سليمان يوسف يوسف
&
&
لقد عانت معظم الشعوب التي أستعمرها العثمانيون من مظالم السياسة الشوفينية والأيديولوجية القومية للأتراك، التي اتسمت منذ البداية بنزعة دينية عرقية عنصرية، حتى وصل الأمر بهذه الشعوب إلى مستوى الانحطاط الثقافي والاجتماعي بسبب عقلية الرعاع الأتراك العثمانيين المستعمرين وما زالت بصمات التخلف وآثار الانحطاط ظاهرة على هذه الشعوب.وقد شخص كل من شكسبير وفيكتور هوغو مخاطر السياسة العثمانية الغاشمة بالقول:) من هنا مرَ الأتراك). فقد نشر العثمانيين الخراب والدمار في كل المناطق التي اجتاحوها.ومارسوا شتى أنواع التدمير والنهب والتخريب بحق ثقافات وحضارة الشعوب الأخرى، في مقدمتهم الأرمن والآشوريين.
وتعتبر الفترة المحصورة بين 1841-1848 مرحلة عاصفة في تاريخ وحياة المسيحيين من رعايا الدولة العثمانية من أرمن وآشوريين في بلاد مابين النهرين، حيث فرض عليهم خوض صراعاً مريراً من قبل أطراف مختلفة في مقدمتها الأتراك وكذلك المبشرون الأوربيون والأمريكان ومن معهم من حلفائهم من العشائر والقبائل الكردية.فقد أظهرت الوثائق هؤلاء المبشرون كسياسيين لا كرجال دين، لقد عمل المبشرون الغربيين كل ما بوسعهم لإنجاح الحملة التركية للقضاء على المسيحيين من أرمن وآشوريين ويونان، باعتبار كان ذلك من مستلزمات السيطرة على مستعمرات الإمبراطورية العثمانية المريضة بعد سقوطها.وتعتبر المجازر الجماعية التي قام بها السلطان عبد الحميد ضد المسيحيين من أرمن وسريان ( كلدان وآشوريين) بين العامين 1894 و 1896 والتي أودت بحياة أكثر من مائتي ألف شخص، تعتبر هذه المجازر تجربة ومقدمة لمسرحية الإبادة الجماعية التي قامت بها حكومة (تركيا الفتاة) في العام 1915م.
مع نمو الوعي القومي و الفكر السياسي الوطني للشعوب المظلومة، في نهاية القرن التاسع عشر، بدأ المثقفين والمفكرين من هذه الشعوب بإنشاء حركات التحرر وتأسيس الأحزاب الوطنية التي طالبت وناضلت من أجل التخلص من وطأة حكم الأتراك العثمانيين وبدأ يتصاعد النضال التحرري والكفاح المسلح لهذه الشعوب، خاصة لدى الشعوب المسيحية مثل (الأرمن والآشوريين ).مما دفع تركيا-وهي تشعر بالهزيمة - في 24 نيسان من عام 1915 للقيام بحملة اعتقالات وإعدامات لرواد الفكر القومي ورموز النضال التحرري، وكذلك القيادات الدينية،الذين دعوا إلى تحرير الشعوب المظلومة من حكم الأتراك وتم نفيهم إلى داخل الأناضول حيث تمت تصفيتهم. وكانت هذه الحملات تمهيداً لحملات الإبادة الجماعية و(المذبحة الكبرى)عام1915م بحق الأرمن والآشوريين.فبعد تغييب القوة السياسية والإدارية والفكرية المسيحية الفاعلة وأصبح المسيحيون بلا حماية بدأت الخطوة الثانية في تنفيذ خطة الإبادة الجماعية وهي الترحيل ( السوقيات) في قوافل جماعية سيراً على الأقدام.
&وتعتبر لجنة (الاتحاد والترقي)، الأكثر تعصباً و شوفينية، التي قامت بحركة الانقلابية عام 1918 ضد السلطان عبد الحميد وحكمت تركيا بين العامين 1908 و 1918، هي الجهة المسئولة عن عمليات الإبادة الجماعية سنة 1915، حيث قام الجيش التركي بتجريد الجنود المسيحيين من سلاحهم ورتبهم العسكرية وكونت منهم طوابير الخدمة العمالية (فرق السخرية) التي أجبرت على تعبيد الطرق وبناء الجسور ومد الخطوط الحديدية، ثم نفذ الجيش أوامر حكومته بقتل جميع أفرادها.هذه الخطوة نسقت ما بين طلعت باشا وزير الداخلية التركية والمسئول عن المدنيين، وبين أنور باشا وزير الدفاع التركي والمسئول عن طوابير السخرة.وبالطبع نالت المجاعة والأمراض قسطها من الضحايا لتزيد من عظمة المأساة. ونتيجة هذا قضي على أكثر من مليون أرمني، وعلى ما يقارب من ثلاثمائة من الآشوريين (سريان وكلدان) الآشوريين)، وعلى عشرات الألوف من الأقليات المسيحية الأخرى مثل الروم، وذلك بحسب إحصائيات جمعية حقوق الإنسان في هيئة الأمم. كان القصد من هذه المذابح والمجازر الجماعية إذلال المسيحيين وأمحاء وجودهم من الإمبراطورية العثمانية والتخلص من مشكلة وجودهم كقضية قومية سياسية.
وبعد تنفيذ سياسة التطهير العرقي بحق كل من الأرمن والآشوريين (السريان)، قامت حكومة (تركيا الفتاة) بإسكان الأكراد والأتراك في مناطق وأماكن الأرمن والآشوريين، في الأجزاء الخاضعة للحكم العثماني من أرمينيا وبلاد ما بين النهرين، حيث بدلت أسماء كل الآثار الحضارية والمدن والقرى، وهدمت الكنائس والأديرة وحولت قسماً منها إلى جوامع. وإذا قارنا الخريطة الديمغرافية للمناطق المسيحية في كلٍ من أرمينيا و بلاد مابين النهرين الوقعة تحت الحكم العثماني كما كانت عليها قبل المذبحة الكبرى عام 1915م مع ما أصبحت عليه بعد المذابح نكتشف ببساطة هول الكارثة وحجم المأساة التي حلت بالشعبين الأرمني والآشوري. فمن خلال القتل والإبادة استطاعت حكومة ( تركيا الفتاة) إزالة الأرمن والسريان (الآشوريين) من الإمبراطورية العثمانية وتدمير أصالة هذين الشعبين التاريخية، وتحريف البنية القومية والشخصية الدينية للمنطقة.
لقد وصف شهود عيان المأساة الأرمنية السريانية (الآشورية) جراء المذابح الجماعية التي نفذتها القوات التركية عام 1915م،التي لا يستطيع المرء تصور خطورة الإبادة الجماعية وثقلها بأنها: (( الصفحة الأشد سواداً في التاريخ المعاصر)). فقد كانت شديدة البشاعة ورهيبة، حتى نكاد لا نصدق أعداد الضحايا.
يقول(أرنولد توينبي) المؤرخ الإنكليزي في مذكراته)):لم يكن المخطط يهدف إلا إلى إبادة السكان المسيحيين الذين يعيشون داخل الحدود العثمانية.)). ويقول(هنري مورغنتاو) السفير الأمريكي لدى القسطنطينية))في ربيع عام 1914وضع الأتراك خطتهم لإبادة الشعب الأرمني.وانتقدوا أسلافهم لعدم تخلصهم من الشعوب المسيحية أو هدايتهم للإسلام منذ البدء.ويضيف:لقد أتاحت ظروف الحرب للحكومة التركية الفرصة، التي طالما تاقت إليها، لإحكام قبضتها على الأرمن)). فبدلاً من أن تنفذ تركيا الالتزامات.التي تعهدت بها في الهيئات والمحافل الدولية اتجاه القوميات الغير تركية ورعاياها من المسيحيين، قامت بارتكاب المجازر الجماعية بحق هذه الشعوب.وجندت لها الآلاف من جنود الجيش وبعض القبائل والعشائر الكردية المسلمة باسم الدين.
هذا وقد أدانت القوى العالمية الكبرى تلك المذابح واستنكرتها وحملت الحكومة التركية مسؤولية كل ما جرى من ويلات ومآسي للأرمن والآشوريين.ونالت قضايا شعوب المنطقة الواقعة تحت الحكم العثماني المزيد من التعاطف والتأييد الدوليين. ففي كانون الثاني عام 1919م وضعت الدول الكبرى الأربع- إنكلترا والولايات المتحدة وفرنسا وإيطاليا-مسودة صيغة تحدد أهداف الحلفاء من الحرب وقد تضمنت الفقرة التالية التي تتناول القوميات من رعايا الإمبراطورية العثمانية ما يلي)) نظراً لسوء إدارة الأتراك لرعياهم من الشعوب الأخرى والمجازر الرهيبة التي ارتكبوها ضد الأرمن وضد شعوب أخرى كالسريان خلال السنوات الأخيرة، فإن الحلفاء والقوى المرتبطة بها وافقت على وجوب اقتطاع أرمينية وسورية وبلاد مابين النهرين وشبه الجزيرة العربية بصورة نهائية عن الإمبراطورية التركية)).
يقول (هنري مورغنطاو السفير الأمريكي في تركيا ما بين -11913 - 1916) في كتابه قتل أمة:(( لم يكن الأرمن الشعب الوحيد بين الأمم التابعة لتركيا عانت من نتائج سياسة (جعل تركيا بلداً للأتراك حصراً).فهناك اليونان والآشوريين من( السريان والنساطرة والكلدان) أيضاً.وستبقى تركيا مسئولة عن كل تلك الجرائم أمام الحضارة الإنسانية)).
لقد ظلت مأساة الشعبين الأرمني و الآشوري على فظاعتها وأحداثها المروعة لعقود طويلة طي النسيان والكتمان من قبل المجتمع الدولي. لكن مع ازدياد الاهتمام الدولي في قضايا الشعوب المظلومة والجرائم الإنسانية التي اقترفت بحقها،و تأسيس العديد من المحاكم الدولية من أجل هذا الغرض، منها (محكمة الجزاء الدولية) في كانون الثاني من عام 2001المختصة بجريمة الإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب.بدأ منذ سنوات الأرمن و الآشوريين بمختلف فعالياتهم السياسية والثقافية والاجتماعية والدينية تحريك قضية مذابح عام م1915 في تركيا على الساحة الدولية وعرض ملف هذه القضية على المنظمات والهيئات الدولية المعنية بحقوق الإنسان والشعوب والبرلمانات الأوربية، فقد ناقش الكونكرس الأمريكي عام2000 قضية مذابح الأرمن عام1915 في تركيا، وبعدها أقرت الجمعية الوطنية الفرنسية بمسؤولية تركيا عن المذابح. وفي السويد تم مناقشة قضية مذابح (السريان)الآشوريين في تركيا في أكثر من جلسة، كانت أخرها في آذار 2002م ونسبة المؤيدين هي في ازدياد مستمر.لقد مضى قرابة ثمانية قرون من الزمن على ((المذبحة الكبرى)) أكبر مذبحة في التاريخ البشري الحديث.ومازالت تركيا تتشبث بعنجهيتها وعقليتها الشوفينية التي خططت ونفذت المذابح الجماعية بحق المسيحيين وتعاقب كل من يحاول فتح هذا الملف.
عندما يستعيد كل من الأرمن والآشوريين في الرابع والعشرون من نيسان من كل عام ذاكرتهم التاريخية.ليس من أجل استعادة الماضي بكل مآسيه ونكباته، وإنما لتذكير تركيا بهذه الجرائم الإنسانية التي اقترفتها ومطالبتها الاعتراف بمسؤوليتها اتجاهها والاعتذار لكلا الشعبين عنها، وتحمل ما يترتب على ذالك من نتائج. كذلك لإيقاظ الضمير العالمي اتجاه ما يجري من جرائم إنسانية بحق العديد من الشعوب بين فترة وأخرى.
&
&المراجع:
-القضية الأرمنية والقانون الدولي. شاو ارش طوريكيان.
-&قتل أمة:هنري مورغنطاو السفير الأمريكي في تركيا مابين(1913-1916).
&
الكاتب من سوريا كاتب مهتم بمسألة الأقليات.