عزيز الحاج
&


إن مطولات ومطولات من الكلام يمكن ويستحق أن تكتب وتقال عن الاستسلام المشين والمهين لطاغية أمس وحفار المقابر الجماعية، هذا الحدث الزلزالي الجديد الذي فجر الفرحة الكبرى مجددا في نفوس الأكثرية من أبناء شعبنا بعد فرحة التاسع من نيسان. وقد عبر العشرات من الكتاب العراقيين ونخبة من التنويريين العرب [ في إيلاف ومنابر غيره]، عن عما يعنيه هذا اليوم التاريخي العظيم. ومن جانبي أود التوقف باختصار لدى مسألتين تخصان الحدث، وهما متمايزتان ولكنهما مترابطتان.
&
1 ـ فلنذكّر دوما بالمجرم وجرائمه:
&تقام المناحات العربية من المحيط للخليج على المصير المذل "لبطل العروبة والتحرير"، الذي أبت أنانيته النرجسية وجبنه أن يطلق رصاصة واحدة على رأسه أو على أول جندي أمريكي يريد النزول لقبو الفئران، وهو الذي كان ندا للطاغية القديم كاليجولا الذي كان يقول لجدته التي نصحته بالاعتدال في القتل:" اذكري أن في مقدوري فعل أي شيء بأي إنسان". وأخيرا أجبر جدته العجوز على الانتحار. و، كما يورد خالص جلبي، كان كاليجولا يقول للعشيقة ضاحكا وهو يحتضنها: " سيطيح هذا الرأس الجميل بكلمة مني." لقد كان هتلر مجرما كبيرا تسبب في قتل عشرات الملايين وتحريق ملايين منهم، ولكنه عند رؤية الهزيمة انتحر بكرامته الشخصية.
إن بعض المنظمات الغربية التي لم تهزها مناظر المقابر الجماعية تنبري اليوم لتنتقد عملية الفحص الطبي المصورة لصدام، ويصف كردينال كاثوليكي أن تم فحص صدام كالبقرة وهذا حرام! والعرب يرون في الصور إهانة مقصودة للعرب والمسلمين. ويتجمع المحامون العرب للدفاع عن هذا الضحية الأسير المسكين، ويثير بعض الغربيين ضجيجا عن وجوب تجنيبه حكم الإعدام، و.الخ..، فيما جماهير العراقيين ترقص وتهزج فرحا بعيدها الجديد.
إن من المهم اليوم إعادة وتكرار الحديث عن الجرائم الكبرى والبشعة التي اقترفها طاغية أمس وجرذ القبو المهان. إنه لابد من تذكير العالم كله ومرة جديدة بتفاصيل تلك الجرائم لكشف زيف ونفاق المتباكين على مصير صدام، وبأن العراقيين بأكثريتهم الساحقة هم الذين دفعوا الثمن فيما العرب ودول كبرى ومنظمات "إنسانية" وحركات يسارية ويمينية أجنبية كانت تسد الآذان ومنهم من دافعوا عن النظام الفاشي حتى النهاية. ويقينا إن الطاغية الذليل سعيد مع نفسه لأنه وقع في أيد لا تقطع الأيدي والأذان وتجدع الأنوف، وتذيب الجسد في الأسيد وتسمم بالثاليوم ثم تدفنه في حفرة، بل ولا تصفعه ولو برفق كبيربل وسوف يمنح حقوقا وتحفظ كرامته في المعتقل. وهو سعيد جدا وللغاية القصوى لأنه وقع في أيدي الأمريكان لا العراقيين الممتلئين غضبا وحقدا وشوقا لمحكمته سريعا، علما بأن العهد العراقي الجديد قد تعهد باحترام القانون وضمان حقوق المجرم عند محاكمته مهما بلغت شناعة وهول الجرائم. ولا تحتاج جرائم صدام لبراهين جديدة: فالشهادات والأشرطة والتفاصيل معروفة وموثقة. وأنا أدعم بكل قوة موقف مجلس الحكم بوجوب محاكمة صدام أمام محكمة عراقية وداخل العراق، وهو ما عبر عنه بوش أيضا. وأدعو لحضور مراقبين عن الأمم المتحدة ومنظمة الحقوقيين الدوليين إن شاءوا. وفي الوقت نفسه أدعو لرفض طلب أي محام عربي يتبرع للدفاع عن المجرم، وإن كان سيكون له محامون. ولكن المواقف العربية وصلت لحد من إثارة القرف ومن الابتذال والانحطاط بحيث سيكون مهينا لشعبنا وضحايا صدام قدوم محامين عرب كانوا ولا يزالون يستهزئون بما عاناه العراقيون ويمجدون الجلاد ـ علما بأن المغالطات "القانونية" لجميع هؤلاء لن تصمد أمام منظر مقبرة جماعية واحدة وشهادات عائلات بعض ضحاياها، مثلما لا تصمد سفسطة وأكاذيب وخرافات المغرضين الموتورين أو المرتزقة في وسائل الإعلام العربية.
&
2 ـ قضية "المصالحة":
اندلعت مع الحدث المثير دعوات إلى "مصالحة عراقية عامة" دون تبيين مضامين الدعوة والمقصودين بها. فما المقصود يا ترى؟
&أعتقد أن ما قصده توني بلير مثلا هو خلاف ما يقصده عمرو موسى ووفده [ التحقيقي!] المرتقب للعراق أو ما يقصده غسان سلامة ممثل كوفي عنان أو الألماني فيشر. فبلير كان يقصد كما فهمت التآخي الشيعي ـ السني في العراق، بعد أن تكرر الحديث عن "مقاومة المثلث السني". صحيح أن معظم الهجمات الإرهابية جاءت من ذلك المثلث الجغرافي الذي كان صدام ينتخب من بين سكانه نخبه العسكرية والمخابراتية وضباط أجهزته الأمنية المتعددة ويغدق عليهم الامتيازات والترتب وعطايا الدولار والسيارات الفخمة ويطلقهم للقتل والتعذيب والاغتصاب والنهب. ولكن ليس صحيحا أن جمهرة العراقيين العرب السنة لم يعانوا من ظلم صدام، بل وقتل من أبناء عشيرته ومن أقاربه أيضا. وكان أول عالم دين من ضحاياه سنيا. لقد شمل الظلم الجميع مع تباين في السعة والدرجة. وأجل إن أكثرية من سكان المثلث لا تزال مع الأسف ملوثة بعبادة الصنم الجبان وثقافته ومنهم المتطرفون طائفيا والمتغطرسون المتعالي. ولكن سياسات رشيدة وإنجازات هامة لمجلس الحكم ووزرائه، والتجربة المرة والتوعية المتواصلة [ ودون إهمال معاقبة الذين يمارسون العنف ويدعمون عمليات الإرهابي كفيلة بكسب الطيبين المضللين وهزل المغرضين والحاقدين. وإذا تظاهر في الموصل مثلا أقلية من الطلبة تضامنا مع الجرذ الأسير فإنهم لا يمثلون أكثرية سكان الموصل، بل ومن هؤلاء الطلبة من قد دفعهم يأس ومرارة فورية وتلقائية التعليم السابق، ولكن قد تكون إعادة تثقيفهم ممكنة. وثمة رؤساء قبائل من السنة العرب في تلك المناطق لم تتعاون مع صدام، ومنهم من يتعاونون حاليا مع الوضع الجديد. إن "المصالحة" تكون ذات معنى وواجبا وطنيا عاجلا إن كان المقصود بها جمع الأطياف العراقية كلها تحت الخيمة العراقية المشتركة، ومكافحة التعصب الديني والمذهبي وعزل دعاته، ومعالجة بعض العقد العرقية القديمة في كركوك وغيرها بأناة وحكمة وحرص على مصالح الجميع وعلى ضمانها في النظام الديمقراطي الذي ننشده.
ولكن ما يبدو لي أن ما يقصده عمرو موسى وغسان سلامة، وبعض الدول الكبرى كألمانيا وروسيا وفرنسا، هو "المصالحة " مع حزب البعث وإشراك مسؤولين سابقين كانوا في المسؤولية حتى التاسع من نيسان في قمة السلطة. وقد يشمل القصد أيضا المطالبة بإطلاق سراح عدد من الكبار المعتقلين الصداميين! ولربما سوف يجري ضغط مشتد للتخفيف من الأحكام على صدام نفسه.
إن كل "مصالحة" بهذا المضمون والقصد مرفوضة تماما في رأيي. فأما الموقف من البعثيين فإن التحالف ومجلس الحكم قد اتفقا على معايير موضوعية في التعامل مع المتهم منهم بالجرائم وبين مئات بل ربما آلاف انتسبوا لحزب البعث عن ضغط او لمنفعة ما . كما جرى التمييز في التوظيف بين البعثيين العاديين وبين الحزبيين من أصحاب المراتب الحزبية المهمة. وثمة المئات من البعثيين لا يزالون في الوظيفة بكافة حقوقهم المهنية والمدنية. وقد وقف المسؤولون والنخب السياسية والثقافية والقانونية والمعتدلون من مراجع الدين ضد تجاوزات الانتقام العشوائية التي طالت العشرات من البعثيين وعائلاتهم وبيوتهم دون مبالاة بسيادة القانون وواجب عدم تجاوزه، وتقديم المسيء حقا لمحكمة قانونية عادلة، وليس اعتبار كل بعثي مجرما، والتنفيس عن غرائز الثأر العشائري والشخصي في ممارسات هي من خانة عقلية نظام صدام وممارساته.
إن البعث كان أيديولوجيا وعقلية العدوانية والعنصرية والطائفية؛ كان فاشية بطبعة جديدة، وآثارها الفكرية والأخلاقية لا تمحى بسهولة. ولابد أولا من أن يعي البعثي تماما وبالعمل هول جرائم حزبه و"القائد الضرورة"، وان يتعلم ويطبق قيم الديمقراطية واحترام الأخر، ومعنى تعددية الأطياف العراقية من سياسية وقومية ودينية ومذهبية. وهذه عملية تثقيفية وتطبيقية طويلة الأمد لكي ينصهر البعثيون حقا في روح الديمقراطية والمواطنة المشتركة والمتساوية في الحقوق والواجبات. فلا للانتقام العفوي والمطاردات للبعثي السابق لمجرد أنه كان بعثيا، ولا للاعتداء على أمنه وترويع عائلته والمس بحقوقه المقدسة كمواطن وحرمانه من العمل والوظيفة لمجرد انتمائه السابق. ومن يقترفون ضدهم تجاوزات يجب اعتقالهم ومحاكمتهم بلا تساهل. ولكن لا وألف لا لعودة البعثيين كممثلين لحزب البعث لقلب السلطة وعتلاتها الحساسة والوظائف الهامة [كرئاسة البعثات الدبلوماسية وإدارة الجامعات وكلياتها والمديريات العامة...]. أما المطالبة بإشراك مسؤولين صداميين كبار من المعتقلين وغيرهم تحت ستار "المصالحة" فهي عار على المنادين بها وجريمة بحق الشعب العراقي وضحايا صدام.&
&