حسين كركوش
&

&
شاهد الملايين في أنحاء المعمورة صورة صدام حسين، على شاشة التلفزيون، وهو يفتح فمه للجنود الاميركيين كي يثبت لهم انه صدام حسين نفسه، وليس شبيها له. وعلق قائد القوات الاميركية في العراق بقوله، أن صدام كان "متعاونا، ويتكلم بسهولة ومستسلما لقدره".
العراقيون الذين شاهدوا صورة صدام حسين، لحظة إلقاء القبض عليه، لا بد أنهم عادوا بذاكرتهم نصف قرن الى الوراء، عندما عرض التلفزيون العراقي صورة مؤسس الجمهورية العراقية، الزعيم عبد الكريم قاسم، وقد أصبح جثة هامدة بفعل الرصاص الذي أطلقه عليه حزب صدام حسين نفسه، وهو يعلن استيلاءه على السلطة في 8 شباط 1963.
بالطبع، المقارنة بين قاسم وصدام ستكون غير عادلة، أبدا، لكننا، مع ذلك، سنتوقف عندها. فبينما رفض أعداء وقتلة قاسم طلبه في إجراء محكمة عادلة له ولصحبه، وعرضوا جثته وأمامها شخص يبصق عليها أمام أنظار الملايين من المشاهدين، أمعانا في إذلاله، حتى وهو جثة، فان أعداء صدام حسين شددوا، على لسان عضو مجلس الحكم عدنان الباججي، على ان صدام سيقدم الى محاكمة عادلة. وبينما أصر قاسم على الذهاب الى مقره الرسمي في وزارة الدفاع العراقية، وظل فيها يقاتل حتى لحظة اعتقاله، وهو يعلم جيدا ان ميزان القوى العسكرية ليس لصالحه، فان صدام حسين فضل الهرب من المعركة والنجاة بجلده، تاركا وراءه ملايين الناس الذي كان يحكم باسمهم، يواجهون مصيرهم وحيدين. مع ذلك، فأن صدام وحزبه ظلوا يصفون قاسم بالجبن والنذالة، ويضفون على صدام آيات من البطولة.
أين هي، إذن، بطولة صدام حسين؟ كان برزان ابراهيم، الأخ غير الشقيق لصدام، يقول، ويحلف بالقول، ان أخاه صدام لن يستسلم لأعدائه بسهولة، قط، وسيحتفظ بالطلقة الأخيرة في مسدسه الشخصي، لينتحر بها، تخلصا من الهوان الذي ينتظره. ومع برزان، ظل بعض رفاق صدام حسين، الذين انشقوا عنه لاحقا والتحقوا بالمعارضة، يؤكدون، بدورهم، إن صدام سيحتفظ بالرصاصة الأخيرة لنفسه.
لكن، صدام، بدلا من أن يقوم، حتى مثل أي قطة يعتدي عليها، ب"خرمشة" الذين القوا عليه القبض، فانه "لم يقاوم على الإطلاق" وظل فاغرا فمه، ليسهل لأعدائه مهمة التعرف عليه.
فم صدام المفتوح، اليوم، للأمريكيين، هو نفسه الذي كان في الأمس، مستودع لترسانة من التهديدات، يطلقها يمينا وشمالا.
صورة صدام الأخيرة التي ستظل عالقة في الأذهان هي، صورة "الفم المفتوح"، وليست صورة اليد التي تحمل البندقية في الاستعراضات اليومية أمام العراقيين (بعد هزيمته في حرب الخليج الثانية)، وتطلق منها الرصاص، إظهارا لشجاعة لامتناهية ولتحد لا يقف عند حد.
العراقيون وحدهم يعرفون ان صورة البندقية المشهورة هي، الصورة الزائفة، وصورة الفم المفتوح هي الصادقة والحقيقية. أقول العراقيين وحدهم، وأنا اعرف حجم المبالغة فيما أقول، لكن تعليقات بعض "المحللين السياسيين" العرب هي، التي تجعلني ألجأ الى المبالغة.
&مثلا، قناة الجزيرة القطرية لم تظهر، مثلما جميع وسائل الأعلام في العالم، صورة صدام حسين وهو فاغر الفم، كث اللحية، وإنما نشرت، في موقعها على الانترنيت، صورة أرشيفية له تظهره بكامل قيافته ومهابته السابقة، ووراءه سكرتيره، عبد حمود. "الجزيرة" لا تريد، بل لا تستطيع، ان تتصور ان صدام حسين، صاحب البندقية المرفوعة والسيف المشهور، هو نفسه صدام صاحب الفم المفتوح على سعته للاميركيين. وحتى تقنع نفسها، فان "الجزيرة" استعانت بمن وصفته ب "المحلل السياسي"، السيد مصطفى البكري، ليعينها على عدم هضم واستيعاب صورة صدام فاغر الفم، للتخلص منها، والمحافظة على صورة صدام شاهر السيف العظيم من غمده.
قالت "الجزيرة": " توقع المحلل السياسي العربي مصطفى البكري ان يشتد عود المقاومة (في العراق) وتمتد هجماتها في حال تأكد نبأ اعتقال صدام حسين، مشيرا الى ان لا احد من العراقيين يقبل ان يعتقل رئيس دولته ".
&قد يكون "المحلل السياسي العربي مصطفى البكري" على حق، وهو يقول ان "لا احد" من العراقيين يقبل ان يعتقل صدام حسين، لان البكري لم يسمع أو لم يشاهد، ربما، أصوات العيارات النارية التي أطلقها "على الأقل أكثر من عراقي واحد" ابتهاجا باعتقال صدام، لكن قناة الجزيرة لها من يوافيها بالأخبار من بغداد، ولا بد انه سمع بأصوات العيارات النارية.
بلى، "الجزيرة" تعرف ذلك، بدليل أنها نشرت صورة لعراقيين يبتهجون لسماعهم نبأ اعتقال صدام. لكن، "الجزيرة"، وهي، على أي حال، ليست المنبر الإعلامي العربي الوحيد، لا تريد ان تخسر مشاهديها العرب. فهي تعرف ان تقديم الحقيقة العارية لهم (صورة صدام فاغر الفم)، يؤذي مشاعرهم، ولهذا فضلت ان تقدم لهم ما يدغدغ مشاعرهم، ولا يجرح كبرياءهم (صورة صدام بمهابته السابقة).
وإذا ظل أعلامنا العربي يفضل "صور الأرشيف" الباذخة، والباعثة على اطمئنان زائف، بدلا من تقديم الحقيقة الفاغرة الفم، فان المتلقي العربي سيظل يدمي راحتيه من التصفيق، إما "للأبطال" وهم يشهرون سيوفهم الخشبية، أو للأجانب وهم يتحولون الى أطباء بيطريين يجبرون "أبطالنا" على فتح افواههم، كما يفعل البيطري وهو يفتح فم الدابة، ومعاينة أسنانها لتقدير عمرها. وفي الحالتين، نستحق أن يقال عنا أننا من عشاق الهزائم التاريخية.
&