعات أو فعل مساعدة. فهذا أقل الواجب تجاه هذا الشعب المعذّب.

سأطرح سؤالاً سياسياً، فأمس رفضت لجنة حقوق الإنسان بالاتحاد الأوروبي إدانة إسرائيل. كيف تنظر لهذا الرفض؟

رفض معيب. كنت آمل من أوروبا كلها موقفًا أفضل. الشعوب الأوربية لا تعرف ما يكفي عن قضيتكم، وهي محكومة بعقدة الذنب تجاه ما تعرّض له اليهود على أيدي النازيين، لذلك يفكّرون مرات قبل اتخاذ موقف معقول. أما حكومات أوربا فهي ملتحقة بالموقف الأمريكي المنحاز لإسرائيل. ورغم أنني ألتزم بعملي كطبيب فقط، إلا أنني غاضب أكثر مما تتصور.

ماذا تقول للفلسطينيين، الذين هم في وضع فريد تاريخياً، إذ تحولوا ضحيةً لضحيةٍ سابقة صارت الآن جلاداً بأسوأ معاني الكلمة؟

واصلوا المقاومة بكل طرقها. لن يسمع العالم إلا من يمتلكون صوتاً وحضوراً. أنتم أصحاب قضية عادلة ومطالب عادلة، وسوف تحققونها في النهاية، مهما طال الزمن.

وللإسرائيليين؟

أقول لهم كفى. عار على ضحية سابقة أن تكون جلاداً، وتعيد إنتاج الظلم التاريخي الذي تعرضت له، على شعب آخر بريء من دون ذنب. وأضيف: ستدفعون ثمن هذا الهولوكوست يوماً ما، ما لم تذهبوا سريعاً إلى الخيار الاستراتيجي، خيار السلام العادل، وإقامة دولتين لشعبين. نحن عملياً وموضوعياً من يدفع الثمن، لا إسرائيل. والعالم يتفرّج على فصول هذه التراجيديا، وكأنها لا تعنيه. أقصى ما هنالك أن يقدم لنا مساعدات إنسانية وبعض التعاطف، لا أكثر. هذا مؤسف جداً. بل هذا عار. لا بد من حل سياسي. لا بد من نهاية لهذه التراجيديا الطويلة. ستون سنة مرّت. هذا يكفي. غير أنّ العالم بيد أميركا. وبالخصوص منطقتكم. لكن هذا لن يدوم طويلاً.

هل مرت عليك كجرّاح حالات لافتة للنظر، أو غريبة؟

كجراح له خبرة طويلة في جراحة الحروب بالذات، رأيت الكثير من الحالات، في مختلف دول العالم. ولما كنت اليوم فقط في المستشفى، فإنني لم أر حالات غريبة. ربما سأراها في الأيام القادمة.

نسمع عن أسلحة محرمة قيد الاختبار، شرعت إسرائيل بتجريبها علينا. هل مرت عليك إصابات تحمل علامة هذه الأسلحة؟

كلا لم تمرّ. ولكن يقال أن هناك أسلحة تسمّى dime dens inert metal explosive يستخدمها جيش إسرائيل ضد أهالي غزة الآن. واستخدام هذه الأسلحة، هو أكبر من جريمة حرب. شيء فوق العادة والتصوّر. شيء مهول حقاً.

بروفيسور بيرس: أنت فرنسي من أصول يهودية، وهذا يمنحك في نظرنا تقديراً إضافياً. تركت حياتك الوادعة في باريس، وجئت لتعبّر بالأفعال لا الأقوال، عن تعاطفك مع شعبنا في محنته الكبرى. هل يكفي أن أقول لك، باسمي وباسم شعبي، شكراً جزيلاً؟

لا أستحق الشكر. وأضيف: أنا مدين لكم باعتذار أرجو قبوله. اعتذار عن كل ما تفعله دولة إسرائيل بحقكم. هؤلاء صهاينة لا يهود.