أجرى الحديث أشرف عبد الفتاح عبد القادر
&

لم تكن هذه هي المرة الأولي التي ألتقي فيها بالدكتور رفعت السعيد، فسبق وإلتقيته منذ سنتين أو أكثر، فأنا من المعجبين بفكره وبأسلوبه السهل الممتنع، وهو دائما يلقاني بتواضع نادراً ما تجده في شخص بثقل د. رفعت السياسي والفكري، فهو أحد مفكري مصر الأحرار، وهو الرجل الثاني بعد خالد محيي الدين أحد أعضاء مجلس قيادة ثورة 23 يوليو في حزب التجمع، وهو لا يمشي&&
إلا بالحراسة لأن المتأسلمين سادة القتل والإرهاب لن يتورعوا عن قتله لو ظفروا به. أجريت معه الحديث في جو من البساطة و المرح حيث تخلل الحديث شيء من الدعابة وأهداني مجموعة كتبه وآخرها كتابه "المتأسلمون ماذا فعلوا بالإسلام وبنا" وخرجت من عنده وأنا سعيد بهذا الحديث الفكري الدسم، وكان مازال عندي كثير من الأسئلة التي أود طرحها عليه لأستزيد من علمه وفكره وأفيد القراء به، لكن وقته الثمين وكثرة مشاغله لم تسمح بالإجابة، وأجريت هذا الحديث معه على جلستين، وكلي أمل أن ألقاه مرة أخرى.
&
في الطفولة كان الأب لنا مخيفاً
* متى وأين ولد د. رفعت السعيد؟
-&أنا ولدت في 11/5/1932 في مدينة المنصورة.

*&ما هي ذكرياتك عن الطفولة ؟
-&طفولتي كانت عادية، طفل من أسرة موسرة، ولكن ليست أرستقراطية يمكن أن تقول إنها أسرة فوق المتوسطة، لكنها امتازت أنها كانت تسكن في حي، كان يسكنه أغنى الناس أسمه "منتزه الكناني" وكان جدي يرث ورشة ميكانيكية وهى الأولى من نوعها في الوجه البحري في عهد محمد علي فورثها أبوه من جده، وبما أن هذه الورشة هي محور الاستقلال عن العائلة بنى البيت فوق الورشة، فكنا نعامل في الحي على أننا أولاد الحاج محمد السعيد الذي كان أكثر الناس رهبه وثراء في الحي، كنت ابن السابعة أو الثامنة وكان ذلك في بداية الأربعينات، وأسرتنا كان لها تقليد وهو ألا تقسم الميراث للآخرين بطريقة تكفل أن تذهب الورشة للإبن الأكبر. فمثلاً كان عنده ابنين فبنى ماكينة طحين وأحاطها بمزرعة كبيرة لتتساوى مع الورشة واشترى بيوت للبنات وبنى لكل واحدة بيتاً لتأخذ نصيبها. بحيث أنه عندما مات فوجئوا بأنه قد سجل في المحكمة المختلطة بيعاً وشراء نصيب كل واحد في الميراث. لكن ونحن صغار كان الأب بالنسبة لنا مخيفاً، لا يخيفنا نحن فقط بل يخيف الحي كله، كنا نلعب كورة شراب في الشارع، فجأة نجد جميع الأطفال يهرعون من الشارع. لماذا؟ لأن الحاج محمد ظهر في الشارع. فكنت أجرى معهم أنا أيضاً.

والدتي كانت ترتجف من كلمة سياسة
*&كم كان عدد أفراد الأسرة؟
-&كنا ستة وخدامتين فنكون ثمانية، والدتي كانت سيده بسيطة جداً طيبة القلب، ولا تهش ولا تنش، مستسلمة لسى محمد، وهى بالمناسبة أبوها شهيد، فكانت ترتجف من كلمة سياسة لأن أبيها كان تاجر قطن كبيراً وخرج للمشاركة في المظاهرة للمطالبة بالدستور سنة 1930 التي كان وقتها النحاس باشا يزور المنصورة فضرب رصاصه فمات. ولم يتذكره أحد، وإن كانت حكومة الوفد عندما أتت عام 1936 عملت نصب تذكارياً، وأتذكر أن أمي كانت تصحبني كل يوم جمعه لقراءة الفاتحة عند النصب التذكاري الواقع في منتزه الكناني مكتوب عليه "استشهدوا في سبيل الوطن" ومكتوب أسماء الناس الذين استشهدوا منهم، وكان من بينهم جدي، ويمكن أن يكون هذا أحد الأسباب التي جعلتني أعمل بالسياسة بعد ذلك، لأنني كنت ناقماً على كل البشر من الحكام، لأنه عندما أتت حكومة إسماعيل صدقي سنة 1946 أمرت بتدمير النصب التذكاري، لأنه هو الذي أمر بقتل الناس، وكنت أمر يوماً فوجدتهم يهدمون النصب التذكاري، فترك ذلك أثراً سيئاً وجرحاً في نفسي.

أبي رجل خير، لكن لم يعمل بالسياسة
* كم كنت تبلغ من العمر وقتئذ؟
- في عام 1946 كان عمري 14 سنة، بعد ذلك بسبعة أشهر كنت منتسباً إلى منظمة الحركة الوطنية للتحرر الوطني. أبى رجل خير وكان وفدياً، لكن لم يعمل بالسياسة، وكان لديه في الورشة "حنفية" وكانت كل نساء الحي تأتى لتأخذ الماء النقي، وإذا كان هناك خلاف بين رجل وزوجته كان أبى هو الذي يصلح ما بينهما، وكان أمره مطاعاً. أما في المنزل فنحن قطط، كنا عفاريت، فكان المنزل لعب وشقاوة وتنطيط. كيف يمكن أن نسمع وسط كل هذا الضجيج حكة جزمه الوالد في عتبة السلم. في لحظة تجد الستة أولاد كل واحد اختفى وجالساً وفى يده كتاب ولا تجد إلا الصمت الرهيب.

فتوة القرية فض بكارة زوجته في الشارع أمامنا
&هل كان الوالد يضربك؟
أبداً.. أبداً لم يضربني أبداً، وكانت والدتي تنهاني فقط بالكلام، الوالد كان هو محور الأسرة، والورشة هي محور الأسرة، وكان يفهم عمله بشكل أكثر من ممتاز، حتى أنه عندما كانت تتعطل إحدى الماكينات ويأتي مهندس كان يبين له أشياء في عمله. مثل المايسترو الذي يعرف كل نغمة آتية من أي آله، هذه الطفولة كان يشوبها شيئان الأول: أنه كان بجوارنا حي فقير، فكنا نذهب إليه لنري عالماً غريباً، كان الحصان يقف أمام باب المنزل والنساء يزلن شعر اليدين والرجلين والحواجب في الشارع والأحياء. وكان لهذا الحي فتوتان، الأول أسمه مسعد الحسنى والآخر محمد عسران، وكانت تؤلف للفتوه الأغاني، محمد عسران تزوج امرأة، وشاعت شائعة أنها ليست بكراً فقرر أن يبين للحي أجمع أنه ليس عبيط، ففض بكارتها في الشارع أمام أعين الناس، ونحن واقفين في ذهول ولك أن تتخيل أن يحدث ذلك في الشارع، وتكونت لنا صداقات مع أولاد هذا الحي حيث كنا نلعب معهم ونحقد عليهم.

كنت أحقد على حرية أولاد الحي الفقراء
*&لماذا كنت تحقد عليهم ؟
- لأنهم أحرار، لا أب يخيفهم، ولا يهمهم ساعة معينة يعودون فيها للمنزل، ولا يسألهم أحد لماذا أتسخت ملابسهم، فكنت أحقد على حريتهم وكانوا يسهرون في الشارع كما يشاءون ولا يذاكرون دروسهم وكان لي صديق حميم منهم اسمه عياش. عندما دخلت المدرسة الثانوية وتغير الزمان، وكنت ألبس بنطلون طويل، وهو عربجي حنطور، فكان يلقاني وينادي على: إزيك يلا، وبعد أسبوعين يناديني : إزيك يا أستاذ، وبعد أن كبرت أصبح عندما يراني يدير وجهه في الجهة الأخرى.
وتفرقت السبل. تعلمت من هذا الحي الشقاوة بغير حدود، وأذكر لك واقعة واحدة فقط، كان لنا صديق أسمه جمال عزت وكان أبوه قريباً لنا، وهو تاجر قماش وكان يسمى وقتها تاجر "ماني فاتورة" وكان سوق القماش يسمى سوق الخواجات، وكانت المحلات كثيرة ومتلاصقة وكنا نمر صباحاً على بعضنا البعض للذهاب إلى المدرسة وكانت الإشارة هي الصفير لكي نتجمع، وانتظرنا حتى ذهب جمال إلى المدرسة، وكتبنا على ورقة أنتقل إلى رحمة الله الحاج عزت أبو جمال صديقنا وألصقناها على باب محله، فذهب كل التجار إلى منزل الحاج عزت للعزاء ويقولون: لا إلاه إلا الله الحاج كان معانا امبارح.. لا حول ولا قوة إلا بالله، وعندما وصلوا إلى بيت الحاج عزت، وجدوه هو الذي يفتح الباب فذهلوا.. هذا يدل على الشقاوة التي استقيناها من طبقة اجتماعية مختلفة تعايشنا معها وكنا منبهرين بها.
الشيء الآخر معقد جداً ولا يمكن أن أشرحه لك الآن، فعمى أخو أمي من الأم، وأخو أبى من الأب وكذلك عماتي، وكانت هذه الحالة نادرة جداً، وكان هناك عرف سائد في قريتنا ولا أعرف إن كان لازال سائداً أم لا. فكان العرف يقول: من كان عمه خاله تكون يده مبروكه، وأنا لي أخ أكبر منى لا تقدر عليه أمي.

كنت أشفي المرضي في صغري لأني كنت مباركاً
*&كنت الابن رقم كم في الأسرة؟
- كنت الثالث، وكانت والدتي تقول لي: إن ربنا ها يبارك لك، وأنه يحبك وسيدخلك الجنة، وأنت مبارك، وكنت عندما ألمس المرضي يشفون، ولا أعرف عندما كنت ألمسهم كيف يشفون. أتوا لي برجل رجله مجزوعه (أي مقصوعة) وسخنوا زيت الكافور ودعكت له رجله وشفى. وأصبحت شيخاً أو ولياً، وكان هناك الشيخ محمد رفعت قارئ القرآن في ذلك الوقت. وأخذت لقب الشيخ رفعت الذي يشفى مرضي الحي. وعندما استقام عودي تمردت على هذا الوضع.
&
اشتغلت بالسياسة بالمصادفة البحتة
* ما هي العوامل التي أثرت في فكر د. رفعت؟ وكيف عملت بالسياسة؟
- كنت شاباً عادياً جداً، والدي رجل ثرى كل ما أريده موجود. أما كيف عملت بالسياسة ؟ بالمصادفة البحته سنة 1947 وكان عمري 15 سنه. كان لنا صديق دكانه يقع أمام المدرسة، فكان باب الدكان أمام باب المدرسة وكان الدكان اسمه عزراً جويج، وكان في المنصورة جالية يهودية كبيرة وكان لهم معبد كبير في المنصورة. عزراً جويج هذا كان يصنع الحلويات الحمصية والسمسمية، وكانت تسمى باسمه فلا يقول الناس حلويات لا بل يقولون عزرا جويج، مثلاً الجيلاتي، ينادون محمد عيد. أي ينادون باسم الرجل الذي يعمل الشيء. فكان الناس يمرون وينادون عزرا جويج.. عزرا جويج، ونحن كنا أصحابه فكان يعطينا الحلوى وهى لازالت ساخنة ولم تقطع بعد، وكانت لذيذة الطعم واستمرت صحبتنا له.

القضية الفلسطينية كانت هي نقطة التحول في عام 1947
&وفجأة التهبت القضية الفلسطينية في أواخر عام 47 حيث بدأ تقسيم فلسطين، وبدأت تخرج المظاهرات من المدرسة ويقودها الإخوان المسلمين وحزب مصر الفتاة ويهتفون:
&فلسطين بايعناك
وعين الله ترعاك
وشباب النيل يحميك
وخرجت في المظاهرات، وفجأة وعندما خرجنا من المدرسة، إذ بعاصفة من الطوب تنهال على محل عزرا جويج لأنه يهودي، فهو مسكين كان كالفأر المذعور فأغلق باب المحل الصاج، وتعود أنه بمجرد أن يسمع الهتافات في المدرسة فيسرع بإغلاق باب المحل على نفسه، ويقذفه الطلبة بالطوب حتى يملون، وكان يصعب عليّ عزراً جويج لأنني لا أجد مبرراً لضربه، وتعاطفت معه لأننا أصحاب ونضحك ونهزر معاً. وفى هذا الوقت لم يكن لي أي نشاط سياسي ولا سمعت كلمة صهيونية ولا أعرف ماذا تعني، وفى يوم وجدت مجموعة من الطلاب خرجت من المظاهرة ووقفوا صفاً متشابكين الأيادي لحماية محل عزراً جويج، ووقفت معهم لأنني اعتقدت أن هؤلاء الشباب مهذبون ويحبون عزراً جويج، فوجدت أن المخبر الدائم أمام المدرسة وأسمه "عم مصطفى" الذي نعرفه جيداً أخرج ورقة وقلم كوبيا وبلله بلسانه وبدأ يكتب أسماء الواقفين، وكتب أسمى واشتهرت بهذا الأمر.

كان الهجوم على اليهود المصريين جريمة لصالح الصهيونية
في اليوم التالي وجدت الطلبة ينادوني أهلاً يا "رفيق" فسألت ما معنى"رفيق" فقالوا: أنت شيوعي لأنك وقفت مع الشيوعيين أمس. كانت الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني في ذلك الوقت "حدتو" ترى أن الهجوم على اليهود المصريين هو جريمة فوق أنها جريمة غير إنسانية هو جريمة لصالح الصهيونية، ذلك أن مصر كانت وقتها بها 40 ألف يهودي، من كبار المثقفين ويعتبرون جزء من الصفوة المثقفة، وكان رأيها أن علينا أن نحتفظ بهؤلاء لكي لا يصبحوا وقوداً لصالح إسرائيل، وكانت الحركة اليهودية منقسمة. وأنا عرفت ذلك بعدين عندما اشغلت بعلم التاريخ. كانت منقسمة بين اثنين : رينيه باشا قطاوى الذي كان رئيس الجالية اليهودية وكان يعتبر اليهود مواطنين مصريين، وكان يرفض الهجرة إلى إسرائيل لأنهم لا يقبلون أن يكونوا في بلد يحارب مصر، وكان هناك رجل ثاني هو : مستر ليون كاسترو كان رئيس جمعية أسمها "جمعية الصهيونيين بمصر" وكان يرى أن الصهيونيين المصريين مقيمون هنا في مصر ترانزيت، وسيطروا على الأندية في الإسكندرية والضاهر، ويسعون إلى تجنيد الشباب حيث يتم سفرهم إلى قبرص ومن قبرص إلى إسرائيل ويذهبون إلى الهاجانا وغيرها، كل هذه المنظمات كانت تجند الشباب من مصر وترسله إلى إسرائيل، اكتشفت بعد ذلك كل هذه المنظمات والمراسلات وليون كاسترو.
&
الإخوان المسلمين ومصر الفتاة قدموا خدمة جليلة للحركة الصهيونية
&وكان رأى "حدتو" أن الإخوان المسلمين ومصر الفتاة يقدمون خدمة جليلة للحركة الصهيونية إذ يدفعون اليهود للاعتقاد بأن الإقامة في مصر خطر عليهم مما دفعهم للسفر والانضمام إلى الحركة الصهيونية. فشكلت "حدتو" في ذلك الوقت "الرابطة الإسرائيلية" لأن كلمة إسرائيلي في مصر كانت بدل كلمة يهودي. ولا تستخدم كلمة يهودي، منذ زمن العثمانيين نجد الديانة مكتوب فيها إسرائيلي. فكان أسمها "الرابطة الإسرائيلية لمكافحة الصهيونية" فهمت كل ذلك بعدين. فوقفت مع الزملاء للدفاع عن عزراً جويج. واقترب منى شخص وقال لى: نحن متشكرين لأنك ساندتنا. من أنتم؟ قال: نحن "حركة الديمقراطية للتحرر الوطني"، ماذا تبيعون؟ قال: نبيع هذا وأعطاني مجلة "الجماهير".

*&منذ ذلك الوقت بدأت تعمل بالسياسة؟
- على حرف الهامش، ليس على الهامش، على حرف الهامس، وفجأة ونحن نلعب في الشارع حيث كان عمري 15 سنة وألعب مع أصحابي وأهزر وجدت عربة حنطور وقفت ونزل منها سعد الكنوستبل، ومعهم عم مصطفى المخبر ودخلوا بيتنا. يا نهار أسود. جريت وجدت أبى خارج، سألت وعرفت إن سعد الكنوستبل ذاهب لمقابلة بابا وقال له إن عنده أمر بتفتيش المنزل، فقال له والدي:فتش، فقال له : عيب ولم يفتش المنزل.


*&كانوا يفتشون عن ماذا؟
- على أنا. في هذه الأثناء كنا في العام 1948 وألقى القبض عليّ في المنصورة لأول مرة في قضية شيوعية. وكان رئيس النيابة صديق والدي. فوجدني أدخل عليه وأنا لابس شورت، فليس لدى بنطلون طويل، فماذا أفعل؟
فصاح غاضباً : أنتم قابضين على مجموعة عيال، إمشى روح، فخرجت وأنا على السلم أمسكوا بي وقالوا تروح إزاى أنت متهم. فعادوا بي إلى رئيس النيابة وقالوا له: إنني متهم فأفرج عنى بلا ضمان، حيث لم يكن لي حتى بطاقة شخصية وكتب: يخلى سبيله بلا ضمان. فحجزوني وطلبوا لي أمر اعتقال. كل من دخلوا معي الحجز وخرجوا توقفوا عن العمل السياسي بعدها، أما أنا فأكملت العمل السياسي بعد خروجي.
&