إيلاف - ابو ظبي: صدور كتاب الدكتور عبدالله إبراهيم "المركزية الإسلامية: صورة الآخر في المخيال الإسلامي خلال القرون الوسطى" عن المركز الثقافي العربي في بيروت، يكون المفكر العراقي قد انتقل بمشروعه النقدي من نقد "الآخر" الذي خصص له كتاب" المركزية الغربية" إلى نقد "الذات" الذي خصص لها هذا الكتاب.
وهذا جزء من المشروع الفكري-النقدي الذي بدأه في نهاية الثمانينيات وأصدر فيه أربعة كتب ينقد فيها مطابقة الثقافة العربية للآخر وللماضي على حد سواء ، ويقترح ثقافة الاختلاف التي تقيم حوارا نقديا مع& ثقافة الآخر وثقافة الماضي، ولكنها لا تمتثل إلى أي منهما. والكتاب رحلة نقدية- فكرية شائقة في الكيفية التي أنتج فيها المخيال الإسلامي صورة الآخر خارج دار الإسلام في القرون الوسطى. والحديث عن الصورة التي ارتسمت للعالم في المخيال الإسلامي خلال القرون الوسطى يوجب، بداية، البحث في مركزية دار الإسلام خلال تلك الحقبة المشبعة بالسجالات الدينية؛ فالمركزية الإسلامية، ومفهوم" دار الإسلام" سيقومان بتشكيل ملامح خاصة، ومتوقّعة، لصورة الآخر، تلك الصورة التي ستلوح في أفق انتظارنا& طبقا للحدود التي تسمح بها مفاهيم التمركز. ومن المهم أن نتحرّر من ضغط المفاهيم، ودلالاتها الموروثة والمملوءة بثقافة عصرها، وذلك لن يتم إلا بتداولها في حقل المعرفة النقدية الهادفة إلى امتصاص شحن الغلواء الكامنة فيها، فالموجّهات الفكرية لمصطلح "دار الإسلام" تتدخّل في ترتيب رؤيتنا لمن هم خارج تلك الدار، لأنها مجال ثقافي مشبع بمنظومة عقائدية متجانسة، تختلف عن المنظومة الخاصة بالآخر، إنها تدفع بنا إلى موقف منه أكثر مما تسهل لنا استخلاص صورة حقيقية له، فالمخيال مكوّن ثقافي يتشكّل عبر التجارب التاريخية والعلاقات المتنوعة، ويصدر أحكامه عن الآخر ضمن شبـكة محكمة ومتلازمة من تلك التصورات الخاصة به.
&& يذهب الدكتور عبدالله إبراهيم إلى أن مصطلح "العالم الإسلامي" بدأ يحل محل" دار الإسلام" منذ بداية عصر النهضة، وهذا تسبب في نشأة وضع آخر، وهو التفكير في البحث عن المصطلح الذي يمكن إطلاقه على " العوالم الأخرى"، فمادام قد غُطي هذا العالم بغطاء ديني، فما الذي يمنع من خلع أغطية مماثلة على العوالم الأخرى التي تشترك بالعقائد والثقافات واللغات؟ إلى ذلك فالمصطلح الجديد إنما هو تشكيل رمزي له القيمة الثقافية ذاتها& التي كانت اللب المكوّن للمصطلح القديم، فشأن هذا شأن ذاك، لا يمكن أن يُعبّأ بغير الأبعاد الثقافية. ومادام التفكير في ( الأنا) يتمّ في ضوء سلّم محكم من القيم الدينية، فمن الطبيعي أن يظهر (الأخر) المختلف.&& ولكن هل يمكن أن نكون أكثر دقة لو استخدمنا مصطلح" العالم الإسلامي" ؟ الواقع& ينبغي التحسّب أيضا عند استخدام هذا المصطلح ؛ فهذا الوصف يشوبه نوع من عدم الدقّة من جهة، والتعميم من جهة أخرى. فهو لا يأخذ في الاعتبار ما تمور به هذه المناطق الشاسعة التي استوطنها المسلمون كأغلبية، أو شكلّوا في بعضها أقليات ضخمة،لها خصوصيات عرقية، ولغوية، وتاريخية.
&&&&& كان القدماء قد استخدموا مصطلح "دار الإسلام" كنقيض لـ"دار الحرب". أما "العالم الإسلامي" فاستعماله في الوقت الحاضر يوجب بحثاً عن نقيض ، وهو أمر أصبح محاطا بالحذر في عالم تداخلت مصالحه وعلاقاته وأفكاره وشعوبه، وتخلّص جزء كبير منه من سجالات القرون الوسطى التي يقوم نموذجها الفكري على الثنائيات الضدية، وإن كانت بعض أمشاج الماضي مازالت حاضرة في صلب التفكير المعاصر، إذ لم تندثر تماما الحساسيات العقائدية والثقافية بين الشرق والغرب أو الشمال والجنوب على سبيل المثال، ولابين المجالات المؤممّة من هذه العقيدة أو تلك، أو هذه الثقافة أو تلك. ولم يكن المسار التاريخي للإسلام خاضعا بصورة كاملة لفهم مجموعة عرقية،أوحقبة تاريخية، أو منطقة جغرافية.كان، ولايزال متصفا بتنوّع مميّز بحسب الأعراق والأقاليم،والثقافات .وهذا الوصف لن يُنقصه في شئ، إنما يضفي عليه حيوية لأنه يستجيب للبنية الاجتماعية الخاصة بالمؤمنين به كنسق ثقافي وعقائدي، ويتفاعل معها،بما يظهر إسلاما متنوعا. لقد بُذل جهد كبير للحفاظ على وحدة دار الإسلام خلال القرون الوسطى بوجه التحدّيات الخارجية والداخلية في محاولة لبلوغ أكبر درجة ممكنة من الوحدة الدينية والثقافية،لكنّ ذلك لم يتحقّق الاّ بعد التفكّك السياسي الذي لحق بتلك الدار، وخلال ذلك وقع تفاعل واسع المدى بين شعوب تنتمي إلى أرومات وثقافات وتقاليد مختلفة، وبرزت الثقافة الإسلامية في القرون الوسطى إلى الوجود من خلال عملية التفاعل هذه، بل كادت تكون في الحقيقة نتيجة لها.
&& يذهب الدكتور عبدالله إبراهيم إلى أنه ليس من الحكمة الآن النظر إلى واقع دار الإسلام كما كان ينظر إليها حينما كانت قائمة بالفعل؛ ولكن من المهم التأكيد على خاصية الوحدة المتنوعة بشريا وثقافيا لها، وتجنب تكريس المصطلح للتعبير عن دلالة رغبوية كامنة في الوعي الإسلامي المعاصر الذي يواجه تحدّيات حقيقية، فينظر إلى الماضي نظرة شفافة تستبعد الخصوصيات التي أضفت على الإسلام الثقافي أبعادا خصبة في كل مكان وصل إليه. من الصحيح أن الإسلام كان عقيدة دينية، لكنّ مفهوم دار الإسلام كان يتأكّد وجوده من كونه عالما واسعا يشترك في تصورات ثقافية وأخلاقية متقاربة أكثر ممايمتثل لوحدة سياسية ودينية مطلقة.وكان هذا معروفا عند القدماء، وجرى التعامل معه كحقيقة واقعة. نريد من كل هذا التأكيد على أن العالم كمجال ثقافي سيبقى مضمارا للمنازعة والمدافعة، وقد تأخذ المنازعة أشكالا، وتنتظم في أهداف، لكنها تستعين بالمكون الثقافي-العقائدي كمنشّط في صراعها مع الآخر. مازلنا بعدين عن تصور حقيقي يمارس وظيفة فاعلة في دمج التكوينات الثقافية داخل أطر تفاعلية، تستبدل بالمساجلات الحوار.ومادام الأمر قائما فليس ثمة إمكانية حقيقية للتخلّص الآن نهائيا من التسميات التي تحمل معها مستنداتها الثقافية والدينية ، كـ "دار الإسلام" أو"العالم الإسلامي "أو" الغرب" وحتى "دار الحرب" و "دار الكفر" فالمفاهيم والتسميات تعبّر عن حقيقية ظاهرة أو مضمرة،ولكن من المفيد التنبيه إلى ضرورة تفريغ دلالاتها القديمة.المفاهيم التي توجّه الأفكار لها سُنن تطور خاصة بها.ولايراد استخدامنا لبعضها موافقة لدلالاتها، إنما نهدف إلى تعديل الدلالات الموروثة فيها.
& يشير مصطلح" العالم الإسلامي"الآن إلى ذلك المجال الشعوري الذي تتراسل فيه منظومة من القيم الروحية والأخلاقية والعقائدية التي انبثقت عن القرآن،وعزّزت بفهم المسلمين لطبيعة الرسالة التي يتضمنها، وهو تراسل يتجاوز الانتماءات العرقية والثقافية والجغرافية، ولكنه لا يهملها ولا يتقاطع معها، ذلك أن الإسلام لم يضع أية شروط محددة للتوفيق بين العرق والعقيدة ،فهما انتماءان لا تعارض بينهما في المنظومات الدينية، يتوازيان ويلتقيان ويتماسان دون أن يلغي أي منهما الآخر، وهذا الأمر بذاته هو الذي يظهر إلى الوجود إسلاماً متعدد الأبعاد، يتم تلقيه وإنتاجه والتفكير به طبقاً للخصوصيات الثقافية والاجتماعية،لكن الإسلام كمنظومة قيم روحية وعقائدية عامة ينتظم في نسق واحد شامل، فهو يضم هذه التصورات، ويهضم الاختلافات والخصائص الثانوية، وذلك أمر شائع يفرضه واقع حال المسلمين المتصلين بأعراقهم الكثيرة،والمنتمين إلى هويات ثقافية متعددة،داخل إطار الثقافة الإسلامية العامة. وهذه الحقيقة دفعت محمد أركون لأن يحتج على برنارد لويس الذي يستخدم في كتبه مصطلح "العالم الإسلامي". ومؤدى اعتراض أركون يتمثل في أن هذا المصطلح إنما هو مفهوم شمولي وضبابي يغطي تحته عدداً كبيراً من المجتمعات والمجموعات البشرية المختلفة. وهذه الفئات والمجتمعات شديدة التنوع والابتعاد عن بعضها في الزمان والمكان. إنها من التباعد والاختلاف بحيث أن مفهوم "العالم الإسلامي" يفقد كل فعالية حقيقية ،وبالتالي فيصعب استخدامه دون أخذ احتياطات كثيرة. لا يمكن استخدام المصطلحات جزافا، فالتحرّز تفرضه الدقّة، وعليه فلابد من العودة إلى الحاضنة الثقافية والسياسية التي تشكلّت فيها مثل هذه المفاهيم،لكي نتمكن من فهم الدور الذي لعبته في تركيب صورة الآخر.
&& يصعب تخليص صورة الآخر من الآثار المباشرة التي تتركها عليها الثقافة المتمركزة على نفسها،وقد كانت المركزية الإسلامية، ممثلة بدار الإسلام، ونظامها القيمي المعياري ،هي الموجّه الأكثر فاعلية في صوغ ملامح تلك الصورة،وهي في عمومها صور رغبوية تتأدّى مكوناتها عن رغبة في تفخيم الأنا الثقافية الأمر الذي يقود إلى خفض قيمة الآخر.كان هذا التصور كامنا في صلب الحضارات القديمة والوسيطة،ولم تتمكّن الحضارات الحديثة من التخلّص منه بصورة تامة،إذ مازال فاعلا في توجيه المواقف والأحكام، وتحديد طبيعة المنظورات التي تنظر بها المجتمعات إلى غيرها؛ذلك أن العصر الحديث لم يفلح في التخلّص من مؤثرات الماضي،كما ينبغي ،وهو في كثير من الحالات يعيد بعث الصور والأحكام القديمة التي كوّنتها ظروف تاريخية مختلفة، فيبني عليها مواقف يرغب فيها، ويحتاج إليها في نزاعاته ذات الأوجه المتعددة،وعلى نحو خاص نزاعات الهويات الثقافية، ولئن ذوبت نزعات الحداثة والعولمة بعض التخوم الرمزية الفاصلة بين التجمعات القومية والعقائدية،وفكّت الانحباس التقليدي المتوارث فيها، فأنها& بذرت خلافا جديدا تمثله مفاهيم التمركز والتفوق والتفكير بسيطرة نموذج ثقافي على حساب آخر، وهو أمر نشّط مرة أخرى المفاهيم التناقضية-السجالية التي تخمّرت في طيّات القرون الوسطى، وصارت تُبعث اليوم بصورة إشكاليات الهوية والخصوصية والأصالة.وينبغي التأكيد على أمر يكاد يصبح قانونا ثقافيا، وهو أن البطانة الشعورية-العقائدية ،وهي تشكيل متنوّع من تجارب الماضي والتاريخ والتخيّل والاعتقاد واللغة والتفكير والانتماءات والتطلعات ، تؤلّف جوهر الرأسمال الرمزي للتجمّعات المتشاركة بها،أقول إن تلك البطانة المركّبة تعمل على جذب التجمعات البشرية الخاصة بها إلى بعضها، وتدفع بها إلى قضايا حساسة وشائكة لها صلة بوجودها، وقيمها،وآمالها، وقد تتراجع فاعليتها التأثيرية في حقبة بسب ضمور فاعلية عناصرها، لكنها قابلة للإنبعاث مجددا في حالة التحدّيات والتطلّعات الحضارية الكبرى .ولا يُستبعد أن تُغذّى بمفاهيم جديدة تدرج فيها من أجل موافقة العصر الذي تتجدّد فيه. وهذا هو الذي يبعث التفكير ثانية في الماضي الذي يصبح حضوره ملحّا حينما تشرف المجتمعات على حالات تغيير جذرية في قيمها وأخلاقياتها وتصوراتها عن نفسها وعن غيرها. ينبثق تفكير ملح بالماضي حينما يكون الحاضر مشوّشا، وعلى عتبة تحولات كبيرة أما بسبب مخاضات تغيير داخلي أو بفعل مؤثرات خارجية.