نبيل شـرف الدين
"ذهنية الهجاء".. في ذكر حيل الشطار والسفهاء:
إحسان الطرابلسي نموذجاً
"ذهنية الهجاء".. في ذكر حيل الشطار والسفهاء:
إحسان الطرابلسي نموذجاً
كم ذا يُكابدُ عاشقٌ ويلاقي&& ........&& في حبِّ مصرَ كثيرةِ العُشاقٍ
كتبت ـ أو بتعبير أدق أمليت ـ هذا المقال من سرير بإحدى مستشفيات المحروسة حيث أجري جراحة في القلب، لهذا أتصور وأنا في حال المحنة راجياً رحمة الكريم، أنه مكتوب لوجه الله والحقيقة، وليس لصالح حكومة أو حزب أو عصابة أو حتى (إيلاف)، معتمداً على أن القارئ لم يعهد في كتاباتي الدفاع عن الأنظمة الحاكمة والعربية منها خاصة، إيماناً مني بأنها لا تستحق سوى السقوط.
ولأن الأمر يتصل بمناقشة حالة "السفه الإعلامي"، وسلوك "سفهاء الإنترنت"، فقد يتصور البعض أنه ربما ينحدر إلى هاوية التلاسن، والحاصل أن هذه الصفة "السفه" شأن غيرها من الصفات كالبخل والأنانية والشجاعة والخبث، تحتمل التقديرات الشخصية، وتحسمها الخبرات الإنسانية مع هذه الحالة أو تلك، لكنها أيضاً تخضع للضوابط الموضوعية، لهذا كنت حريصاً أن أدقق انطباعاتي الأولى عما كتبه الاختراع المسمى إحسان الطرابلسي، وحرصت من البداية أن أبحث عن أي شئ منشور باسمه مستخدماً عدة محركات للبحث عبر الإنترنت، وفشلت في العثور على أي مواد منشورة لهذا الاختراع في غير (إيلاف)، ولهذا الأمر دلالاته الهامة، ولعل أبسطها أنه لولا فسحة النشر التي تتيحها طبيعة الصحافة الإليكترونية ما وجد هذا الذي يكتب بذائقة الردح، ومفردات "الشرشحة" فرصة للنشر، وأنا أتحداه هنا أن يتمكن من نشر أي مقال مما ينشر له في (إيلاف) في أي صحيفة ورقية مهما صغر شأنها، والسبب ببساطة أن لنشر مقالات الرأي ـ مهنياً ـ ضوابطاً قد تتعاظم أو تتضاءل حسب توجهات الصحيفة وناشرها، لكن يبقى هناك في النهاية حد أدنى من الضوابط أبسطها عدم السقوط في مستنقع العنصرية، وقذف الشعوب والأمم.
فلتة زمانو
وبدلاً من العثور على مقالات أو دراسات أو حتى مقطوعات موسيقية للطرابلسي، لم نعثر إلا على فضيحة كاملة الأركان لسلوك كاتب افتراضي (فيرتشوال) ينشر مقالاته في خمسة أماكن، هذا خلافاً لما لم نتوصل إليه، فقد نشر الطرابلسي مقالاً في (إيلاف) يوم الاثنين الموافق 11 آب (أغسطس) 2003، تحت عنوان (فتاوى الأعراب في دستور العراق الجديد)، وبعدها أرسله لصحيفة (السياسة) الكويتية، التي قامت مشكورة بنشره في باب "رسائل القراء" المعنون "بأقلامهم" من باب "جبر الخواطر"، أو حتى تسويد الصفحات، ثم أعيد نشره مرة ثالثة في موقع (صوت العراق)، وفي المرة الرابعة نشر في موقع "شبكة العراقي"، ومرة خامسة في موقع "عراق الغد"، ويعلم الله وحده كم مرة أعيد نشر هذا المقال "فلتة زمانو" ليسلك سلوك "أثرياء الحرب"، الذين يبيعون لكل الأطراف، ويعرفون كيف ولمن يتوجهون ببضاعتهم، مستخدمين في ذلك كافة حيل وفنون "الشطارة والماركيتنغ".
ومن باب التوثيق، راجع سيدنا القارئ الوصلات التالية:
وبدلاً من العثور على مقالات أو دراسات أو حتى مقطوعات موسيقية للطرابلسي، لم نعثر إلا على فضيحة كاملة الأركان لسلوك كاتب افتراضي (فيرتشوال) ينشر مقالاته في خمسة أماكن، هذا خلافاً لما لم نتوصل إليه، فقد نشر الطرابلسي مقالاً في (إيلاف) يوم الاثنين الموافق 11 آب (أغسطس) 2003، تحت عنوان (فتاوى الأعراب في دستور العراق الجديد)، وبعدها أرسله لصحيفة (السياسة) الكويتية، التي قامت مشكورة بنشره في باب "رسائل القراء" المعنون "بأقلامهم" من باب "جبر الخواطر"، أو حتى تسويد الصفحات، ثم أعيد نشره مرة ثالثة في موقع (صوت العراق)، وفي المرة الرابعة نشر في موقع "شبكة العراقي"، ومرة خامسة في موقع "عراق الغد"، ويعلم الله وحده كم مرة أعيد نشر هذا المقال "فلتة زمانو" ليسلك سلوك "أثرياء الحرب"، الذين يبيعون لكل الأطراف، ويعرفون كيف ولمن يتوجهون ببضاعتهم، مستخدمين في ذلك كافة حيل وفنون "الشطارة والماركيتنغ".
ومن باب التوثيق، راجع سيدنا القارئ الوصلات التالية:
وإضافة إلى مساهمات الطرابلسي الفذة في "بريد القراء" بصحف الكويت، فهو أيضاً يستمتع بضيافة ـ لا أراه جديراً بها ـ على مواقع المعارضة العراقية، التي تستضيف عادة مواداً نشرت عن الشأن العراقي هنا وهناك، مع بعض المساهمات الخاصة بهذا الفصيل أو ذاك، وكان ما فعله الطرابلسي ليس أكثر من إعادة نشر لما سبق نشره عبر (إيلاف)، وليس انتاجاً خاصاً لتلك المواقع.
وفي مناسبة الحديث عن المعارضة العراقية، تنبغي الإشارة هنا إلى أن تياراً ليبرالياً يتنامى داخل مصر وقف منذ ما قبل الحرب ضد الطاغية وممارساته ونظامه، لأن هذا التيار يختلف تماماً عن هؤلاء الجاثمين على صدر الأمة منذ عقود، من الذين تربوا في دهاليز الناصرية، أو تفتحت عيونهم داخل كهوف التطرف الديني، ومن بين رموز هذا التيار الليبرالي الزميل الغائب الحاضر رضا هلال، الذي لم يستفز غيابه الغامض أنطاع "الكتابة السفيهة"، التي تعد واحدة من أبرز مظاهر الأمم المهزومة والمأزومة.
نعم ينمو هذا التيار ببطء، ووسط مناخ رافض وضاغط، لكنه مع ذلك يشق طريقه في الصخر بدأب وإصرار، ويراهن على المستقبل، ويحتمل بذاءات الغوغاء، قابضاً على إنسانيته وسط حال "التشيؤ" السائدة، ويتلقى الطعنات من الخصوم الظاهرين، وهؤلاء يهون أمرهم مقابل الأدعياء و"أثرياء الحرب" من الساعين إلى اختطاف قيم الليبرالية النبيلة، والمتاجرة بها في أسواق "الشطار" و"العيارين" و"الجرارة" و"النخاسة".
وفي مناسبة الحديث عن المعارضة العراقية، تنبغي الإشارة هنا إلى أن تياراً ليبرالياً يتنامى داخل مصر وقف منذ ما قبل الحرب ضد الطاغية وممارساته ونظامه، لأن هذا التيار يختلف تماماً عن هؤلاء الجاثمين على صدر الأمة منذ عقود، من الذين تربوا في دهاليز الناصرية، أو تفتحت عيونهم داخل كهوف التطرف الديني، ومن بين رموز هذا التيار الليبرالي الزميل الغائب الحاضر رضا هلال، الذي لم يستفز غيابه الغامض أنطاع "الكتابة السفيهة"، التي تعد واحدة من أبرز مظاهر الأمم المهزومة والمأزومة.
نعم ينمو هذا التيار ببطء، ووسط مناخ رافض وضاغط، لكنه مع ذلك يشق طريقه في الصخر بدأب وإصرار، ويراهن على المستقبل، ويحتمل بذاءات الغوغاء، قابضاً على إنسانيته وسط حال "التشيؤ" السائدة، ويتلقى الطعنات من الخصوم الظاهرين، وهؤلاء يهون أمرهم مقابل الأدعياء و"أثرياء الحرب" من الساعين إلى اختطاف قيم الليبرالية النبيلة، والمتاجرة بها في أسواق "الشطار" و"العيارين" و"الجرارة" و"النخاسة".
سوريا والسعودية
وبلغة البرقيات، داهمتني هذه الانطباعات الأولى عن هجائيات الطرابلسي الفاحشة بحق الشعب المصري، وليس الحكومة التي لا يعنينا أمرها في شئ، ولم نكن لننشغل بالدفاع عنها، فلم تكن هذه مهمتنا ولن تكون:
وبلغة البرقيات، داهمتني هذه الانطباعات الأولى عن هجائيات الطرابلسي الفاحشة بحق الشعب المصري، وليس الحكومة التي لا يعنينا أمرها في شئ، ولم نكن لننشغل بالدفاع عنها، فلم تكن هذه مهمتنا ولن تكون:
1ـ ان هذا الرجل لا يكتب لوجه الله، ولا من أجل ما يعتقد أنه الحقيقة، وتبدو ذهنية الهجاء جلية في كل البذاءات التي تقيؤها، فحتى موقع (يديعوت أحرونوت) الإسرائيلي لم يضبط مرة واحدة يكتب عن المصريين بهذه اللغة الخرقاء، لأنهم رغم تراث العداوة والحروب& يحرصون على الظهور بمظهر المتحضرين، فلا يسبون الشعوب كما يفعل سفهاء محسوبون على صنف الأعراب.
2ـ انه يكتب بانتقائية فجة، ولا يعرف حتى كيف "يطبخها"، فهو ينال من مصر ويتجاهل السعودية وسوريا تماماً، رغم أن الموقف الرسمي تجاه العراق الجديد واحد ومتفق عليه في هذا المحور الثلاثي (القاهرة ـ الرياض ـ دمشق)، لكنه في ما يبدو يدرك جيداً ـ كلبناني شاطر ـ عواقب التعرض للسعودية وسوريا، بينما يأمن جانب مصر، فضلاً عن سهولة التصويب على الأهداف الكبيرة.
3ـ انه أيضاً يتعامى عن موقف بلده الرسمي، وهو موقف شديد العنترية رغم محدودية تأثيرها الجيوستراتيجي، يتجاوز الموقف المصري بمراحل، ففي لبنان الرسمية تسمع خطباً تحمل أدبيات ومفردات تعود إلى الحقبة البلشفية، وفي لبنان الشعبية عشرات من لجان المقاطعة، وجمعيات القوميين، وجماعات الأصوليين، من الجنوب حتى الضنية، كما شهدت لبنان مؤتمرات الهتاف والجعجعة القومجية والإسلامجية، وتضافر فيها الهوس الديني بالقومي، ومن لبنان أيضاً انطلقت عشرات من "باصات المجاهدين"، الذين ذهبوا عبر سوريا إلى العراق، ليقاتلوا ضمن عصابات "فدائيي صدام"، فلماذا يتعامى الطرابلسي عن كل هذا ويكتفي بسب مصر الرسمية والشعبية والدينية كما ورد في آخر هجائياته الفاحشة، التي نشرها في ملاذه الوحيد (إيلاف).
4ـ انه رغم كتاباته الراهنة بمطواة "قرن غزال"، فلم نقرأ له حرفاً قبل الحرب أو خلالها، لكنه نشط بعد أن حسمت الأمور، فحدد بوصلته في الاتجاه الرابح، وكنا في صدارة من تصدى لخزعبلات القومجية وخرافات الأرهابجية و"كناسة دكان" البعثجية.
5ـ إنه ـ والله أعلم ـ يكتب تحت ضغط "مؤثر ما"، فقد يكون "مدفوعاً به أو له"، وربما يكون "طالب شهرة" فشل في تحقيقها وفق متطلباتها، ومن الجائز أيضاً أن تكون خبرته الشخصية مع المصريين سيئة، لأن المقادير ألقت في طريقه ببعض الأشرار.
6ـ وأخيراً فهو يكتب بسكين "الغلّ" وليس بروح الناقد الاجتماعي أو السياسي المتزن، ولا يحرص على الالتزام بأدنى حدود آداب وتقاليد الكتابة في الشأن العام، فهو يكتب كما لو كان "قبضايا" في "مشاجرة زعران" أو "خناقة صيع" على قارعة الطريق.
كانت هذه هي انطباعاتي الأولى التي كونتها في مخيلتي عن كتابات الطرابلسي، إذ كانت مقالته الأولى بالنسبة لي "صادمة"، لأنه حرص أن يضع الناس والمجتمع والتاريخ والجغرافيا والحكومات السابقة واللاحقة والقابعة في رحم الغيب أيضاً ويزج بالشوارع والحكايات والذكريات والنهر والحقول، وأمي وخالتي وابنتي وأصدقاء طفولتي، وكل شئ له صلة بمصر في حزمة واحدة، ثم يقف مزهواً بأنه يبصق عليها، شأن واحد من النماذج التي شهدتها طفولتي في قرية نائية بصعيد مصر، وهذه فرصة لأروي جانباً منها.
كانت هذه هي انطباعاتي الأولى التي كونتها في مخيلتي عن كتابات الطرابلسي، إذ كانت مقالته الأولى بالنسبة لي "صادمة"، لأنه حرص أن يضع الناس والمجتمع والتاريخ والجغرافيا والحكومات السابقة واللاحقة والقابعة في رحم الغيب أيضاً ويزج بالشوارع والحكايات والذكريات والنهر والحقول، وأمي وخالتي وابنتي وأصدقاء طفولتي، وكل شئ له صلة بمصر في حزمة واحدة، ثم يقف مزهواً بأنه يبصق عليها، شأن واحد من النماذج التي شهدتها طفولتي في قرية نائية بصعيد مصر، وهذه فرصة لأروي جانباً منها.
أبناء الحرام
كان اسمه "عاشور"
وتتفق القرية كلها على أن أباه كان موضع احترام الجميع، وأورثه خمسة فدادين، وهي بحسابات البسطاء ثروة عظيمة، وأن الرجل لم ينجب عاشور هذا إلا بعد أن تجاوز السبعين، فكانت فرحة نهاية العمر التي ترتب عليها تدليل عاشور إلى حد الأفساد.
مات الأب، وما أن دخل عاشور سن المراهقة حتى باع كل ما ورثه عن أبيه، وانقض على البيت فباعه، وماتت أمه كمداً، وترك الدراسة وصار يصادق أشرار القرية والقرى المجاورة أيضاً فتبرأ منه أهله، وصار منبوذاً لا يجد حتى ثمن الطعام.
لم يسكت عاشور، ولم يعد إلى صوابه، ولم يرحل من القرية كما يحدث في حالات "النبذ الاجتماعي" هذه عادة، بل اخترع اسلوباً شريراً لم تعهده قريتنا من قبل، والحق أنه خلق حالة من الارتباك بين هؤلاء البسطاء المسالمين، إذ لم يجدوا سبيلاً للتعاطي مع سلوك عاشور الذي ابتلت به المقادير السيئة قريتنا، ووصل بهم الأمر إلى الخضوع لابتزازه إيثاراً للسلامة.
كان عاشور يبدأ خطته بالتحرش برجل من علية القوم أو أحد أبنائه، فتنشب مشاجرة، يقوم على اثرها عاشور بإحداث إصابات متعمدة في جسده، ويمزق ملابسه، ويثير زوبعة لا توصف، وينتهي الأمر بتقديم بلاغ للشرطة، يتهم فيه عاشور هذا الرجل الوجيه بأنه اعتدى عليه بالضرب وأحدث به إصابات، وتؤيد تقارير الطبيب أقوال عاشور بأنه مصاب بالفعل، ويحضر "جوقة" من شهود الزور من أصدقائه الأشرار ليؤكدوا روايته، وهكذا يجد الرجل الطيب الذي اتهمه عاشور زوراً بالاعتداء عليه أمام خيارين لا ثالث لهما، فإما أن يواجه مصيره أمام المحاكم، وقد يصدر ضده حكم بالحبس، وهذا هو الأرجح، فالقضية مكتملة الأركان أمام القاضي.
أما الاحتمال الثاني فهو "ترضية عاشور" حتى يتنازل عن شكواه وقضيته، وهذا ما كان يحدث عملاً، وما كان يخطط له عاشور أيضاً، إذ يحدث بعد أن يقدم شكواه للشرطة أن ترسل "طلب استدعاء" للمشكو في حقه، وهو كما أسلفنا رجل محترم لم يقف يوماً متهماً أمام الشرطة أو المحكمة أو غيرها، ويسمع عما يجري في السجون فيردد بينه وبين نفسه ألا "يحكم عليه ربنا بهذا"، وأن يجعل موته قبل سجنه، فللفلاح المصري تراث عميق من المظالم مع الحكام والمستعمرين والغزاة.
يتدخل الوسطاء من "أبناء الحلال"، ولا مانع أيضاً من "أبناء الحرام"، وتبدأ المفاوضات بين شد وجذب حول المبلغ الذي ينبغي على الرجل دفع لعاشور ثمناً لترضيته، ويحدث أن يصلوا في النهاية إلى حل وسط، وينتهي الأمر ويتسلم عاشور المبلغ، ومعه عدة "جلاليب"، بدلاً من جلبابه الذي تمزق في الموقعة، ويتنازل أمام الشرطة، قائلاً إن الرجل قريبه وأن "المسامح كريم".
كان اسمه "عاشور"
وتتفق القرية كلها على أن أباه كان موضع احترام الجميع، وأورثه خمسة فدادين، وهي بحسابات البسطاء ثروة عظيمة، وأن الرجل لم ينجب عاشور هذا إلا بعد أن تجاوز السبعين، فكانت فرحة نهاية العمر التي ترتب عليها تدليل عاشور إلى حد الأفساد.
مات الأب، وما أن دخل عاشور سن المراهقة حتى باع كل ما ورثه عن أبيه، وانقض على البيت فباعه، وماتت أمه كمداً، وترك الدراسة وصار يصادق أشرار القرية والقرى المجاورة أيضاً فتبرأ منه أهله، وصار منبوذاً لا يجد حتى ثمن الطعام.
لم يسكت عاشور، ولم يعد إلى صوابه، ولم يرحل من القرية كما يحدث في حالات "النبذ الاجتماعي" هذه عادة، بل اخترع اسلوباً شريراً لم تعهده قريتنا من قبل، والحق أنه خلق حالة من الارتباك بين هؤلاء البسطاء المسالمين، إذ لم يجدوا سبيلاً للتعاطي مع سلوك عاشور الذي ابتلت به المقادير السيئة قريتنا، ووصل بهم الأمر إلى الخضوع لابتزازه إيثاراً للسلامة.
كان عاشور يبدأ خطته بالتحرش برجل من علية القوم أو أحد أبنائه، فتنشب مشاجرة، يقوم على اثرها عاشور بإحداث إصابات متعمدة في جسده، ويمزق ملابسه، ويثير زوبعة لا توصف، وينتهي الأمر بتقديم بلاغ للشرطة، يتهم فيه عاشور هذا الرجل الوجيه بأنه اعتدى عليه بالضرب وأحدث به إصابات، وتؤيد تقارير الطبيب أقوال عاشور بأنه مصاب بالفعل، ويحضر "جوقة" من شهود الزور من أصدقائه الأشرار ليؤكدوا روايته، وهكذا يجد الرجل الطيب الذي اتهمه عاشور زوراً بالاعتداء عليه أمام خيارين لا ثالث لهما، فإما أن يواجه مصيره أمام المحاكم، وقد يصدر ضده حكم بالحبس، وهذا هو الأرجح، فالقضية مكتملة الأركان أمام القاضي.
أما الاحتمال الثاني فهو "ترضية عاشور" حتى يتنازل عن شكواه وقضيته، وهذا ما كان يحدث عملاً، وما كان يخطط له عاشور أيضاً، إذ يحدث بعد أن يقدم شكواه للشرطة أن ترسل "طلب استدعاء" للمشكو في حقه، وهو كما أسلفنا رجل محترم لم يقف يوماً متهماً أمام الشرطة أو المحكمة أو غيرها، ويسمع عما يجري في السجون فيردد بينه وبين نفسه ألا "يحكم عليه ربنا بهذا"، وأن يجعل موته قبل سجنه، فللفلاح المصري تراث عميق من المظالم مع الحكام والمستعمرين والغزاة.
يتدخل الوسطاء من "أبناء الحلال"، ولا مانع أيضاً من "أبناء الحرام"، وتبدأ المفاوضات بين شد وجذب حول المبلغ الذي ينبغي على الرجل دفع لعاشور ثمناً لترضيته، ويحدث أن يصلوا في النهاية إلى حل وسط، وينتهي الأمر ويتسلم عاشور المبلغ، ومعه عدة "جلاليب"، بدلاً من جلبابه الذي تمزق في الموقعة، ويتنازل أمام الشرطة، قائلاً إن الرجل قريبه وأن "المسامح كريم".
شتام "دليفري"
عرفت أوساط الصحافة التابعة للأنظمة العربية، أو المهاجرة إلى أوروبا خلال عقدي السبعينات والثمانينات لعبة (إعلامية ـ دبلوماسية ـ استخبارية) مازالت بقاياها تمارس حتى اليوم، وهي أن يبدأ أحد الكتاب في التحرش بدولة أو نظام حكم، ومن ثم يرفع عيار الهجوم ليصل إلى حكايات غرف النوم، وقصص الفنادق والملاهي الليلية في أوروبا وأميركا، والجارسونيرات في الداخل والخارج، ومن ثم يبدأ النظام المتوجس عادة من أي انتقاد في جمع المعلومات عن هذا "الشتام"، وعادة ما كان يشير "أولاد الحلال"، وأحياناً "أولاد الحرام" أيضاً بأن يحاولوا التفاهم مع هذا الرجل، لأنه في نهاية المطاف "رجل طيب، وظروفه سيئة"، وربما يفعل هذا تحت وطأة الحاجة إلى رفع التوزيع، وهو ما يمكن تعويضه بمنحة، أو شراء كميات كبيرة من نسخ الصحيفة يومياً، وبهذا نكون قد وصلنا إلى صيغة تفاهم لن تكلف الكثير، وبهذه الطريقة تم تجنيد ـ أو على الأقل تحييد ـ عشرات الأقلام والذمم، ويمكن حتى للقارئ العادي أن يتعرف عليها لو دقق قليلاً في صفحات الرأي بالصحف العربية، بلا استثناء تقريباً.
واحترف هذه اللعبة في البداية صحافيون مشهورون ولهم باع في المهنة وفنونها، كان كثير منهم من زملائنا اللبنانيين بالمناسبة، وهناك عشرات القصص الموثقة في هذا السياق، غير أن هذه اللعبة، شأن غيرها من الألعاب المثيرة تأتي أحياناً بلاعبين دون المستوى، فيتحولون إلى مجرد مهرجين في الملاعب، يمارسون ما يمكن وصفه بالسفه الصحافي أو الإعلامي، وفي هذه الحالة يصبح "السفيه الإعلامي" مجرد "شتام للإيجار"، أو "شتام دليفري" تكون مهمته توصيل الشتائم للمنازل، حيث يجري استخدامه في مهام صغيرة وأحياناً بالقطعة، فبدلاً من شراء صمته، يتحول الأمر ـ مع زيادة المعروض من الشتامين المحترفين ـ إلى دفعه لشتم هذا وذاك، والتحرش بالأهداف الصغيرة حيناً، والكبيرة أحياناً، وهو ما يدفعنا إلى التساؤل عما إذا كان الطرابلسي يسعى إلى إحياء "سنة لندن"، كما كان يطلق عليها، وإن صدق حدسي، فإنني أنصحه بعدم هدر وقته، لأن الظروف تغيرت، وقواعد اللعبة تبدلت، ولم تعد هناك الآن حاجة للأنظمة في الاستعانة بالخبرات المحلية، بل بخبرات أميركية وأوروبية، تنشر مقالاتها في صحف مثل "واشنطن بوست" أو "نيويورك تايمز" أو "وول ستريت جورنال"، فضلاً عن انه اختار النظام الخطأ، وهو المصري الذي لا يدفع لأحد، بل يفضل إعمال نظرية "مقالة تفوت ولا حد يموت"، وحتى أنظمة الكاز تعلمت أصول اللعبة، ولم تعد تتعاطى مع الهواة
عرفت أوساط الصحافة التابعة للأنظمة العربية، أو المهاجرة إلى أوروبا خلال عقدي السبعينات والثمانينات لعبة (إعلامية ـ دبلوماسية ـ استخبارية) مازالت بقاياها تمارس حتى اليوم، وهي أن يبدأ أحد الكتاب في التحرش بدولة أو نظام حكم، ومن ثم يرفع عيار الهجوم ليصل إلى حكايات غرف النوم، وقصص الفنادق والملاهي الليلية في أوروبا وأميركا، والجارسونيرات في الداخل والخارج، ومن ثم يبدأ النظام المتوجس عادة من أي انتقاد في جمع المعلومات عن هذا "الشتام"، وعادة ما كان يشير "أولاد الحلال"، وأحياناً "أولاد الحرام" أيضاً بأن يحاولوا التفاهم مع هذا الرجل، لأنه في نهاية المطاف "رجل طيب، وظروفه سيئة"، وربما يفعل هذا تحت وطأة الحاجة إلى رفع التوزيع، وهو ما يمكن تعويضه بمنحة، أو شراء كميات كبيرة من نسخ الصحيفة يومياً، وبهذا نكون قد وصلنا إلى صيغة تفاهم لن تكلف الكثير، وبهذه الطريقة تم تجنيد ـ أو على الأقل تحييد ـ عشرات الأقلام والذمم، ويمكن حتى للقارئ العادي أن يتعرف عليها لو دقق قليلاً في صفحات الرأي بالصحف العربية، بلا استثناء تقريباً.
واحترف هذه اللعبة في البداية صحافيون مشهورون ولهم باع في المهنة وفنونها، كان كثير منهم من زملائنا اللبنانيين بالمناسبة، وهناك عشرات القصص الموثقة في هذا السياق، غير أن هذه اللعبة، شأن غيرها من الألعاب المثيرة تأتي أحياناً بلاعبين دون المستوى، فيتحولون إلى مجرد مهرجين في الملاعب، يمارسون ما يمكن وصفه بالسفه الصحافي أو الإعلامي، وفي هذه الحالة يصبح "السفيه الإعلامي" مجرد "شتام للإيجار"، أو "شتام دليفري" تكون مهمته توصيل الشتائم للمنازل، حيث يجري استخدامه في مهام صغيرة وأحياناً بالقطعة، فبدلاً من شراء صمته، يتحول الأمر ـ مع زيادة المعروض من الشتامين المحترفين ـ إلى دفعه لشتم هذا وذاك، والتحرش بالأهداف الصغيرة حيناً، والكبيرة أحياناً، وهو ما يدفعنا إلى التساؤل عما إذا كان الطرابلسي يسعى إلى إحياء "سنة لندن"، كما كان يطلق عليها، وإن صدق حدسي، فإنني أنصحه بعدم هدر وقته، لأن الظروف تغيرت، وقواعد اللعبة تبدلت، ولم تعد هناك الآن حاجة للأنظمة في الاستعانة بالخبرات المحلية، بل بخبرات أميركية وأوروبية، تنشر مقالاتها في صحف مثل "واشنطن بوست" أو "نيويورك تايمز" أو "وول ستريت جورنال"، فضلاً عن انه اختار النظام الخطأ، وهو المصري الذي لا يدفع لأحد، بل يفضل إعمال نظرية "مقالة تفوت ولا حد يموت"، وحتى أنظمة الكاز تعلمت أصول اللعبة، ولم تعد تتعاطى مع الهواة
ذهنية الهجاء
كان بوسع إحسان الطرابلسي ـ مثلاً ـ أن يقصر شتائمه وسخائمه على "الأنظمة الحاكمة"، ولحظتها لم يكن بوسع كاتب يحترم نفسه وقلمه أن يتصدى للدفاع عن أنظمة شائخة فاسدة مترهلة ومستبدة، لكن الطرابلسي أصر على ممارسة السفه، فراح يسب الشعوب والناس والحضارات والأمم، وهذا سلوك لا يمارسه عادة سوى شلل المأزومين والمراهقين واشباه المتعلمين، حين يجتمعون على السخرية من "الهنود" مثلاً، أو التندر على "السودانيين"، وهذا عين حديث السفه، لأن إطلاق الشتائم على الشعوب جريمة حضارية لا ينبغي التسامح معها، وأي ليبرالي حقيقي لا يمكن أن يسمح لنفسه بتعيير شعب بالفقر مثلاً كما كتب أو بالأحرى تجشأ الطرابلسي في وجوه سبعين مليون مصري، الذين وصفهم بأبشع الصفات والنعوت، وكاد يطالب بإلقائهم في البحر.
وبالطبع نحن هنا في غني عن تلقي أو إلقاء دروس من نوع التمييز بين الحكومات والشعوب، بين الأنظمة وبسطاء الناس، فهذا من بديهيات التعاطي الموضوعي مع أي قضية عامة، خاصة في شرقنا التعس الذي تتسع فيه الفجوة بين المجتمعات وحكامها، كما أن الطرابلسي بدا وكأنه حسم خياراته، فلم يعد يكترث أن تصيب هذه الرصاصة مواطناً لا صلة له بالموقف الرسمي من مجلس الحكم الانتقالي العراقي، أو حتى تصيب تياراً متنامياً من الليبراليين الذين ربما يتفقون في الرأي مع الطرابلسي، في شأن مسألة الاعتراف هذه وغيرها، ومع هذا راح الكاتب يصب جام سفاهاته على الحابل والنابل، بينما بدا أيضاً حرصه واضحاً ألا تخرج طروحاته السفيهة عن مصر، وكأن أنظمة مثل السعودية وسوريا وليبيا والسودان وحتى اليمن لا تتبنى الموقف نفسه الذي تعلنه القاهرة!، لكن يبدو أن الحديث عن هذه الأنظمة يفسد المهمة التي واكبت ظهور الطرابلسي المفاجئ على مسرح الكتابة.
ما علينا !
كان هذا هو نفسه ما حدث مع آلاف المصريين حين قرر الرئيس الراحل أنور السادات عقد اتفاقية السلام مع إسرائيل، إذ أشهر صدام حسين مسدسه في وجوه القادة العرب، وهدد بقتل من سيقول بعودة مصر إلى الجامعة العربية، وهو ما رواه لنا المصريون المغتربون في دول الخليج والسعودية من حكايات حول اتهام مصر والمصريين بالخيانة، وصار مدرس اللغة العربية القادم لتعليم العرب لغتهم متهماً بالخيانة، لأن رئيس بلاده اتخذ قراراً سياسياً سيادياً، بالصلح مع إسرائيل، وتدور الأيام لتجد الأعراب والعربان أنفسهم، يتسولون أقل من ربع ما كان يعرض عليهم من مكاسب تفاوضية محسومة مقدماً قبل ربع قرن، وماء وجوههم محفوظ.
كان بوسع الطرابلسي أن يكون أكثر موضوعية ونزاهة لو أمعن النظر حوله في لبنان مثلاً، ليرصد لنا عشرات من وقائع الفساد في دوائر الرؤساء الثلاثة، أو حتى تكفينا قصص "الرئيس السمسار" أو "الرئيس الواجهة"، وكان حرياً به أن يتساءل هل العماد الجالس في "بعبدا" جنرال أم أنه من نشطاء مؤسسات المجتمع المدني؟، وهل تأسست شرعيته على "فعل ديموقراطي" أو أنها نتاج "حسابات طائفية"، لعب فيها الجيران والفئران أدواراً أكبر من تلك التي لعبها الشعب اللبناني، وكان يجدر به أن يتأمل الشرعيات العربية المتناثرة على الخارطة، ليكتشف أن القاهرة لم تخترع الشرعية المغتصبة، ولم تنفرد بها دون غيرها، فهذه "حالة عروبية" مزمنة، وكما اختتمت رداً سابقاً على الجنرال الطرابلسي قائلاً: "لا تعايرني ولا اعايرك فالهم طايلني وطايلك".
ورغم كل هذه الأمثلة وغيرها، غلبت الطرابلسي "ذهنية الهجاء" التي وقفت وراء "البصاق والبلغم" الذي سال من خياشيم الطرابلسي على صفحات "إيلاف" في صورة هجائيات تذكر بصنف من الشعر انفرد به الأعراب على غيرهم من الأمم اسمه "الهجاء"، له فرسان من "الشتامين التاريخيين"، الذين وصلت السفاهة بأحدهم مبلغها إلى حد وصف عشيرة خصمه بأنهم:
قوم إذا استنبح الأضياف كلبهمو .... قالوا لأمهم "بولي على النار"، وهو أقبح معنى تضمنه نص شعري على الإطلاق.
كان بوسع إحسان الطرابلسي ـ مثلاً ـ أن يقصر شتائمه وسخائمه على "الأنظمة الحاكمة"، ولحظتها لم يكن بوسع كاتب يحترم نفسه وقلمه أن يتصدى للدفاع عن أنظمة شائخة فاسدة مترهلة ومستبدة، لكن الطرابلسي أصر على ممارسة السفه، فراح يسب الشعوب والناس والحضارات والأمم، وهذا سلوك لا يمارسه عادة سوى شلل المأزومين والمراهقين واشباه المتعلمين، حين يجتمعون على السخرية من "الهنود" مثلاً، أو التندر على "السودانيين"، وهذا عين حديث السفه، لأن إطلاق الشتائم على الشعوب جريمة حضارية لا ينبغي التسامح معها، وأي ليبرالي حقيقي لا يمكن أن يسمح لنفسه بتعيير شعب بالفقر مثلاً كما كتب أو بالأحرى تجشأ الطرابلسي في وجوه سبعين مليون مصري، الذين وصفهم بأبشع الصفات والنعوت، وكاد يطالب بإلقائهم في البحر.
وبالطبع نحن هنا في غني عن تلقي أو إلقاء دروس من نوع التمييز بين الحكومات والشعوب، بين الأنظمة وبسطاء الناس، فهذا من بديهيات التعاطي الموضوعي مع أي قضية عامة، خاصة في شرقنا التعس الذي تتسع فيه الفجوة بين المجتمعات وحكامها، كما أن الطرابلسي بدا وكأنه حسم خياراته، فلم يعد يكترث أن تصيب هذه الرصاصة مواطناً لا صلة له بالموقف الرسمي من مجلس الحكم الانتقالي العراقي، أو حتى تصيب تياراً متنامياً من الليبراليين الذين ربما يتفقون في الرأي مع الطرابلسي، في شأن مسألة الاعتراف هذه وغيرها، ومع هذا راح الكاتب يصب جام سفاهاته على الحابل والنابل، بينما بدا أيضاً حرصه واضحاً ألا تخرج طروحاته السفيهة عن مصر، وكأن أنظمة مثل السعودية وسوريا وليبيا والسودان وحتى اليمن لا تتبنى الموقف نفسه الذي تعلنه القاهرة!، لكن يبدو أن الحديث عن هذه الأنظمة يفسد المهمة التي واكبت ظهور الطرابلسي المفاجئ على مسرح الكتابة.
ما علينا !
كان هذا هو نفسه ما حدث مع آلاف المصريين حين قرر الرئيس الراحل أنور السادات عقد اتفاقية السلام مع إسرائيل، إذ أشهر صدام حسين مسدسه في وجوه القادة العرب، وهدد بقتل من سيقول بعودة مصر إلى الجامعة العربية، وهو ما رواه لنا المصريون المغتربون في دول الخليج والسعودية من حكايات حول اتهام مصر والمصريين بالخيانة، وصار مدرس اللغة العربية القادم لتعليم العرب لغتهم متهماً بالخيانة، لأن رئيس بلاده اتخذ قراراً سياسياً سيادياً، بالصلح مع إسرائيل، وتدور الأيام لتجد الأعراب والعربان أنفسهم، يتسولون أقل من ربع ما كان يعرض عليهم من مكاسب تفاوضية محسومة مقدماً قبل ربع قرن، وماء وجوههم محفوظ.
كان بوسع الطرابلسي أن يكون أكثر موضوعية ونزاهة لو أمعن النظر حوله في لبنان مثلاً، ليرصد لنا عشرات من وقائع الفساد في دوائر الرؤساء الثلاثة، أو حتى تكفينا قصص "الرئيس السمسار" أو "الرئيس الواجهة"، وكان حرياً به أن يتساءل هل العماد الجالس في "بعبدا" جنرال أم أنه من نشطاء مؤسسات المجتمع المدني؟، وهل تأسست شرعيته على "فعل ديموقراطي" أو أنها نتاج "حسابات طائفية"، لعب فيها الجيران والفئران أدواراً أكبر من تلك التي لعبها الشعب اللبناني، وكان يجدر به أن يتأمل الشرعيات العربية المتناثرة على الخارطة، ليكتشف أن القاهرة لم تخترع الشرعية المغتصبة، ولم تنفرد بها دون غيرها، فهذه "حالة عروبية" مزمنة، وكما اختتمت رداً سابقاً على الجنرال الطرابلسي قائلاً: "لا تعايرني ولا اعايرك فالهم طايلني وطايلك".
ورغم كل هذه الأمثلة وغيرها، غلبت الطرابلسي "ذهنية الهجاء" التي وقفت وراء "البصاق والبلغم" الذي سال من خياشيم الطرابلسي على صفحات "إيلاف" في صورة هجائيات تذكر بصنف من الشعر انفرد به الأعراب على غيرهم من الأمم اسمه "الهجاء"، له فرسان من "الشتامين التاريخيين"، الذين وصلت السفاهة بأحدهم مبلغها إلى حد وصف عشيرة خصمه بأنهم:
قوم إذا استنبح الأضياف كلبهمو .... قالوا لأمهم "بولي على النار"، وهو أقبح معنى تضمنه نص شعري على الإطلاق.
حال السفهاء
ورغم إصرار الطرابلسي على كتابة اسمه مسبوقاً بدرجة الدكتوراه، وهذه واحدة من السلوكيات التي يمارسها أنصاف المثقفين في شرقنا من باب الوجاهة حيناً، أوليدخل في خلد المتلقي أنه "العالم الضليع" أحيانأً، في ما رأينا الكبار الحقيقيين بدءا من طه حسين ولويس عوض والسنهوري، وحتى أركون ومنيف ومندور وغيرهم يصرون على عدم استخدام "الدال غير الدالة"، وهذا يقودنا للسؤال عما إذا كان من الممكن أن يكون "حامل الدال" سفيها شأن غيره من الغوغاء والدهماء والجواب ببساطة "نعم"، فهناك حتى رؤساء دول سفهاء بكل معاني الكلمة، بل ذهب السفه بأحد رؤساء الجماهيريات مذاهب بلغت حد الكوميديا السوداء.
وهناك عشرات، ما لم يكن مئات من الصحافيين والكتاب والإعلاميين، يمارسون السفه العلني يومياً، وهم المفترض بهم أنهم قادة الرأي والفكر في مجتمعاتهم، وهناك أمراء ووزراء وأساتذة جامعات سفهاء بامتياز، فالسفه كما أسلفنا صفة لسلوك يحكم هذا المرء أو غيره، لاعتبارا عدة، منها التكوين الشخصي والثقافة التي تلقاها، والقناعات التي توصل إليها، أو هي طبع أصيل لديهم.
والسفيه عادة شخص جذاب الحديث، حلو المعشر، لا تخلو جلساته وأحاديثه من الفكاهة والطرائف والنوادر، وهناك في حياتنا سفها نتقبل منهم ـ دون غيرهم ـ أن يتطاولوا علينا، باعتبار أنهم يتمتعون بخفة الدم، وحضور البديهة، والذائقة الكوميدية، غير أن الطرابلسي وبكل أمانة لا يتمتع بأي من هذه الصفات، لأنه لا يمارس السفاهة انطلاقاً من تكوين إنساني لعبت ظروف خارجة عن إرادته دوراً في صناعته، بل يفعل ذلك عن وعي وإدراك لقواعد اللعبة، ويمارس بذاءاته وعينه على ثمنها أو مردودها أياً كان.
ومن سمات السفهاء أيضاً أنهم لا يرون أبعد من موطئ أقدامهم، ويعانون من قصر نظر مزمن في حكمهم على البشر والأشياء والمواقف، فلا يدققون ولا يكترثون بأثر أفعالهم أو كلماتهم على الناس، ولا يقيمون وزناً لمشاعر أحد، بل غاية ما يرمون إليه هو التخلص من "حالة الانتفاخ" التي تصيبهم كثيراً، فيطلقون "ريحهم" في وجوه المارة والقاعدين والقادمين، وهم أيضاً مصابون بما يمكن وصفه بـ "تورم الذات"، فلا يرون في الكون غيرهم، ولا يراجعون أنفسهم أبداً، ولا يتعلمون، وهذه الصفة تحديداً يشترك فيها الطغاة مع السفهاء، فكلاهما مغرم بذاته المتضخمة، متيمُ بهوسه المتنطع، معجب بحماقاته وسخافاته، واثق من جهله العصامي "المتعوب عليه"، بل ويسعى لفرض كل هذه العاهات النفسية على الآخرين إن إرهاباً وقمعاً، أو تدليساً وتنطعاً.
ورغم إصرار الطرابلسي على كتابة اسمه مسبوقاً بدرجة الدكتوراه، وهذه واحدة من السلوكيات التي يمارسها أنصاف المثقفين في شرقنا من باب الوجاهة حيناً، أوليدخل في خلد المتلقي أنه "العالم الضليع" أحيانأً، في ما رأينا الكبار الحقيقيين بدءا من طه حسين ولويس عوض والسنهوري، وحتى أركون ومنيف ومندور وغيرهم يصرون على عدم استخدام "الدال غير الدالة"، وهذا يقودنا للسؤال عما إذا كان من الممكن أن يكون "حامل الدال" سفيها شأن غيره من الغوغاء والدهماء والجواب ببساطة "نعم"، فهناك حتى رؤساء دول سفهاء بكل معاني الكلمة، بل ذهب السفه بأحد رؤساء الجماهيريات مذاهب بلغت حد الكوميديا السوداء.
وهناك عشرات، ما لم يكن مئات من الصحافيين والكتاب والإعلاميين، يمارسون السفه العلني يومياً، وهم المفترض بهم أنهم قادة الرأي والفكر في مجتمعاتهم، وهناك أمراء ووزراء وأساتذة جامعات سفهاء بامتياز، فالسفه كما أسلفنا صفة لسلوك يحكم هذا المرء أو غيره، لاعتبارا عدة، منها التكوين الشخصي والثقافة التي تلقاها، والقناعات التي توصل إليها، أو هي طبع أصيل لديهم.
والسفيه عادة شخص جذاب الحديث، حلو المعشر، لا تخلو جلساته وأحاديثه من الفكاهة والطرائف والنوادر، وهناك في حياتنا سفها نتقبل منهم ـ دون غيرهم ـ أن يتطاولوا علينا، باعتبار أنهم يتمتعون بخفة الدم، وحضور البديهة، والذائقة الكوميدية، غير أن الطرابلسي وبكل أمانة لا يتمتع بأي من هذه الصفات، لأنه لا يمارس السفاهة انطلاقاً من تكوين إنساني لعبت ظروف خارجة عن إرادته دوراً في صناعته، بل يفعل ذلك عن وعي وإدراك لقواعد اللعبة، ويمارس بذاءاته وعينه على ثمنها أو مردودها أياً كان.
ومن سمات السفهاء أيضاً أنهم لا يرون أبعد من موطئ أقدامهم، ويعانون من قصر نظر مزمن في حكمهم على البشر والأشياء والمواقف، فلا يدققون ولا يكترثون بأثر أفعالهم أو كلماتهم على الناس، ولا يقيمون وزناً لمشاعر أحد، بل غاية ما يرمون إليه هو التخلص من "حالة الانتفاخ" التي تصيبهم كثيراً، فيطلقون "ريحهم" في وجوه المارة والقاعدين والقادمين، وهم أيضاً مصابون بما يمكن وصفه بـ "تورم الذات"، فلا يرون في الكون غيرهم، ولا يراجعون أنفسهم أبداً، ولا يتعلمون، وهذه الصفة تحديداً يشترك فيها الطغاة مع السفهاء، فكلاهما مغرم بذاته المتضخمة، متيمُ بهوسه المتنطع، معجب بحماقاته وسخافاته، واثق من جهله العصامي "المتعوب عليه"، بل ويسعى لفرض كل هذه العاهات النفسية على الآخرين إن إرهاباً وقمعاً، أو تدليساً وتنطعاً.
الطرابلسي وابن لادن
أعترف أنني حين قررت الرد على حفلات الزار والهلوسة التي نصبها الطرابلسي لمصر والمصريين، كدت أن أنزلق في لحظة غضب إنساني بأن يتمحور ردي عليه بالحديث عن اللبنانيين، كما يكتب عن المصريين، لكن منعتني من ذلك ثلاثة اعتبارات:
الاعتبار الأول، هو أنني شخصياً أحب اللبنانيين، وأثمن مواهبهم المتعددة في أكثر من مجال، وأرى أنهم كانوا دائماً يشكلون جزءاً مهماً لاستكمال ملامح الصورة الحضارية سواء في الفنون والآداب والصحافة وغيرها التي ازدهرت في مصر خلال سنوات خلت.
والاعتبار الثاني، أن فتح باب الملاسنات والسجالات الإقليمية، من شأنه أن يشعل حرب "داحس والغبراء"، في وقت نعاني فيه جميعاً أوجاعاً وهموماً مشتركة، ونواجه تحديات متقاربة في النوع والكم، وقد نتفق أو نختلف حول وسائل التعامل معها، لكن لا شك أننا نتفق على كونها تطالنا جميعاً دون تمييز، وبالمناسبة ليس لهذا الأمر أدنى صلة بمصطلحات القوميين العرب الشائعة إلى حد الابتذال، مثل الحس القومي والثوابت الوطنية وغيرها، بل هي مجرد همّ إنساني مشترك لقوم أو أقوام تربطهم صلة الإنسانية.
أما الاعتبار الثالث فهو أنني رغم كل شئ أتفق مع الطرابلسي في كثير من آرائه، لكن الفرق بيننا أنه يصر على عرض هذه الآراء وفق معايير "الماركتنغ"مستخدماً حيل الشطار والعيارين، بينما أكتبها أنا وأمضي، وهو أيضاً يكره الناس، وأنا أحبهم وأنحاز إليهم دائماً، كما أنه وضع نفسه في خندق أعداء "المصريين البسطاء"، وأنا معجون بماء مصر وطينها، ومتيم بكل ما في هؤلاء المصريين من نقائص ومآخذ قبل المزايا، فضلاً عن أنه لم يميز بين "النظام" و"الشارع"، بين "الحكام" و"المحكومين"، في ما أرى أنا الفرق جيداً، إضافة إلى أن شتائم وسخائم الطرابلسي تمنح زخماً، وتوفر مبررات استمرار وزارات الإعلام التي لم يعد لها وجود سوى في شرقنا المنكوب، وتسوغ بقاء منظومات الإعلام الحكومي، وبهذا تتماهى وتتماثل إلى حد التطابق، سفاهات الطرابلسي "الإيلافية"، مع سفاهات أسامة بن لادن "الجزيرية"، فكلاهما يسوغ للاستبداد الوطني أو القمع المعولم، وكلاهما يمهد الطرقات للطغاة المحليين والكونيين، وكلاهما ربما ينطق حقاً في ظاهر الحال، لكنه بلا أدنى شك من نوع الحق "الذي يراد به باطل"، كما قالها الإمام الشهيد أبو الشهداء علي بن أبي طالب في وجوه الخوارج ذات يوم كئيب كأيامنا الحالكة.
ولا نامت أعين السفهاء
أعترف أنني حين قررت الرد على حفلات الزار والهلوسة التي نصبها الطرابلسي لمصر والمصريين، كدت أن أنزلق في لحظة غضب إنساني بأن يتمحور ردي عليه بالحديث عن اللبنانيين، كما يكتب عن المصريين، لكن منعتني من ذلك ثلاثة اعتبارات:
الاعتبار الأول، هو أنني شخصياً أحب اللبنانيين، وأثمن مواهبهم المتعددة في أكثر من مجال، وأرى أنهم كانوا دائماً يشكلون جزءاً مهماً لاستكمال ملامح الصورة الحضارية سواء في الفنون والآداب والصحافة وغيرها التي ازدهرت في مصر خلال سنوات خلت.
والاعتبار الثاني، أن فتح باب الملاسنات والسجالات الإقليمية، من شأنه أن يشعل حرب "داحس والغبراء"، في وقت نعاني فيه جميعاً أوجاعاً وهموماً مشتركة، ونواجه تحديات متقاربة في النوع والكم، وقد نتفق أو نختلف حول وسائل التعامل معها، لكن لا شك أننا نتفق على كونها تطالنا جميعاً دون تمييز، وبالمناسبة ليس لهذا الأمر أدنى صلة بمصطلحات القوميين العرب الشائعة إلى حد الابتذال، مثل الحس القومي والثوابت الوطنية وغيرها، بل هي مجرد همّ إنساني مشترك لقوم أو أقوام تربطهم صلة الإنسانية.
أما الاعتبار الثالث فهو أنني رغم كل شئ أتفق مع الطرابلسي في كثير من آرائه، لكن الفرق بيننا أنه يصر على عرض هذه الآراء وفق معايير "الماركتنغ"مستخدماً حيل الشطار والعيارين، بينما أكتبها أنا وأمضي، وهو أيضاً يكره الناس، وأنا أحبهم وأنحاز إليهم دائماً، كما أنه وضع نفسه في خندق أعداء "المصريين البسطاء"، وأنا معجون بماء مصر وطينها، ومتيم بكل ما في هؤلاء المصريين من نقائص ومآخذ قبل المزايا، فضلاً عن أنه لم يميز بين "النظام" و"الشارع"، بين "الحكام" و"المحكومين"، في ما أرى أنا الفرق جيداً، إضافة إلى أن شتائم وسخائم الطرابلسي تمنح زخماً، وتوفر مبررات استمرار وزارات الإعلام التي لم يعد لها وجود سوى في شرقنا المنكوب، وتسوغ بقاء منظومات الإعلام الحكومي، وبهذا تتماهى وتتماثل إلى حد التطابق، سفاهات الطرابلسي "الإيلافية"، مع سفاهات أسامة بن لادن "الجزيرية"، فكلاهما يسوغ للاستبداد الوطني أو القمع المعولم، وكلاهما يمهد الطرقات للطغاة المحليين والكونيين، وكلاهما ربما ينطق حقاً في ظاهر الحال، لكنه بلا أدنى شك من نوع الحق "الذي يراد به باطل"، كما قالها الإمام الشهيد أبو الشهداء علي بن أبي طالب في وجوه الخوارج ذات يوم كئيب كأيامنا الحالكة.
ولا نامت أعين السفهاء














التعليقات