سليمان يوسف يوسف&
&
إن الوجود الآشوري (السرياني/الكلداني) في سوريا قديم، قدم سوريا ذاتها، وهو يشكل العمق الحضاري والتاريخي لسوريا. والآشوريون هم اليوم جزءا أساسيا وأصيلا من النسيج الوطني للمجتمع السوري. فهم أحفاد الآشوريين والآراميين سكان بلاد ما بين النهرين وبلاد الشام الأوائل، وأسم سوريا ذاتها مشتق من كلمة (سريان)(سيريا) أي (بلاد السريان). ويعتبر الآشوريين أقرب الشعوب إلى العرب في العرق والثقافة. هذا وقد شارك الآشوريون بكل فعاليا تهم الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية في بناء الدولة السورية وتقوية وحدتها الوطنية. لاشك أن عدد الآشوريين قليل نسبياً، ولا توجد إحصائيات رسمية بتعدادهم في سوريا، لكن يقدرون بنصف مليون شخص، يتوزع وجودهم في الجزيرة السورية وحلب وحمص ودمشق.
بالرغم من كل ما جرى للآشوريين وما تعرضوا إليه من مآسي وويلات جراء عمليات القتل والتشريد الجماعي طوال فترة الحكم العثماني، خاصة مذابح (بدر خان بيك)في تياري وحكاري عام 1843-1846م و صيف 1915م في تركيا قبيل الحرب العالمية الأولى.تمكن الآشوريون من لملمة جراحهم والعودة إلى مسرح الحياة.فقد استطاع الآشوريون أن يوظفوا هامش الحريات الدينية في سوريا في أحياء تراثهم الآشوري (السرياني)، وخدمة ثقافتهم القومية وتطوير مقومات وجودهم والبدء بنهضة اجتماعية ثقافية جديدة.فبعد استقلال سوريا واستقرار الأوضاع السياسية فيها أقام الآشوريون المؤسسات الثقافية والاجتماعية والتربوية التي كان مسموحاً بها في إطار الحريات الدينية, كالمدارس الخاصة والنوادي الرياضية والكشافة. وكان للأستاذ (شكري جر مكلي)وغيره من المثقفين الآشوريين المتأثرين بالفكر القومي الآشوري الذي بشر ونادى به المعلم والمفكر الآشوري نعوم فائق، الفضل الكبير في إقامة تلك المؤسسات التي شكلت الأرضية والانطلاقة الأولى للعمل القومي الآشوري في سوريا. حيث وفرت تلك المؤسسات جملة من العوامل والمقومات المادية والمعنوية لبناء الكيان الاجتماعي والثقافي للشعب الآشوري واستقراره في سوريا.وكانت المؤسسات الكنسية تشكل الغطاء الشرعي للفعاليات القومية. يقول يوحانون قاشيشو في مذكراته:
((إن المؤسسات السريانية (الآشورية) تعتبر بحق الدعامة الأساسية لنشر الثقافة والمعارف وحب الوطن والتآخي بين الأقليات, وكانت تحث الشباب السرياني على تعلم اللغة السريانية والتمسك بهويتهم القومية والاعتزاز بانتمائهم الوطني لسوريا)). هذا وقد لعبت المؤسسات السريانية حينذاك دورا هاما في الحياة السياسية في مدن الجزيرة -ذات الكثافة الآشورية-خاصة القامشلي, حيث كانت الأحزاب والقوى السياسية والفعاليات الاجتماعية تسعى للحصول على تأييد تلك المؤسسات السريانية في الانتخابات البلدية والمجالس النيابية فقد كانت تشكل تلك المؤسسات بأعضائها وجماهيرها الواسعة قوة انتخابية لها وزنها وثقلها في المعادلات السياسية.
&- بعد الحرب العالمية الثانية بدأت تنتشر الأفكار الثورية والمبادئ الاشتراكية وأخذت تنمو حركات التحرر الوطني في المنطقة، والشعب الآشوري في سوريا وباقي دول المنطقة لم يكن بعيداً عن هذه التحولات الفكرية, وإنما كان سباقاً قبل غيره لتلقي هذه الأفكار واعتناقها لأنه رأى فيها سبيلاً لرفع الظلم عنه وحماية وجوده القومي.من هنا وعلى خلفية النهضة الثقافية كانت الكوادر المثقفة من الآشوريين مهيأة للانضمام إلى صفوف الأحزاب السياسية والحركات الثورية والقوى الوطنية والديمقراطية, منها(الحزب الشيوعي السوري و الحزب القومي الاجتماعي السوري و حزب البعث) لا بل كانت من طلائع هذه الأحزاب ومؤسسيها. مما يؤكد على المستوى المتقدم للفكر السياسي لدى الإنسان الآشوري, وعمق وعيه الوطني في سوريا، وهذا بحد ذاته ينطوي على مدى تفهم الآشوريين لمستقبلهم، ليس في سوريا فحسب وإنما في معظم دول المنطقة.ومع تبلور الفكر القومي ونمو الوعي السياسي نشأت التنظيمات والأحزاب الآشورية في سوريا. ففي عام 1957م تأسست (المنظمة الآثورية الديمقراطية) كأول فصيل سياسي آشوري سوري في العصر الحديث، وهي تشكل اليوم أحد الفصائل الأساسية للحركة الآشورية في سوريا إلى جانب بعض التنظيمات والهيئات الآشورية الأخرى.
- لاشك إن ولادة الحركة الآشورية في سوريا ترافق مع نمو الوعي الوطني لدى الإنسان الآشوري إلى جانب وعيه القومي, لهذا تبنت العمل الدبلوماسي والنضال السياسي السلمي طريقاً وحيداً، وخياراً استراتيجيا لها منذ نشأتها.مما يؤكد على النهج الوطني للحركة الآشورية في سوريا وإدراكها للعلاقة والترابط بين مسألة الأقليات وقضايا الوطن, وإيمانها بأن أمن المواطن هو من أمن الوطن ولا حل لمسألة الأقليات إلا في إطار وطني وعلى أسس ديمقراطية في مجتمع يقر بالتعددية القومية والسياسية وتصان فيه حقوق الإنسان.
&لقد مرت الحركة الآشورية في سوريا بمراحل صعبة أجبرتها على الانكفاء على ألذات والتحرك بحذر شديد على الساحة الوطنية، لهذا شكل توقيف واستجواب بعض كوادر المنظمة الآثورية الديمقراطية عام 1987، ومن ثم الإفراج المبكر عنهم انعطافاً سياسياً كبيراً ومهماً في حياة وتاريخ الحركة الآشورية في سوريا, حيث فرضت على الحركة الآشورية الإعلان عن نفسها و الظهور على السطح السياسي السوري، ربما في وقت لم تتهيأ له.لكن استطاعت أن تتكيف مع الظرف السياسي الجديد, والانخراط المباشر في الحياة السياسية للبلاد, حيث خاضت الانتخابات البرلمانية علناً و لأول مرة في تاريخها عام 1990وحققت انتصارا سياسياً لم يكن قليلاً قياساً لظروف المرحلة بفوز مرشح(المنظمة الآثورية الديمقراطية) في الانتخابات.وكانت هذه فرصتها للانفتاح السياسي على معظم القوى السياسية والأحزاب في سوريا, وعلى الحكم ذاته.هذا وقد أتسم الموقف السياسي للحركة الآشورية في سوريا منذ البداية بالحياد الإيجابي، أو المعارضة الإيجابية, المعارضة التي لا ترفض النظام السياسي وإنما تقبل به و تطالبه الاعتراف بالشعب الآشوري وحقوقه القومية في سوريا، لهذا بقي خطاب الحركة الآشورية في بعده الوطني والقومي، خطاباً تثقيفياً / توضيحياً.
- للآشوريين اليوم حضورهم الاجتماعي والثقافي المميز في سوريا، حيث يتحدثون بلغتهم القومية ((السريانية )) ويمارسون عاداتهم وتقاليدهم، ويقيمون العديد من المهرجانات الفنية والأدبية والثقافية السنوية، ويحتفلون بمناسباتهم وأعيادهم القومية مثل (عيد رأس السنة الآشورية)في الأول من نيسان الذي كان مميزاً هذا العام في محافظة الحسكة، حيث شهد زواجاً جماعياً كبيراً وبحسب الطقوس الآشورية القديمة كان لهذا الزواج بعداً وطنياً وقومياً عميقاً حيث حظيي باهتمام شعبي وإعلامي رسمي كبير من قبل الدولة السورية، التي مازالت تنظر للآشوريين كطوائف مسيحية، لا كقومية متميزة، لها هويتها و خصوصيتها الثقافية والتاريخية .فهم يتمتعون بكامل حقوقهم الدينية ويعلمون لغتهم السريانية في مدارسهم الخاصة كلغة طقس كنسي وليس كلغة قومية لشعب له ثقافته وتراثه، هذه اللغة التي هي مكون أساسي وعنصر أصيل لثقافة وحضارة سورية القديمة.
&إن الوجود الآشوري في سورية هو حقيقة تاريخية وواقع موضوعي، من الخطأ تجاوز هذه الحقيقة، أو إسقاطهم من دائرة الحوار الوطني الديمقراطي.بدون الآشوريين لا يمكن أن تكتمل صورة سوريا الحضارية،وتحدد هويتها التاريخية والوطنية. فمن خلال الآشوريين وبهم ترتبط وتتواصل سوريا الحديثة بماضيها الحضاري وتاريخها المتميز. فالإقرار بالوجود الآشوري هو ضرورة وطنية بقدر ما هو حاجة آشورية، وهو خيار وطني ديمقراطي بقدر ما هو موقف أنساني ونهج حضاري0خاصة وأن سوريا مقبلة خلال الأشهر القليلة القادمة على انتخابات تشريعية جديدة(انتخاب نواب مجلس الشعب). فمن غير الاعتراف بالآشوريين(بكل طوائفهم) كقومية لها خصوصيتها الثقافية والاجتماعية المتميزة في سوريا، وتعديل نظام الانتخابات بحيث يضمن ويكفل تمثيل الآشوريين بشكل صريح في مجلس الشعب. وهذا ما ينتظره ويتأمله الشعب الآشوري في سوريا في عهد الانفتاح الاجتماعي والثقافي والسياسي الذي بدأه الدكتور بشار الأسد رأيس الجمهورية.
الكاتب من سوريا مهتم بمسألة الأقليات.