-2-
عُرفَ الحاج عجيل ـ من قَبل اندياح أولاده السبعة من بطن عمتي ـ بثلاث علامات؛ اثنتان منهما، يكاد لا يشبهه فيهما كائن في العالم، فعدا نظاراته الطبية، كان يتفرد ببحة صوت تُذكر السامع بإبرة القنفذ التي انغرست ببلعومه، ثم هوسه الوطني الذي يكاد يكون عبادة.. بل هو كذلك كما صَرَّحَ به بصوت خطابي عال في مجلس قهوة القرية، حين استل ذراعه من كُم عباءته ووقف على ركبتيه بصلابة، فيما انتصبت إصبعاه، علامة النصر، بلا دراية.
& قيل إن الحديث حينئذ كان يدور حول تصريح أجنبي يشير إلى ضرورة إعادة ترسيم الحدود.. أو أشياء كتلك. على الرغم من بحة صوته إلا أنه زمجر على نحو أخرس الجميع وفرّت ـ بسببه ـ العصافير التي كانت تحيط بالمجلس، تنقر الفتيت المتبقي في قشور بذور عباد الشمس التي يقرقشها إلى جواره صغيره سعدي... قيل: إنه قد قال قولاً جميلاً وقوياً في خطابه أو كلمته المرتجلة، أو فلنقل " المُرتَكَبة "، على الأقل من باب التذكير بوقوفه على ركبتيه طوال اشتعالات صوته. ولأنه أفحم الجالسين، ولم يجدوا منفذاً لانتقاد أو انتقاص أو مناقشة كلامة (الرهيب) كما وُصِف فيما بعد، فإن المُلا صالح ـ مؤذن الجامع وإمامه ـ وحده الذي استمسك بكلمة، رفض على أساسها مجمل الكلام فأيده البعض خوفاً من الله، ثم الأكثرية، ثم عجيل نفسه فيما بعد. قالوا له:" اجلس يا رجل واستعذ بالله من الشيطان.. عيب على شيباتك". لقد حدث ذلك بعد أن وصل عجيل إلى ذروة حماسته هاتفاً بعد أن تلكأت في بلعومه جملة ـ قوية ـ كادت تخنقه لأنه حار بها تعبيراً، ولذلك صرخ بها مهتزاً حين شعر بأنه قد وجدها فصاح:" إني أعبد وطني.. إني أعبد وطني..." وقبل أن يكررها للمرة الثالثة قطعها عليه الملا صالح بنهوض مفاجئ وصرخة غضب مزمجرة، سربلت لحيته بالرذاذ:" إنجـب.. إخرس.. أعوذ بالله منك ومن وطنك الذي تعبد.." وبنبرة أهدأ، ردد مرة أخرى:" أعوذ بالله.. لا إله إلا الله.. أستَـغفر الله.." وجلس... كما تراخت ركبتا الحاج عجيل وهو ينتبه إلى فداحة ما اقترف لسانه، إلا أنه ـ هناك ـ في قرارة نفسه، كان يشعر بأن ما قاله.. هو فعلاً ما يحس به.. أو انه أقرب وصف له، ولكن لا مجال لتبرير ما أفلت منه بوضوح، فجلس مطرق الرأس تحاصره الوجوه والعيون نفسها، عيون الصِبية ـ أصحابه ـ التي أحاطته يوم انغرست في بلعومه إبرة القنفذ... ولعلعت الألسن باللوم والتقريع:" هل خرفت يا رجل؟!"، " تكفر وأنت في غروب عمرك؛ ساق في القبر وساق في الدنيا..!".
علّق الملا صالح:" إنها وثنية جديدة والعياذ بالله "، إلا أن عجيل ـ والكل يعرفه ـ :(هذا هو/هو هكذا) متحمس دائم للوطن منذ أن قَتلَ جده ضابطاً إنجليزياً (ابن كلب) كما يُعقب هو كلما ذكر الحكاية التي حدثت منذ أيام ما قبل إبرة القنفذ، وغاب جده بعد ذلك.. غاب حتى الاستقلال وبعده/حتى الآن وربما إلى يوم القيامة، أو ـ بالتأكيد ـ وكل ما بقي منه عند عجيل: سيف معلق في واجهة غرفة الضيوف، وصورة متَخيلة، راسخة في رأسه لخنجر يطعن العَلم البريطاني المرسوم على حزام ضابطهم (ابن الكلب).. خنجر يخترق العَلم والكرش الأجنبيين، وكلمة واحدة فحسب التصقت بقلب عجيل ولسانه وباسمه أبداً؛ إذ يناديه الجميع بـ" عجيل نـشِـنـن".. تلك الكلمة التي سمع الناس يلفظوها للإنجليز واصفين لهم جده الغائب بعد أن قَتَل ضابطهم (ابن الكلب)...كلمة إنجليزية تلفظوها بلكنة بدوية National ولأنه اعتقد ـ عند سماعه لها أول مرة ـ بأنها "نشِنن" وليست " نشِنل " فقد ظل يلفظها كذلك حتى بعد أن صححها له الكثيرين بمن فيهم ولده قاسم الذي حاول تعلم الإنجليزية في مطلع حياته، لكنه كرهها فيما بعد حين غرق في تعلم الخط العربي، فأخذته جماليات فنونه إلى حد ابتكار ما أسماه بـ" الخط القاسمي "، وأشهد بأنه قد أدهشني باللوحات التي أطلعني عليها، مزدحمة بالدوائر والقباب، حتى أني طلبت منه أن يخط بالقاسمي شاهدة قبر أبي حين مات في السنة الثانية للحرب حُرقة على مقتل ابن عمي وفقد الآخر...&&&&
& يُندمني الآن أنني لم أحمل شيئاً من خط قاسم، ولو من باب الإثبات لمحمود ـ عندما أجده ـ بأنني ابن خاله وأن الذي تغير فيّ هو حلق شاربيّ فقط، لكنني اعّـزي نفسي بحملي للكلمة المفتاح بيننا عندما نلتقي مجددين تعارفنا، سأقول له: " ترى هل أن غربتنا نشنن؟ " ونتعانق. لم يكن عجيل ليشتري مصنوع لم يكتب عليه National إذا أراد وصف رجل أو شئ يستحسنه قال عنه " نشنن" ومن ذلك ما كان يقوله عن طبخ عمتي للفاصولياء:" إن فاصوليائها نشنن " وعلى الرغم من أن مدفأة (علاء الدين) قد عبأت رئتيه وسخمت وجهه بالكاربون حين تأججت نارها وهو نائم، إلا أنه لم يستبدلها إلا بأخرى (علاء الدين نشنن) ومن بين أولاده كان يصف أحمد الذي أصبح قاضياً بأنه " ولد نشنن "، كذلك وصف عبدالواحد بعد مقتله في الحرب.
&& أما قاسم وسعدي " فهما ليسا نشنن أبداً لأنهما هربا من الجيش عند اشتداد الحرب"!!... وقد برر لي قاسم هروبه ـ قبل شهرين من إعدامه وسط ساحة القرية ـ حين وقفنا على شاطئ دجلة، في المكان عينه الذي نسي نفسه فيه يوماً كاملاً إثر رؤيته لذراع حسيبة فجراً.. أو فجر ذراع حسيبة، وأذكر من بين ما قاله: أنّه يرفض الحروب جملة وتفصيلاً، إنها لا تنسجم وميوله الفنية، أنه لا يريد أن يَقتُل أو يُقتَل، وما يحدث مهزلة لا يستسيغها...". أما سعدي فهو كعادته حين يُطلب رأيه حول أي شئ كان، ابتداءً بطعم الشاي وبلا انتهاء عند الحرب أو الدين، فهو إما أن يقول:" هذا شئ حلو " أو "غير حلو"، وكنت أسمي طريقته ـ في إبداء الرأي ـ هذه ـ التي يشترك معه فيها ملايين الناس ـ بأنها " نقد نسائي "، وأحياناً " نقد حريمي "، أو حين أتحذلق&& أقول:" المصطلح النقدي الوحيد في قاموس معيارية النقد (النسوانيّ)؛ حلو أو غير حلو، يعجبني أو لا يعجبني "، وكان سعدي يضحك بلا انزعاج، ذلك لأنه لوطي ويعرف أن كل الناس تعرف ذلك، بمن فيهم الحكومة... لماذا تهرب من الجيش كلما أعادوك إليه يا سعدي(أبو رأس)؟. يصمت، ثم يلوي رقبته بميوعة خنثوية وابتسامة باردة:" الجيش لا يعجبني والحرب ليست حلوة ".
&& وحده عبدالواحد من بين أبناء عجيل نشنن صبر على الحرب والتزم بحذافير قوانين الحكومة؛ شارك في معظم الهجومات حتى "استـشهد دفاعاً عن الوطن والكرامة والسيادة والشرف والعزة والتراب .." كما يقول والده مردداً نص عبارات الإذاعة والتلفزيون والصحف وضابط شرطة الحكومة وكبير مسؤولي حزب الحكومة في القرية.. فليسقط الاستعمار، وليندحر العدو الغاشم الحاقد صاحب الريح الصفراء أو الابتسامة الصفراء أو النوايا الصفراء أو الخراء الأصفر.. أو أي شئ آخر أصفر... أما أحمد فقد أنقذته وظيفته، حيث كان قاضياً، من السَوق إلى الحرب، ومحمود كان صغيراً، منسياً، لم يبلغ سن الحرب آنذاك، في حين أن عبود لم يعرف عنها إلا ما هو ضبابي ومقاطع من أناشيد التقطها في لحظات الصحو، وكانت أمه تحمد الله ـ أحياناً ـ لأنه خلقه ـ منذ بطنها ـ مجنوناً،وأحياناً أخرى تلوم الله على ذلك ثم تسارع إلى الاستغفار دامعة العينين.
&& ولدته عمتي بعد وردة. كان أجمل من وردة، فقالت نساء القرية: إنّ نافذة العسل قد انفتحت في رحمكِ، نادوه يوسف. ضحك بعد أسبوع فقالت لها أمي: لقد عوّضكِ ربكِ بضحكة عبود عن بلاهة سعدي، وبحسنه عن دمامة سعدي، الذي ظل يحمل اسم (أبو زاوية) إلى جانب اسمه ـ وبدلاً عنه أحياناً ـ بسبب غرابة وقبح تكويرة جمجمته الكبيرة إذ تبرز في مؤخرة الرأس استطالة بالغة تشبه زاوية شاذة، فيشببه المختار بصخرة حدود الأراضي(فِسل حَد) ويشبهه الناس ببطارية "التراكتور" وكم راودته فكرة خنق عبود الذي ما أن أنهى عامه الثالث حتى توقف الفرح بمقدمه الجميل وانقطعت النسوة الحوامل عن الزيارة للنظر إليه وتقبيله، فقد أخذت التحولات تغزوه وتدهشنا.
&& قالت عمتي مُعللة: " أن عين حاسد قد أصابته لفرط جماله ". شقرة شعره راحت تنقلب بالتدريج إلى رمادية، شفتاه الرقيقتان أخذتا بالغلظ والتمدد حتى غدتا بوزاً، برزت جبهته بوضوح، وازداد شعر حاجبيه كثافةً واسوداداً، طال هدب جفنيه، تدبب أنفه حتى تمنقر، وما أن أكمل العام العاشر حتى تحول إلى كائن غريب وأصبح شكله مخيفاً.. ذراعان طويلتان تنتهيان بأكف واسعة وأصابع نحيلة، ساقان قصيرتان بأقدام عريضة لا تحملان جسده& ـ أحياناً ـ ... وسحنة رمادية.. رمادية ينتابها لون الحناء ـ أحياناً ـ وبالأخص قفا كتفيه، فقيل ـ عن التقاء اللونين ـ في العربية القديمة: أَربـد ... لم يكن كالأطفال، فإذا لعب معهم، لعبوا عليه، أو ساطَ أحدهم بذراعه الطويلة حتى أدماه، أو نطحه حتى يورم رأسه. كان يلطم رأسه كثيراً بالجدران، يبحث عن أصلب ما فيها لينطحه، ولم يُشج رأسه يوماً أو ينفلق كما سيتخيل رائيه الذي سيدرك أن في رأس هذا الغلام شيئاً يوجعه، يعذبه.. شئ يطن كذبابة نمرود، فكلما نطح جداراً حكَ رأسه بعد النطحة مركزاً على مقدمة الرأس، جهته اليمنى..." إن رأسه متين جداً فلا تقلق " قال عجيل (نشنن) وهو يطمئن ضيفه الذي خرجت عيناه وهو يرقب عبود يناطح الجدران كتيس عنيد. كان من الممكن تغييبه حتى النهاية (أية نهاية؟) بمجرد حبسه في الدار لولا إصرار عمتي على إخراجه من الحر إلى دائرة سور البيت قائلة:" يا عيني يا عبود"، لكنه أيقظ القرية ـ فجأة ـ في ليلة بنصف قمر. هب الرجال من دكات نومهم والسطوح، حملوا بنادقهم وهرعوا إلى دار عجيل فطوقوها بـ"السَبَـطانات" ونداءات التنبيه، ولولت النساء وراءهم، اختبأن خلف الأبواب، مرتعشات الأصابع وهن يُعدنَ ربط خيوط ألبستهن الداخلية التي هتكها الليل الساخن، صرخن بأزواجهن خوفاً وتحذيراً فيما تشاغلوا هم بتوزيع أدوار المعركة: أنتَ من هناك؛ أنا من هنا، وأنت اصعد على السطح وليقف اثنان عند البوابة... يا حاج عجيل، يا (أبو جاسم).. سمعنا عواء ذئب في& بيتك !؟. نعم وسمعته أنا أيضاً.
&& كانت ربابة إسماعيل مستيقظة، تأن في أطراف القرية ككل ليلة. ارتفع عواء ذئب ـ مرة أخرى ـ فتحددت جهته؛ جهة التنور، وعلى الفور سُلّطَت حزم النور من المصابيح اليدوية صوب الصوت، جهة التنور، تلك الزاوية، فهالهم ـ هالنا ـ ماشاهدوه: عبود يحبو على ذراعيه وإحدى ركبتيه، رافعاً ساقه الأخرى بمثابة ذَنَب، مشرئب الرأس إلى السماء يعوي كعواء الذئب تماماً، فانطلقت عمتي نحوه راكضة، بعد أن كانت متخفية وراء الباب، ألقت بنفسها عليه منتحبة، قلبها يتفطر "يُـمّه عبود.. وليدي" ضمت رأسه إلى صدرها بقوة ووجع أمومة. خفضَ عبود من عوائه حتى صار يموء كقطة ثم سكت ـ وتراخت القبضات عن البنادق خلف السور ـ بعد أن تسربت إلى رئتي عبود رائحة أمه التي لا يخطئها مثل أي ذئب شريف. واسّتَعر رعب وردة من خطورة تحولات شقيقها الذي كانت تحبه أكثر من سائر اخوتها، لأنه يشبهها كما توأم، لكنها الآن ترتاب من تبدلاته للسبب نفسه، فتقف طويلاً.. طويلاً أمام المرآة تتحسس شفتيها الرقيقتين، المتحافتين مثل أوتار حزينة، حاجبيها ، صدرها والأنامل ترتجف كلما طرأ لها خاطر ـ احتمال ـ التحول مثل عبود، فتزداد رعايتها له نهاراً، تقدم له قشطة الحليب وزبدة اللبن وأكباد الدجاج وبيض العصافير وقصب السكر الذي تقـشَره بأسنانها... وتَـحذَره ليلاً، حتى أنها لتنام صيفاً داخل الحجرة ـ على شدة حرارتها ـ موصدة الباب والنوافذ ـ وأحياناً ـ متدثّرة، لكنها بقيت جميلة.. جميلة ـ والحمد لله ـ كما هي وربما أكثر بفعل التلفلُـف. كلما استيقظت، هبت إلى المرآة حتى قبل الاغتسال، فقادها ذلك إلى تحسّس تكوّرات صدرها، امتلاء الردفين، رمانتيّ الكتفين وتفاح الخد. كانت تُطمئن نفسها بما طمأنتها به أمها، حين بثتها الشكوى ـ في حقل القطن ـ وانخرطت على حجرها بالبكاء المُـر فأجابتها:" ويـه ابنتي وردة.. انتبهي إلى أنكِ قد تجاوزتِ السن الذي حدث فيه ما حدث لعبود" فتهدأ ثم تعاود الغص بدمعها والتساؤل الآخر:" ولكنه كان يشبهني تماماً يا أمي؟؟" تمسد عمتي شعر وردة بصبر واصطناع ثـقـة:"لكنكِ لا تشبهينه الآن".
&& ظل الراغبون بالزواج من وردة أو الحالمون بعشقها في مهبط تساؤلاتهم والوساوس، بين التقدم المغامر والإحجام الآمن، بين التَـخوّف والاشتهاء، فما كان في نفسها انتقل إلى نفوسهم، بينما تكاد هي أن تبرأ مواصلة كيّ شكها بيقين أمها: من أن لكل إنسان مصيره الخاص به وحده دوناً عن سائر المخلوقات، وما كُتب في اللوح المحفوظ عند الله على عبود ليس بالضرورة ـ حتماً ـ أن يكون هو نفسه قد كتب على وردة، وبإيجازها؛فإنّ " كل شاة تُعَـلّق من ساقها " .. بل وراحت وردة تستبدل تخوفها من شقيقها إلى إعادة تفجير ينابيع عطفها عليه ومحبتها السالفة له، فكانت ترعاه حتى أكثر من أمها ـ أحياناً ـ ولكن في النهار فقط ـ طبعاً ـ لأنها (جبانة) كما تصف هي نفسها، مع أنها تدرك ـ في جوارحها ـ أن حقيقتها ليست كذلك، ونحن أيضاً ندرك ذلك ولكن .. إنها مجرد إجابة في الأقل، تُريح من عناء التفتيش عن الإجابات الدقيقة.. وتبقى وردة أجمل بنات عمومتي، أجمل بنات القرية، وبعد أن أصبحتُ ـ أنا ـ في الثانوية ودرست الجغرافيا والشعر والتاريخ، كنت أقول لها بكل صدق:" أنتِ أجمل بنت في الشرق يا وردة "، فتبتسم، وأضيف بحماسة ويقين:" بل وفي العالم كله " فتتورد وجنتاها خجلاً لتنسحب قائلة:" سأذهب لأعد لك الشاي "... ووردة تكبرني بكثير ولذلك .. فلا حرج، ولا تبدل في رأيي حتى الآن. مازلت أقول لها كلما جمعتنا جلسة شاي أو مرض عمتي أو عيـد: " أنتِ أجمل بنت في الشرق .. بل وفي العالم كله " حتى بعد زواجها الثالث، وإذا ما عدتُ إلى بلدي وقريتي مرة أخرى سأقول لها : " أنتِ أجمل بنت في الشرق والغرب.. لم أرَ أجمل منكِ في العالم".
& قيل إن الحديث حينئذ كان يدور حول تصريح أجنبي يشير إلى ضرورة إعادة ترسيم الحدود.. أو أشياء كتلك. على الرغم من بحة صوته إلا أنه زمجر على نحو أخرس الجميع وفرّت ـ بسببه ـ العصافير التي كانت تحيط بالمجلس، تنقر الفتيت المتبقي في قشور بذور عباد الشمس التي يقرقشها إلى جواره صغيره سعدي... قيل: إنه قد قال قولاً جميلاً وقوياً في خطابه أو كلمته المرتجلة، أو فلنقل " المُرتَكَبة "، على الأقل من باب التذكير بوقوفه على ركبتيه طوال اشتعالات صوته. ولأنه أفحم الجالسين، ولم يجدوا منفذاً لانتقاد أو انتقاص أو مناقشة كلامة (الرهيب) كما وُصِف فيما بعد، فإن المُلا صالح ـ مؤذن الجامع وإمامه ـ وحده الذي استمسك بكلمة، رفض على أساسها مجمل الكلام فأيده البعض خوفاً من الله، ثم الأكثرية، ثم عجيل نفسه فيما بعد. قالوا له:" اجلس يا رجل واستعذ بالله من الشيطان.. عيب على شيباتك". لقد حدث ذلك بعد أن وصل عجيل إلى ذروة حماسته هاتفاً بعد أن تلكأت في بلعومه جملة ـ قوية ـ كادت تخنقه لأنه حار بها تعبيراً، ولذلك صرخ بها مهتزاً حين شعر بأنه قد وجدها فصاح:" إني أعبد وطني.. إني أعبد وطني..." وقبل أن يكررها للمرة الثالثة قطعها عليه الملا صالح بنهوض مفاجئ وصرخة غضب مزمجرة، سربلت لحيته بالرذاذ:" إنجـب.. إخرس.. أعوذ بالله منك ومن وطنك الذي تعبد.." وبنبرة أهدأ، ردد مرة أخرى:" أعوذ بالله.. لا إله إلا الله.. أستَـغفر الله.." وجلس... كما تراخت ركبتا الحاج عجيل وهو ينتبه إلى فداحة ما اقترف لسانه، إلا أنه ـ هناك ـ في قرارة نفسه، كان يشعر بأن ما قاله.. هو فعلاً ما يحس به.. أو انه أقرب وصف له، ولكن لا مجال لتبرير ما أفلت منه بوضوح، فجلس مطرق الرأس تحاصره الوجوه والعيون نفسها، عيون الصِبية ـ أصحابه ـ التي أحاطته يوم انغرست في بلعومه إبرة القنفذ... ولعلعت الألسن باللوم والتقريع:" هل خرفت يا رجل؟!"، " تكفر وأنت في غروب عمرك؛ ساق في القبر وساق في الدنيا..!".
علّق الملا صالح:" إنها وثنية جديدة والعياذ بالله "، إلا أن عجيل ـ والكل يعرفه ـ :(هذا هو/هو هكذا) متحمس دائم للوطن منذ أن قَتلَ جده ضابطاً إنجليزياً (ابن كلب) كما يُعقب هو كلما ذكر الحكاية التي حدثت منذ أيام ما قبل إبرة القنفذ، وغاب جده بعد ذلك.. غاب حتى الاستقلال وبعده/حتى الآن وربما إلى يوم القيامة، أو ـ بالتأكيد ـ وكل ما بقي منه عند عجيل: سيف معلق في واجهة غرفة الضيوف، وصورة متَخيلة، راسخة في رأسه لخنجر يطعن العَلم البريطاني المرسوم على حزام ضابطهم (ابن الكلب).. خنجر يخترق العَلم والكرش الأجنبيين، وكلمة واحدة فحسب التصقت بقلب عجيل ولسانه وباسمه أبداً؛ إذ يناديه الجميع بـ" عجيل نـشِـنـن".. تلك الكلمة التي سمع الناس يلفظوها للإنجليز واصفين لهم جده الغائب بعد أن قَتَل ضابطهم (ابن الكلب)...كلمة إنجليزية تلفظوها بلكنة بدوية National ولأنه اعتقد ـ عند سماعه لها أول مرة ـ بأنها "نشِنن" وليست " نشِنل " فقد ظل يلفظها كذلك حتى بعد أن صححها له الكثيرين بمن فيهم ولده قاسم الذي حاول تعلم الإنجليزية في مطلع حياته، لكنه كرهها فيما بعد حين غرق في تعلم الخط العربي، فأخذته جماليات فنونه إلى حد ابتكار ما أسماه بـ" الخط القاسمي "، وأشهد بأنه قد أدهشني باللوحات التي أطلعني عليها، مزدحمة بالدوائر والقباب، حتى أني طلبت منه أن يخط بالقاسمي شاهدة قبر أبي حين مات في السنة الثانية للحرب حُرقة على مقتل ابن عمي وفقد الآخر...&&&&
& يُندمني الآن أنني لم أحمل شيئاً من خط قاسم، ولو من باب الإثبات لمحمود ـ عندما أجده ـ بأنني ابن خاله وأن الذي تغير فيّ هو حلق شاربيّ فقط، لكنني اعّـزي نفسي بحملي للكلمة المفتاح بيننا عندما نلتقي مجددين تعارفنا، سأقول له: " ترى هل أن غربتنا نشنن؟ " ونتعانق. لم يكن عجيل ليشتري مصنوع لم يكتب عليه National إذا أراد وصف رجل أو شئ يستحسنه قال عنه " نشنن" ومن ذلك ما كان يقوله عن طبخ عمتي للفاصولياء:" إن فاصوليائها نشنن " وعلى الرغم من أن مدفأة (علاء الدين) قد عبأت رئتيه وسخمت وجهه بالكاربون حين تأججت نارها وهو نائم، إلا أنه لم يستبدلها إلا بأخرى (علاء الدين نشنن) ومن بين أولاده كان يصف أحمد الذي أصبح قاضياً بأنه " ولد نشنن "، كذلك وصف عبدالواحد بعد مقتله في الحرب.
&& أما قاسم وسعدي " فهما ليسا نشنن أبداً لأنهما هربا من الجيش عند اشتداد الحرب"!!... وقد برر لي قاسم هروبه ـ قبل شهرين من إعدامه وسط ساحة القرية ـ حين وقفنا على شاطئ دجلة، في المكان عينه الذي نسي نفسه فيه يوماً كاملاً إثر رؤيته لذراع حسيبة فجراً.. أو فجر ذراع حسيبة، وأذكر من بين ما قاله: أنّه يرفض الحروب جملة وتفصيلاً، إنها لا تنسجم وميوله الفنية، أنه لا يريد أن يَقتُل أو يُقتَل، وما يحدث مهزلة لا يستسيغها...". أما سعدي فهو كعادته حين يُطلب رأيه حول أي شئ كان، ابتداءً بطعم الشاي وبلا انتهاء عند الحرب أو الدين، فهو إما أن يقول:" هذا شئ حلو " أو "غير حلو"، وكنت أسمي طريقته ـ في إبداء الرأي ـ هذه ـ التي يشترك معه فيها ملايين الناس ـ بأنها " نقد نسائي "، وأحياناً " نقد حريمي "، أو حين أتحذلق&& أقول:" المصطلح النقدي الوحيد في قاموس معيارية النقد (النسوانيّ)؛ حلو أو غير حلو، يعجبني أو لا يعجبني "، وكان سعدي يضحك بلا انزعاج، ذلك لأنه لوطي ويعرف أن كل الناس تعرف ذلك، بمن فيهم الحكومة... لماذا تهرب من الجيش كلما أعادوك إليه يا سعدي(أبو رأس)؟. يصمت، ثم يلوي رقبته بميوعة خنثوية وابتسامة باردة:" الجيش لا يعجبني والحرب ليست حلوة ".
&& وحده عبدالواحد من بين أبناء عجيل نشنن صبر على الحرب والتزم بحذافير قوانين الحكومة؛ شارك في معظم الهجومات حتى "استـشهد دفاعاً عن الوطن والكرامة والسيادة والشرف والعزة والتراب .." كما يقول والده مردداً نص عبارات الإذاعة والتلفزيون والصحف وضابط شرطة الحكومة وكبير مسؤولي حزب الحكومة في القرية.. فليسقط الاستعمار، وليندحر العدو الغاشم الحاقد صاحب الريح الصفراء أو الابتسامة الصفراء أو النوايا الصفراء أو الخراء الأصفر.. أو أي شئ آخر أصفر... أما أحمد فقد أنقذته وظيفته، حيث كان قاضياً، من السَوق إلى الحرب، ومحمود كان صغيراً، منسياً، لم يبلغ سن الحرب آنذاك، في حين أن عبود لم يعرف عنها إلا ما هو ضبابي ومقاطع من أناشيد التقطها في لحظات الصحو، وكانت أمه تحمد الله ـ أحياناً ـ لأنه خلقه ـ منذ بطنها ـ مجنوناً،وأحياناً أخرى تلوم الله على ذلك ثم تسارع إلى الاستغفار دامعة العينين.
&& ولدته عمتي بعد وردة. كان أجمل من وردة، فقالت نساء القرية: إنّ نافذة العسل قد انفتحت في رحمكِ، نادوه يوسف. ضحك بعد أسبوع فقالت لها أمي: لقد عوّضكِ ربكِ بضحكة عبود عن بلاهة سعدي، وبحسنه عن دمامة سعدي، الذي ظل يحمل اسم (أبو زاوية) إلى جانب اسمه ـ وبدلاً عنه أحياناً ـ بسبب غرابة وقبح تكويرة جمجمته الكبيرة إذ تبرز في مؤخرة الرأس استطالة بالغة تشبه زاوية شاذة، فيشببه المختار بصخرة حدود الأراضي(فِسل حَد) ويشبهه الناس ببطارية "التراكتور" وكم راودته فكرة خنق عبود الذي ما أن أنهى عامه الثالث حتى توقف الفرح بمقدمه الجميل وانقطعت النسوة الحوامل عن الزيارة للنظر إليه وتقبيله، فقد أخذت التحولات تغزوه وتدهشنا.
&& قالت عمتي مُعللة: " أن عين حاسد قد أصابته لفرط جماله ". شقرة شعره راحت تنقلب بالتدريج إلى رمادية، شفتاه الرقيقتان أخذتا بالغلظ والتمدد حتى غدتا بوزاً، برزت جبهته بوضوح، وازداد شعر حاجبيه كثافةً واسوداداً، طال هدب جفنيه، تدبب أنفه حتى تمنقر، وما أن أكمل العام العاشر حتى تحول إلى كائن غريب وأصبح شكله مخيفاً.. ذراعان طويلتان تنتهيان بأكف واسعة وأصابع نحيلة، ساقان قصيرتان بأقدام عريضة لا تحملان جسده& ـ أحياناً ـ ... وسحنة رمادية.. رمادية ينتابها لون الحناء ـ أحياناً ـ وبالأخص قفا كتفيه، فقيل ـ عن التقاء اللونين ـ في العربية القديمة: أَربـد ... لم يكن كالأطفال، فإذا لعب معهم، لعبوا عليه، أو ساطَ أحدهم بذراعه الطويلة حتى أدماه، أو نطحه حتى يورم رأسه. كان يلطم رأسه كثيراً بالجدران، يبحث عن أصلب ما فيها لينطحه، ولم يُشج رأسه يوماً أو ينفلق كما سيتخيل رائيه الذي سيدرك أن في رأس هذا الغلام شيئاً يوجعه، يعذبه.. شئ يطن كذبابة نمرود، فكلما نطح جداراً حكَ رأسه بعد النطحة مركزاً على مقدمة الرأس، جهته اليمنى..." إن رأسه متين جداً فلا تقلق " قال عجيل (نشنن) وهو يطمئن ضيفه الذي خرجت عيناه وهو يرقب عبود يناطح الجدران كتيس عنيد. كان من الممكن تغييبه حتى النهاية (أية نهاية؟) بمجرد حبسه في الدار لولا إصرار عمتي على إخراجه من الحر إلى دائرة سور البيت قائلة:" يا عيني يا عبود"، لكنه أيقظ القرية ـ فجأة ـ في ليلة بنصف قمر. هب الرجال من دكات نومهم والسطوح، حملوا بنادقهم وهرعوا إلى دار عجيل فطوقوها بـ"السَبَـطانات" ونداءات التنبيه، ولولت النساء وراءهم، اختبأن خلف الأبواب، مرتعشات الأصابع وهن يُعدنَ ربط خيوط ألبستهن الداخلية التي هتكها الليل الساخن، صرخن بأزواجهن خوفاً وتحذيراً فيما تشاغلوا هم بتوزيع أدوار المعركة: أنتَ من هناك؛ أنا من هنا، وأنت اصعد على السطح وليقف اثنان عند البوابة... يا حاج عجيل، يا (أبو جاسم).. سمعنا عواء ذئب في& بيتك !؟. نعم وسمعته أنا أيضاً.
&& كانت ربابة إسماعيل مستيقظة، تأن في أطراف القرية ككل ليلة. ارتفع عواء ذئب ـ مرة أخرى ـ فتحددت جهته؛ جهة التنور، وعلى الفور سُلّطَت حزم النور من المصابيح اليدوية صوب الصوت، جهة التنور، تلك الزاوية، فهالهم ـ هالنا ـ ماشاهدوه: عبود يحبو على ذراعيه وإحدى ركبتيه، رافعاً ساقه الأخرى بمثابة ذَنَب، مشرئب الرأس إلى السماء يعوي كعواء الذئب تماماً، فانطلقت عمتي نحوه راكضة، بعد أن كانت متخفية وراء الباب، ألقت بنفسها عليه منتحبة، قلبها يتفطر "يُـمّه عبود.. وليدي" ضمت رأسه إلى صدرها بقوة ووجع أمومة. خفضَ عبود من عوائه حتى صار يموء كقطة ثم سكت ـ وتراخت القبضات عن البنادق خلف السور ـ بعد أن تسربت إلى رئتي عبود رائحة أمه التي لا يخطئها مثل أي ذئب شريف. واسّتَعر رعب وردة من خطورة تحولات شقيقها الذي كانت تحبه أكثر من سائر اخوتها، لأنه يشبهها كما توأم، لكنها الآن ترتاب من تبدلاته للسبب نفسه، فتقف طويلاً.. طويلاً أمام المرآة تتحسس شفتيها الرقيقتين، المتحافتين مثل أوتار حزينة، حاجبيها ، صدرها والأنامل ترتجف كلما طرأ لها خاطر ـ احتمال ـ التحول مثل عبود، فتزداد رعايتها له نهاراً، تقدم له قشطة الحليب وزبدة اللبن وأكباد الدجاج وبيض العصافير وقصب السكر الذي تقـشَره بأسنانها... وتَـحذَره ليلاً، حتى أنها لتنام صيفاً داخل الحجرة ـ على شدة حرارتها ـ موصدة الباب والنوافذ ـ وأحياناً ـ متدثّرة، لكنها بقيت جميلة.. جميلة ـ والحمد لله ـ كما هي وربما أكثر بفعل التلفلُـف. كلما استيقظت، هبت إلى المرآة حتى قبل الاغتسال، فقادها ذلك إلى تحسّس تكوّرات صدرها، امتلاء الردفين، رمانتيّ الكتفين وتفاح الخد. كانت تُطمئن نفسها بما طمأنتها به أمها، حين بثتها الشكوى ـ في حقل القطن ـ وانخرطت على حجرها بالبكاء المُـر فأجابتها:" ويـه ابنتي وردة.. انتبهي إلى أنكِ قد تجاوزتِ السن الذي حدث فيه ما حدث لعبود" فتهدأ ثم تعاود الغص بدمعها والتساؤل الآخر:" ولكنه كان يشبهني تماماً يا أمي؟؟" تمسد عمتي شعر وردة بصبر واصطناع ثـقـة:"لكنكِ لا تشبهينه الآن".
&& ظل الراغبون بالزواج من وردة أو الحالمون بعشقها في مهبط تساؤلاتهم والوساوس، بين التقدم المغامر والإحجام الآمن، بين التَـخوّف والاشتهاء، فما كان في نفسها انتقل إلى نفوسهم، بينما تكاد هي أن تبرأ مواصلة كيّ شكها بيقين أمها: من أن لكل إنسان مصيره الخاص به وحده دوناً عن سائر المخلوقات، وما كُتب في اللوح المحفوظ عند الله على عبود ليس بالضرورة ـ حتماً ـ أن يكون هو نفسه قد كتب على وردة، وبإيجازها؛فإنّ " كل شاة تُعَـلّق من ساقها " .. بل وراحت وردة تستبدل تخوفها من شقيقها إلى إعادة تفجير ينابيع عطفها عليه ومحبتها السالفة له، فكانت ترعاه حتى أكثر من أمها ـ أحياناً ـ ولكن في النهار فقط ـ طبعاً ـ لأنها (جبانة) كما تصف هي نفسها، مع أنها تدرك ـ في جوارحها ـ أن حقيقتها ليست كذلك، ونحن أيضاً ندرك ذلك ولكن .. إنها مجرد إجابة في الأقل، تُريح من عناء التفتيش عن الإجابات الدقيقة.. وتبقى وردة أجمل بنات عمومتي، أجمل بنات القرية، وبعد أن أصبحتُ ـ أنا ـ في الثانوية ودرست الجغرافيا والشعر والتاريخ، كنت أقول لها بكل صدق:" أنتِ أجمل بنت في الشرق يا وردة "، فتبتسم، وأضيف بحماسة ويقين:" بل وفي العالم كله " فتتورد وجنتاها خجلاً لتنسحب قائلة:" سأذهب لأعد لك الشاي "... ووردة تكبرني بكثير ولذلك .. فلا حرج، ولا تبدل في رأيي حتى الآن. مازلت أقول لها كلما جمعتنا جلسة شاي أو مرض عمتي أو عيـد: " أنتِ أجمل بنت في الشرق .. بل وفي العالم كله " حتى بعد زواجها الثالث، وإذا ما عدتُ إلى بلدي وقريتي مرة أخرى سأقول لها : " أنتِ أجمل بنت في الشرق والغرب.. لم أرَ أجمل منكِ في العالم".
&
التعليقات