د.عدنان محمد آل طعمة
&
&
العراقيون يفخرون بثورة العشرين وأبطالها وقادتها ورجالها من شيوخ العشائر العراقية& ورجالات الدين؛ والمراجع العظام والقادة السياسيين وشعرائها الميامين الذين أشادوا بتلك الثورة وامتدحوا قيامها وأرّخوا لها؛ ومن حق العراقيين أن يفخروا بتلك الثورة التي ضحوا بالغالي والنفيس من أجلها وقدّموا أبناءهم قرباناً رخيصاً لتحقيق استقلال العراق واخراج الانجليز من أراضهم ما داموا لم يستثمروا الانتصارات الباهرة في تلك المعارك الضارية ضد المستعمر الذي جاء به الشريف الحسين بن علي لهذه المنطقة؛ وقد كُتبت دراسات عديدة حول ثورة العشرين سواء كان من المشاركين للثورة والمعاصرين لها؛ أو من الأجيال اللاحقة الذين استعانوا في كتاباتهم على أولئك الذين ساهموا بشكل أو بآخر في الثورة واعتمد بعضهم على الوثائق والرسائل الصادرة والواردة من زعماء الثورة إلى قائد الثورة والرسائل المتبادلة بين قائد الثورة الميرزا الشيرازي والشريف الحسين بن علي؛ ولم أجد في تلك المؤلفات التي تناولت هذه الثورة المكان الذي كان يجتمع فيه هؤلاء الرجال؛ هل هو في بيت المرجع الديني في كربلاء أم في الصحن الحسيني؛ أم في مدرسة دينية, هل هو على الأرض أم هو في الجو!!
لم يخبرنا أحد من المؤلفين والكتاب أين تتم هذه الاجتماعات السياسية والعسكرية التي كانت تهيّئ لقيام الثورة، مع أن بعض هؤلاء الأشخاص الذين ساهموا فيها عاش إلى منتصف السبعينات وبعضهم طال بهم العمر حتى منتصف الثمانينات مثل حفيد الميرزا قائد الثورة الذي كان عمره في الثلاثينات عند قيام الثورة. نعم مازلت أسأل نفسي لماذا لم يذكر أحد من الكتّاب والمؤرخين الرجل الذي استضاف كل هؤلاء الناس في بيته, ولم يذكروا البيت الذي اجتمع فيه القادة وشيوخ العشائر الوافدين من أبي صخير والشامية والمشخاب والشنافية والنجف والحلة والديوانية وغيرها من المدن القريبة من كربلاء ثم لماذا أدار هؤلاء القادة ظهورهم إلى المساهمين الفعليين في هذه الثورة الكبرى، الأنهم لا يملكون القرار بأيديهم وأنهم استضعفوا ورضوا بالقليل القليل؛ هذا ما كان يدور في رأسي وفي خلدي على الداوم؛ وما دام القدماء من مؤرخينا وأدبائنا كانوا يسجلون كل شاردة وواردة وكل حدث وواقعة فجدير بنا أن نتابع خطاهم في ذلك ولكي لا تذهب المعلومات ويأتي زمن لا يجد أحفادنا أجوبة شافية على أسئلة كثيرة تدور في خلدهم؛ علينا أن نذكر ونسجل ما نعرفه عن تلك الثورة الكبرى في كل صغيرة وكبيرة رافقتها. نذكر الأسماء كلها لكي لا نبخس الناس أشياءهم ونحرمهم حقهم؛ ولكي نكون واقعيين علينا أن نروى الحقائق كما هي دون مكياج وتزيين فقد كان هؤلاء القادة بشراً مثلنا لم يكونوا أنبياء منزهين ولا ملائكة مقربين؛ فكانوا يأكلون ويشربون ويمشون في الأسواق، ويمرحون ويفرحون، واذا ماخلوا لأنفسهم يسمعون ويدندنون ويطربون. يجتمعون على حدثٍ ذي جلل ويتفرقون بعد لهو واستمتاع، يجتمعون للتشاور في مسألة عظيمة؛ ويتفرقون وقد بيتوا أمراً خطيراً؛ هكذا كان هؤلاء الرجال ذي حزم وعزم وشدة وصرامة؛ وذي فرح ومرح ولهوٍ وطرب.
كان هؤلاء الناس شيباً وشباباً يتمتعون بحيوية ونشاط؛ كانوا مثقفين يقرأون الصحف والمجلات والكتب، يتابعون أخبار العالم عبر وسائل ذلك العصر، وما يتيسر لهم من المعرفة، يحفظون سوراً وآيات من القرآن الحكيم وخطباً من نهج البلاغة وعشرات القصائد العربية، ومقامات الحريري والهمداني وغيرها؛ ولم يكونوا أناساً جاهلين بل كان هؤلاء وقد رأيت بعضهم يمتلك مكتبة كبيرة تضم آلاف الكتب وتحتوي على مخطوطات نادرة مثل وداي العطية شيخ الحميدات هؤلاء الناس هم الذين أوقدوا نار الثورة العراقية الكبرى؛ لم يكن هؤلاء الناس جادين كل الجد كما لم يكونوا لاهين كل اللهو كانوا وسطاً بين هذا وذاك؛ لم يكد هؤلاء ينتهوا من مناقشة الأمور الخطيرة واتخاذ القرارات الهامة حتى ينصرف المجلس إلى اللهو والمتعة والرخص في الحديث كان هؤلاء الناس يجتمعون في بيت أحد الأعيان في محلة باب الطاق بكربلاء حيث تنتشر بيوت عبد الواحد الحاج سكر رئيس عشيرة آل فتلة، ومحمد العبطان رئيس عشيرة الخزاعل؛ ومظهر الصكب شيخ البوعامر وبيت السيد كاظم الرشتي وإبراهيم الزعفراني - الذي تمرد على نجيب باشا - كما أن السيد محسن أبو طبيخ كان ينزل في بيتنا الوسطاني - وهو مازال موجوداً إلى هذا اليوم؛ وأخرين. كان هؤلاء الرجال يتسللون واحداً بعد الآخر إلى ذلك البيت الواسع حيث ينتظرهم صاحب البيت مع مجموعة من الأصدقاء, جلس هؤلاء حول المناقل وقد توقد الجمر فيها، ووضعت أباريق الشاي حول ذلك الجمر فبعضهم أخذ نصيبه من الشاي وآخرون احتسوا فناجين القهوة ينتظرون أصدقاءهم للتشاور في القضايا الجادة والمصيرية؛ وكان هناك صبيّان يراقبان الطريق كان احدهما ابن أحد القادة المجتمعين وهو السيد ابراهيم شمس الدين القزويني وهو ابن عشرة اعوام وقد رافق أباه السيد حسين القزويني في سجن الحلةأياماً. وقد روى لي جزء من تلك الأحداث؛ فقد كان دليلاً للوافدين على كربلاء إذ يدلهم على البيت الذي كان يجتمع فيه الملأ؛ ونسيت اسم الشخص الثاني؛ اما ما يدور في داخل البيت في الأرسى، وهو صالون كبير يطل على باحة البيت؛ واجهته كلها زجاجية مؤطرة بألواح خشبية خفيفة أعاليها ملونة أحمر وأخضر وأصفر وأزرق حينما ينتهي القادة والرجال من أحاديثهم السياسية وقراراتهم الثورية يلتفت أحدهم إلى رجلٍ ذي صوتٍ عذب شجي يطلب منه مقاماً يسميه أحياناً ولا يسميه في أحايين كثيرة، فترفع واحدة من البناجر وهي كلمة فارسية تعني الشباك ليدخل الهواء قليلاً ويتبدل الجو؛ ويبدأ السيد ابراهيم الطباطبائي بحر العلوم بالانشاد؛ ويصغي الجميع إلى أبيات الشعر التي ينشدها وتسمع بعضهم يصيح الله .. الله .
روى لي جدنا السيد أحمد السيد صالح آل طعمة مجلساً من هذه المجالس التي كان يحضرها مع رجالات الثورة فقال: يبدأ السيد إبراهيم بإنشاد القصيدة التي تقول:
روى لي جدنا السيد أحمد السيد صالح آل طعمة مجلساً من هذه المجالس التي كان يحضرها مع رجالات الثورة فقال: يبدأ السيد إبراهيم بإنشاد القصيدة التي تقول:
&&&&&&&&&&& تعذر صمت الواجدين فصاحوا&&&&&&&&&&&&&&&& من صاح وجداً ما عليه جناح
&&&&&&&&&& أسرّوا حديث العشق ما أمكن التقى&&&&&&&&&& وان غلب الشوق الشديد فنــاحوا
&&&&&&&&&& سرى طيف من يحلوا بطلعته الدجى&&&&&&&& وساير ليل المقبلين صبـــــــاح
&&&&&&&&& يطاف عليهم والخليّون نــــــوّم &&&&&&& ويسقون من كأس المدامع راح
&&&&&&&&&& أسرّوا حديث العشق ما أمكن التقى&&&&&&&&&& وان غلب الشوق الشديد فنــاحوا
&&&&&&&&&& سرى طيف من يحلوا بطلعته الدجى&&&&&&&& وساير ليل المقبلين صبـــــــاح
&&&&&&&&& يطاف عليهم والخليّون نــــــوّم &&&&&&& ويسقون من كأس المدامع راح
ويمضى في الإنشاد حتى تراه يتصبب عرقاً فينزل من أنفه كالميرزاب!! ثم يواصل فيقول:
&&&&&&&&&&& فلابد& من حي الحبيب زيارة&&&&&&&&&&&&&&&&& وإن ركزّت بين الخيام رماح
&&&&&&&&&&& هنالك ودّي وفرحي ومنيتي&&&&&&&&&&&&&&&&&&& حياتي وموت الطالبين نجاح
&&&&&&&&&&& يقولون لثم الغانيات محرّم&&&&&&&&&&&&&&&&&&&& أسفك دماء العاشقين مبـاح
فإذا ما انتهى السيد الطباطبائي من إنشاده؛ قال صاحب البيت للحاضرين من يأتني بقائل هذه الأبيات له مائة برتقالة، وكان هذا السيد الجليل يملك بساتين البرتقال والرمان والليمون الحلو؛ ويتفرق الجميع ليلتقوا في المساء قبل الغروب عند قبر الشيخ خلف بن عسكر الكبيسي في الزاوية الشمالية الغربية من صحن الامام الحسين (ع) وينطلق هؤلاء المجتمعون للبحث عن الشاعر الذي استمتعوا بسماع شعره.
قال جدي السيد أحمد: مضيت إلى مكتبة الشيخ مهدي الرئيس وكانت من المكتبات الكبرى في كربلاء تجلب الكتب من القاهرة وبيروت ودمشق واسطنبول وتبريز وطهران والهند وغيرها ولا يوجد كتاب في العالم الا وتجده عند الرئيس، يقول فقلبت دواوين أشعار العرب من شعراء أمويين وعباسيين؛ أندلسيين ومغاربة وفاطميين وشعراء العصر المملوكي والعثماني وتصفحت المؤلفات الأدبية المختلفة ولم أترك كتاباً إلا وقلبته فلم أجد أثراً لهذه الأبيات حتى جاء العصر ولم أفوق إلى ذلك؛ ومضى غيري إلى مكتبات أخرى خاصة وعامة للبحث عن هذا الشاعر؛ وكل واحد منا يريد أن يحظى بهذه الجائزة ولم تكن الجائزة تهمنا بقدر ما يعنينا الكشف والبيان عن اسم هذا الشاعر؛ يقول: جئت منهكاً تعباً ودخلت احدى حجرات الصحن الشريف؛ وكانت هذه الحجرات التي يدفن فيها الموتى تفرش بالبسط والسجاد يجتمع فيها الناس والأصدقاء في المساء ويشربون الشاي ويجسلون للحديث قبل وبعد صلاة المغرب والعشاء هذا في الشتاء وفي الصيف يجلسون في خارج هذه الغرف؛ كما توجد في هذه الغرف والحجرات كتباً في الرفوف أو في الروازين جمع رازونة وهي دكة في الحائط؛ وقعت عين جدّي على هذه الكتب توجد من بينها كليات سعدي الشيرازي ؛ قال جدي: قلت في نفسي أيعقل أن تكون هذه الأبيات العربية لهذا الشاعر الفارسي فأخذت الكتاب وقلبته فإذا الأبيات نفسها موجودة في هذا المجموع الكبير؛ فطرت فرحاً وذهب كلّ تعبي في الحال أقمت وذهبت إلى البيت وبعدها بساعة عُدت إلى الصحن ومعي هذا الديوان وقد رأيت القوم مجتمعين عند القبر فسألتهم ماذا وجدوا؛ قال الجميع: لم يعثروا على قائل هذه الأبيات؛ قال لهم جدي لكني عثرت على قائلها، قال: وأريتهم الديوان؛ فانبهر الجميع بذلك كيف لهذا الشاعر الإيراني أن يقول هذا الشعر العذب، لكنهم نسوا أنّ هذا الشاعر قد رثى بغداد بقصيدة عصماء مبكية بعد سقوطها على يد هولاكو. يقول فأمر صاحب البيت خادمه بحمل (200) برتفالة إلى بيتنا مكافأة لي بعد أن عرف مدى الجهد الذي بذلته في البحث عن الشاعر.
قال جدي السيد أحمد: مضيت إلى مكتبة الشيخ مهدي الرئيس وكانت من المكتبات الكبرى في كربلاء تجلب الكتب من القاهرة وبيروت ودمشق واسطنبول وتبريز وطهران والهند وغيرها ولا يوجد كتاب في العالم الا وتجده عند الرئيس، يقول فقلبت دواوين أشعار العرب من شعراء أمويين وعباسيين؛ أندلسيين ومغاربة وفاطميين وشعراء العصر المملوكي والعثماني وتصفحت المؤلفات الأدبية المختلفة ولم أترك كتاباً إلا وقلبته فلم أجد أثراً لهذه الأبيات حتى جاء العصر ولم أفوق إلى ذلك؛ ومضى غيري إلى مكتبات أخرى خاصة وعامة للبحث عن هذا الشاعر؛ وكل واحد منا يريد أن يحظى بهذه الجائزة ولم تكن الجائزة تهمنا بقدر ما يعنينا الكشف والبيان عن اسم هذا الشاعر؛ يقول: جئت منهكاً تعباً ودخلت احدى حجرات الصحن الشريف؛ وكانت هذه الحجرات التي يدفن فيها الموتى تفرش بالبسط والسجاد يجتمع فيها الناس والأصدقاء في المساء ويشربون الشاي ويجسلون للحديث قبل وبعد صلاة المغرب والعشاء هذا في الشتاء وفي الصيف يجلسون في خارج هذه الغرف؛ كما توجد في هذه الغرف والحجرات كتباً في الرفوف أو في الروازين جمع رازونة وهي دكة في الحائط؛ وقعت عين جدّي على هذه الكتب توجد من بينها كليات سعدي الشيرازي ؛ قال جدي: قلت في نفسي أيعقل أن تكون هذه الأبيات العربية لهذا الشاعر الفارسي فأخذت الكتاب وقلبته فإذا الأبيات نفسها موجودة في هذا المجموع الكبير؛ فطرت فرحاً وذهب كلّ تعبي في الحال أقمت وذهبت إلى البيت وبعدها بساعة عُدت إلى الصحن ومعي هذا الديوان وقد رأيت القوم مجتمعين عند القبر فسألتهم ماذا وجدوا؛ قال الجميع: لم يعثروا على قائل هذه الأبيات؛ قال لهم جدي لكني عثرت على قائلها، قال: وأريتهم الديوان؛ فانبهر الجميع بذلك كيف لهذا الشاعر الإيراني أن يقول هذا الشعر العذب، لكنهم نسوا أنّ هذا الشاعر قد رثى بغداد بقصيدة عصماء مبكية بعد سقوطها على يد هولاكو. يقول فأمر صاحب البيت خادمه بحمل (200) برتفالة إلى بيتنا مكافأة لي بعد أن عرف مدى الجهد الذي بذلته في البحث عن الشاعر.
&في ذلك البيت تعرّف جدي على أكثر قادة وزعماء ثورة العشرين ورجالاتها والوافدين إلى كربلاء إبان الثورة مثل محمد رضا الشبيبي الذي كان يزور جدي دائماً؛ والسيد عبد المهدي المنتفكي - والد الدكتورعادل عبد المهدي - الذي كان هو والشيخ محمد باقر الشبيبي واسطة بين قادة الثورة ورؤساء العشائر في الجنوب؛ وأناساً آخرين؛ في هذا البيت كُلف جدي بنقل رسائل إلى زعماء عشائر الكوت والحي والرفاعي والشطرة من آية الله الشيرازي إلى آل الطحان؛ وموحان الخيرالله وغيرهم كثير؛ وقد سجل جدي بعض هذه الرسائل وهذه الرحلات وما سمع من حكايات وقصص في سفراته؛ ويبقى ذلك البيت الذي اجتمع فيه الرجال من قادة الثورة بيتاً من زجاج فيه كنزٌ من الأسرار لم تكتشف بعدُ حتى يأذن الله بذلك.
&
لاهاي - هولندا













التعليقات