د. حامد العطية&
&
&
كلنا سمعنا بعقدة الخواجة، وكم منا ردد وبمرارة الملدوغ من هذه العقدة بأن مغني الحي لايطرب، وبأن العدسات الزرق أغوت كثيراً من الناس، على الرغم من تحذيرات الأغنية العراقية بأنها " ما بيها كل معنى و حسن من غير كحلة"، وحتى نعرف من كحل العيون الزرق في بغداد لا بد من حل العقد. ولانحتاج إلى الخواجة نيوتن لنثبت بأن من الضروري أن تكون لكل عقدة رد فعل مضاد يساويها في القوة ويعاكسها في الإتجاه، ليس لأننا "نتلقفها وهي طائرة" كما يقول المثل العراقي، ولكن زرقاء اليمامة حذرتنا مرة بعد أخرى وآن الأوان لأن نسمع وننتعلم، ولكن قبل البحث عن رد الفعل المناسب ينبغي أن ندرس الفعل ونفهم دوافعه.
يقول الأمريكيون بأنهم أتوا للعراق لإنقاذه من دكتاتورية غاشمة تتهدد جيرانه والعالم بأسلحة الدمار الشامل، ولإعادة بناءه وتعميره بعد دمار وويلات ثلاث حروب وحصار، وكذلك ارساء نظام ديمقراطي مستقل، وبالفعل فقد أقصوا النظام البعثي عن السلطة الا إنهم لم يقضوا عليه تماماً، وسواء وجدوا أسلحة الدمار الشامل أم كان الأمر برمته إحبولة سياسية سيان لدى معظم العراقيين الذين تنفسوا الصعداء بعد كبت طويل، ولكن حذار فالأنفاس العميقة التي تملأ صدور العراقيين هذه الأيام فاتحة الشهية، ولكم أن تتصوروا مدى انفتاح هذه الشهية على كل شيء حرمه النظام المتواري بدءً بالأخبار الطازجة والتظاهر السلمي دون قمع حتى التنعم بخيرات البلاد ومعطيات التقدم، وقد سبق لهم أن اسقطوا نظاماً ملكياً لأنه تلكأ في الخمسينات في اشراكهم في منافع التنمية الممولة بعوائد النفط المتصاعدة آنذاك.
والحديث عن الإعمار والتنمية يقود الى فحص صدق النوايا الأمريكية، ومعظم الأموال المخصصة لذلك هي أما أموال عراقية مجمدة أو قروض، فبأي سلطة يقرر الأمريكيون صرفها سوى سلطة المحتل القوي؟ واذا كان هدفهم التنمية الخالصة من أي مطمع فلماذا يرفضون اشراك أطراف دولية في ادارة اعادة الإعمار أو على الأقل الرقابة على الصرف، ولماذا يشكك الأستعماريون القدامى أمثال فرنسا وروسيا بالنوايا الأمريكية،أو ليس شبيه الشيء بالشيء أعرف. ولنسأل مفترضي حسن النوايا الأمريكية أي نظام اقتصادي يريد الأمريكيون بناءه في العراق وهل سينجحون؟ حتى المدافعون عن حسن النوايا الأمريكية لابد أن يقروا بأن النماذج وأساليب العمل الناجحة في أمريكا ودول غربية أخرى قد تكون غير متوافقة مع النظام القيمي للعراقيين، وبالتالي غير صالحة للزرع في بيئة الرافدين.
وهذا يعيدنا إلى التساؤل حول الجدارة الإدارية والإقتصادية للخواجات أصحاب العيون الزرق، هنالك من يؤيد بحماسة التفويض المطلق للأمريكين، كما عبر عنه وكيل وزارة في دولة عربية مجاورة حينما قال لي: الأفضل أن تدعوهم يصلحون البلد لسنتين أو أكثر ثم يعيدونه لكم، وهذا الفكر يعبر عن عقدة الخواجة بأقبح صورها، و يكشف عن حقيقة كونها عقدة دونية، إذ يفترض العجز التام للعراقيين، وبأنهم غير قادرين على اتخاذ قرارات إستراتيجية وإدارية صائبة، وبأن الخواجات وحدهم سينجحون في هذه المهمة، وهذا المسؤول العربي ومئات مثله لديهم الكثير من القصص الدالة على رداءة أو عدم صلاحية الأستشارات باهضة الثمن التي حصلوا عليها من خبراء غربيين، والأمريكيون أنفسهم يعترفون بأن مخطاطاتهم لأدارة الوضع في العراق بعد انتهاء العمليات العسكرية كانت غير فعالة أو ناقصة، وبأنهم أساؤا التقدير في أمور عديدة، ناهيك عن الإتهامات التي يوجهها خصومهم الديمقراطيون بإساءة استعمال الأموال والمحاباة في توزيع العقود.
وتتقاطع عقدة الخواجة أو الشعور بالدونية أمام الغرب مع عقدة الإستهانة بالريفي-العربي والكردي- التي يعاني منها الكثير من عرب الحضر العراقيين، والذين يرددون مع أجدادهم" تسمع بالمعيدي خير من أن تراه"، وتطلق تسمية المعيدي استعلاءاً وتحقيراً على سكان الأهوار خاصة والجنوبيين عموماً، مثل تسمية الشرقاوي في الجزيرة العربية والصعيدي في مصر، ويبدوا أن قلة من هؤلاء الحضرالمتحمسين للنموذج الغربي أقنعوا الأمريكيين بأن المستطيل المعيدي لايشبه المثلث، وأن المعيدي سيرضى من غنائم مابعد صدام باليسير من الحرية في ممارسة شعائره المذهبية وحفنة من الدولارات،أما رأي المعيدي الحكيم بهم فنجده في جوابه على سؤال عما رأه في المدينة:" زرق ورق وبيض لقلق" والزرق ورق هي القصاصات الملونة التي تعلق في الشوارع، وبيض اللقلق حلوى شبيهة بشوكولاتا عيد الفصح، وبهذا الجواب عبر عن استهجانه بزخرف المدينه وحلاوتها المصطنعة.
وما أشبه اليوم بالبارحة حينما ذهب الأميركان إلى إيران الأسلامية حاملين قرباناَ من الحلويات -ولعل حضرياً قال لهم بأن المؤمنين مثل المعيديين حلويون-ولأنهم استعلائيون، وكما عبر عن ذلك الرئيس الأمريكي مؤخراً بأن العالم "تحت قيادتي آمن"، ومثل قارون في تبجحهم بأنهم أوتوا كل شيء على علم من عندهم دخل الأمريكيون العراق مدججين بأسلحة الدمار الذاتي، أي بعقد الخواجة والمعيدي وغيرها من عقد الأستعلاء، فهمشوا الدور العراقي، حتى ضج حلفاؤهم بالشكوى، وأصبح الحضري قبل المعيدي يخشى الخروج من بيته لئلا يصرعه رصاص فلول أزلام النظام المتخفي أو الجنود الأمريكان المتشنجين حذراً وخوفاً، أو يسلبه المجرمون ماله أو يعتدون على عرضه أو يخطفون أحباءه.
أما ادعاء الأمريكان بأنهم جاؤوا لإنشاء نظام ديمقراطي حر يكون قدوة للعرب والمسلمين فهو أشبه بالرسالات الآلهية المنزلة، لذا يتطلب التصديق به معجزة، كإحياء الموتى مثلاً، فمن ثوابت السياسة الخارجية كما ينظرها ويطبقها الغربيون وغيرهم أولوية المصالح الوطنية الذاتية على كل الإعتبارات الأخرى، وحتى يكون النظام العراقي الديمقراطي المنتظر قدوة مقبولة لدى الأمريكان لابد أن يكون نسخة طبق الأصل الغربي، ومشاركاً نشطاً في تنفيذ مخططاتهم في المنطقة، أي عودة الى ما يشبه العهد الملكي في احلاف قادته الحضر وسياساتهم الفاشلة التي فرخت سلسة الحكومات العسكرية أو الشمولية المدمرة، أضف إلى ذلك الاعتراف بالكيان الصهيوني والإنضواء في الحملات الأمريكية ضد"محور الشر" و"الأسلام المتطرف" وغيرهم.
سابقاً رفع رئيس النظام البعثي شعار إعادة بناء الإنسان العراقي، ويكرر الرئيس الأمريكي هذه الأيام نغمة مماثلة حول بناء الدولة nation building في العراق، وقد سقط الشعار، كما ستتحول النغمة إلى نشاز قبل أن تخبوا، فلا البشر صلصال نحات، يشكله كما يشاء، ولا الأمم مباني قابلة لإعادة الهندسة.
والعقد الإستعلائية وكذا الدونية انعكاسات لمشاعر الخوف والقلق وضعف الثقة بالذات، والتي تولد الشكوك والأحقاد والعدائية المتبادلة، وتنتج عنها الإثنية الضيقة والطائفية والمذهبية، والعلاج لهذه العقد وغيرها من المشكلات التي يعاني منها عراقنا ليس مستعصيأ، ولكنه لايكمن بالضرورة في استنساخ النموذج الغربي الأمريكي، فلا اليابان أو كوريا الجنوبية أو الصين أو الهند أو النمور الإقتصادية الأسيوية اتبعت طريقة الاستنساخ في تطوير مجتمعاتها واقتصادياتها، بل الجميع كانوا حريصين على المحافظة على خصائصهم الثقافية الموروثة، وأمثل وأمتن أساس لبناء مستقبل زاهر هي القيم والمباديء الإسلامية-العربية الأصيلة، التي تدعوا إلى الاستقلال واحترام الحقوق وسيادة القانون والحرية والمساواة والتآخي والتعاون.

&مستشار إداري عراقي يعيش في المنفى.