فالح الحُمراني
&
&
هل كان الكاتب الروسي/السوفياتي، مكسيم غوركي (1868 ـ 1936) شخصية مزدوجة الموقف والرؤية في التعاطي مع الحياة والفكر، منفصمة بين النزوع الشعري الشفاف والاخلاقي، وبين رجل الفعل، صاحب البرنامج السياسي، الذي تجذرت اقدامه في الارض وادرك قوانين اليومي بكل قسوتها ومرارتها
وتناقضاتها، فراح مرة يرفض ويقاوم الواقع المُعطى ويرفض كل تبرير للتجاوزات، واخرى ينجر في مساومة معه، ويلوذ بالصمت ويتجاهل عسف القائمين على السلطة وتجاوزاتهم بذرائع الايديولوجية؟.
تلك هي اهم الاسئلة التي يمكن ان يخرج منها القارئ اللبيب، بعد مطالعته لمتن المجلد الجديد الذي صدر في موسكو، وضم مذكرات غوركي، ومقالاته مثيرة الجدل "افكار سابقة لاوانها"، ومقالته عن زعيم الثورة البلفشية فلاديمير لينين، وكتاباته عن معاصريه من الادباء الكبار اللذين تركوا بصماتهم على المسيرة الادبية والفكرية ـ الروحية لروسيا ولحد الان. وتاتي اهمية الكتابات بان اغلبيتها لم تر النور طيلة العصر السوفياتي، ولم تدرج بعضها حتى في الاعمال الكاملة لغوركي، التي تتجازو ثلاثين مجلدا، نظرا لما احتوته من انتقادات خطيرة لممارسات السلطة السوفياتية، وكشف فيها غوركي عن وجه اخر يختلف تماما عن ذلك الوجه الذي روج رسميا. فغوركي يكف فيها ان يكون اديب البروليتاريا ومؤسس الواقعية الاشتراكية وايقونة وفخر الثقافة السوفياته.ويطرح نفسه ندا للسلطة السوفياتية، ومدافعا عن ضحاياها سيما بين المثقفين، الذين تعاملت معهم كشريحة اجتماعية من مخلفات الماضي، وطفيلية فائضة عن الحاجة.
ويشكل صدور مذكرات غوركي والمقالات الاخرى التي جاءت بعنوان (ملاحظات من دفتر المذكرات عن الناس الروس) عن دار فاجريوس في سلسلسة (القرن العشرين لي) ووضع الناقد صاعد النجومية بافل باسينسكي، يشكل مؤشر على ان روسيا بصدد اعادة النظر من جديد بواحد من الشخصيات الادبية المميزة والمعقدة والمتناقضة في تاريخ الثقافة العالمية للقرن العشرين، بعد المحاولات التي بذلت للشطب على مجمل
انتاجه من تاريخ الادب المعاصر. وجابه غوركي بذلك ذات المصير الذي تعرضت له اسماء عظام اخرين في بداية القرن الماضي بما في ذلك الكسندر بوشكين وفيودر دوستويفسكي. فاين حقيقة موقف غوركي في قصصه ومسرحياته التي حرضت على الثورة وعجلت من انفجارها، وساند خطواتها الاولى، ام موقفه الذي ندد بممارسة الثورة البلشفية ؟. ان صدور الكتاب سيساهم في رسم صورة اكثر واقعية مركبة عن غوركي وانصاف دوره، بالنظر من عدة زوايا له.
&
&تولستوي واخرون
&فعلى تخوم الثمانينات وبداية التسعينات من القرن العشرين، تعرض غوركي وادبه لاعادة نظر جذرية، فلم تعد مدينة نوفغورد حيث ولد تحمل اسمه، واستعاد اطول شارع في العاصمة الروسية ومحطة مترو الانفاق اسماءها ما قبل الثورة والغي اسمه ايضا عن ميادين ومؤسسات علمية ومكتبات وقلصت ساعات تدريس ادبة في المقرر المدرسي. وضجت المجلات والصحف بمقالات لنقاد وباحثين جادين، حملوا فيها غوركي مسؤولية التورط الاخلاقي في ما وصفوه (بجرائم النظام الشيوعي) ابتداء من بداية الثورة وحتى حملات التصفية التي شهدها عهد جوزيف ستالين وطالت ادباء ورجال مسرح ومثقفين . بيد ان الساحة الادبية بدات تسمع ايضا اصوات تدعو للتريث في اصدار الاحكام القاطعة، وبخبطة واحدة الغاء واحدة من الظواهر الثقافية الشائكة التي تركت اثرا عميقا في تاريخ الثقافة الروسية والسوفياتية منذ منذ نهاية القرن التاسع وحتى نهاية القرن العشرين.
&ويدرج دارسوا غوركي سرد ذكرياته، بين افضل اعماله الادبية، ففيها خط اجمل ايات النثر الروسي الحديث. فعلى سبيل المثال ان مذكراته الجميلة عن ليف تولستوي التي ضمها الكتاب ايضا، قلبت حين صدورها، تصورات الكثيرين عن شخصية الاديب والمفكر الكبير، وظهر امام العالم، (فالمقالة ترجمت لاغلبية اللغات الحية)، لاككاتب عبقري وداعية اخلاقي متسربل بالغموض، ومؤسس تيار ديني في المسيحية. ارتدت كل اشارة ولفتة له ولو بالصدفة طابعا فنيا رفيع وانما انسان وشخصية ادبية اعتيادية، ونجح غوركي ان يرسم صورة فنية متالقة عن (الصديق تولستوى) كما كان يروق له ان يردد. ولاح تولستوى بقلم غوركي، وبشهادة مقربين منه،اكثر حيوية وجذابية من (الايقونة) الاجتماعية التي وضعت (لتولستوي العظيم)، ان تلك الصورة جذبت تولستوي نفسه، وكانت عاملا في قراره (بترك عائلته) والرحيل عن ضيعته (ياسنيا بولانيا). لقد كان غوركي احد القلائل اللذين نجحوا في العثور على المسوغات العقلانية للقرار التراجيدي لرجل عظيم، وكشف ايضا عن عقد الانفعالات والاشكاليات الروحية والتناقضات التي مزقت تولستوي، ولم تجد لها منفذ للخارج، لانه تخطى حدود الانسان العادي وغدى عالما مستقلا مكتفيا بموارده الداخلية الغنية، شئْ بنفسه.
&وتناولت ريشة غوركي كذلك معاصرين من بينهم انطون تشيخوف، والشاعر القروي سيرجي يسينين والقاص والمسرحي ليونيد اندرييف، ليكشف بضربات رسام حاذق خصوصية وفردانية كل منهم وابعاده السايكولوجية وملامحه الادبية والفنية، التي لم يفطن لها اخرون. فكانت بحق اعمالا ادبية لاتقل اهمية عن (جامعاتي) او في القاع وقصصه القصيرة "في روسيا".
&
بين "روس" و"روسيا"
&ويتناغم نشر "ملاحظات من دفتر المذكرات" وروحها والتاملات التي تغلغلت فيها مع الجو العام في روسيا اليوم التي مازالت تبحث عن نفسها. ان غوركي حقا لم يترك سيرة حياة او كتاب مذكرات بالمعنى المالوف، كما قام بذلك ليف تولستوى او الشاعر الكسندر بلوك، ولم يتعامل كاخرين مع السيرة والمذكرات على انها جزء لاينفصل عن عمله الادبي. ورغم ان الكثير من مكونات ارشيف غوركي مازال متناثرا الا ان دارسيه لايعقدون الامال على العثور على مذكرات تضعه في صف اؤلئك الذين تميزوا بفنها. فغوركي على بتقديرهم رجل الفعل المباشر، وينتمي الى النمط الذي لايكتفي بالمراقبة السلبية للاحداث، بل بالتفاعل معها والمشاركة في توجيهها، لقد رفض ان يكون مؤرخا لاحداث عصره وعمل ابدا ان يكون محوريا فيها. ومن الصعوبة الحكم عليه ان تكون ( ملاحظات من دفتر المذكرات ) هي تسجيل لمذكرات شخصية بالمعنى المتعارف عليه، ام انها شكل واسلوب فني وحسب. المعروف ان غوركي اراد من تلك الملاحظات ان تكون شذرات او مقاطع صغيرة، لعمل كبير. وتمخضت عنها حقا روايته الملحمية ( حياة كليم سامجين ). بيد ان تلك التخطيطات فاقت في جوانبها، كما يذهب نقاده، على المؤلف الكبير. وسجل غوركي ملاحظاته تلك في بداية عشرينات القرن الماضي، حين هاجر عن روسيا ( مضطرا ) بعد ان استولى عليه اليأس في القدرة على التاثير على الاحداث الماساوية التي افزتها الثورة البلشفية. ولم تكن تلك ملاحظات بل وصف شامل لحضارة غاربة اطلق عليها تسمية قديمة ( روس )، رافضا ان يتطابق مفهومها مع روسيا التي اسسها بطرس الاكبر. ومع ان غوركي كان مستاءا من اسلوب تطبيقات فلاديمير لينين لسياسته، وما رافقها من عنف، واشعال الحرب الاهلية الا انه اعتبر مؤسس البلشفية مواصل لقضية بطرس الاكبر، أي تحويل روسيا الى دولة على النموذج الغربي. وبالرغم من ان غوركي يثمن عاليا التوجه العقلاني لروسيا الغربية، الا انه رفض حشرها بالقسر في اوروبا وباساليب غير انسانية، ويقول ان لينين لم يختلف عن بطرس الاول بذلك. لقد عشق غوركي (روس) التي تمثل بقايا الحضارة القديمة، بقلبه وروحه ولكنه رفضها عقليا. فكان غربيا بقناعته الواعية، وسلافي النزعة بغرائزه الفنية. ان هذا ما يشكل محور افكار (ملاحظات من دفتر المذكرات ) التي نشرت لاول مرة دون ان يمتد لها مقص الرقيب الحاد. ان (روس) بالنسبة له مرض تاريخي وحالة نافية للطبيعة، انها استثناء عن القاعدة الاوروبية العامة، لذلك فانها استثارت غزيزته الفنية، ومن هنا استقى غوركي اسس جماليته واقترابها من المروجيين للسلافية، الا انه اختلف عنهم بان جعل الثقافة الاوربية الغربية مثلا له، دعى للاحتذاء به.
&وبرز في "افكار سابق لاوانها" التي منعت السلطة السوفياتية نشرها على ماينيف عن سبعين عاما، وجه مغاير لغوركي احد الاباء الروحيين للثورة البلشفية. فغوركي بافكاره يشن حرب قاسية على سياسة البلاشفة وينتقد اسلوب تعاملهم سياسيا واجتماعيا واقتصادي وثقافيا. لقد ظهر غوركي فيها شخصية مناؤة للعنف بكل اشكاله. وتدخل لاطلاق سراح رفاقه في القلم من بين ايادي حراس الثورة، وفشل في انقاذ اخرين. ومن الصعوبة ان نفهم ان الرجل الذي تصدى للتجاوزات والعنف يعود بعد سنوات من منفاه الاختيارى الى احضان جوزيف ستالين، ويكون بيده اداة تجميل لنظامه. وربما ان غوركي عاد بدوافع وطنية بعد ان ادرك بحسه بصعود النازية والفاشية في اوربا، واعدادها لتدمير (روس) شعلة القلب وشرارة الروح، فذلك ما يمكن ان يجيب عليه تاريخ الثقافة.
&