إبراهيم البطوش
&
&
&
&صدام بطل خارق 0 جملة سيقف كثير من الناس ضدها 0 ويحاولوا تفنيدها بعشرات الأمثلة والمواقف 0 ليس أخرها انه استسلم 0 ولم ينتحر 0 وهل الانتحار شجاعة إذا كان متاحا 0 إذا كان الانتحار حسب رأي البعض أفضل له من أن يواجهه المهانة وشماتة الأعداء ومحاكمة العصر وهو من رموز العالم خلال السنوات الأخيرة 0 فان هذا يؤكد بطولته لأنه اختار الاسوء ولم يختار الاسهل والأفضل، فالشجاعة بالمفهوم البطولي ( الميثوس ) اختيار الأصعب وليس الاسهل 0 فانتحاره لو حصل لكان جبنا من الرجل الذي أبت شجاعته إلا أن يواجه أصعب ما يمكن أن يتخيله المرء 0وهذه هي مميزات الميثوس المأسوي كما تظهر في أعمال المسرح اليوناني حيث نجد البطل يرفض مماشاة الأيام والأحداث ويرفض التسوية ويصر على التصدي للقدر، بطبعه لا بعقله 0بروحه لا بحساباته0 ولهذا يقول شوبنهور الفيلسوف الألماني معنى المأساة الأول إن البطل لا يكفر عن خطاياه الشخصية وإنما خطيئة الوجود نفسه عبر مقارعته للعالم ليكون على هواه وليس هوى الاقدار0 فنجد اوديب مصراً على متابعة التحقيق حتى قاد نفسه إلى ما لا يمكن أن يتصوره المرء قاتل أبيه ومتزوج أمه 0 أصر اوديب على مواجهة الاسوء 0 اورست يدفعه طبعه إلى قتل أمه ثارا لأبيه فيصبح ابن القتيل والقاتلة0 رغم إمكانية هروبه من هذا المصير 0 واغاممنون يقتل ابنته للواجب القومي0 والحسين أصر على مواجهة قدره رغم فارق القوة من اجل الواجب الديني ومن بعده نجد محمد الملقب ( بالنفس الزكية ) وأخيه إبراهيم يصران على الاستمرار في الثورة والمقاومة رغم فوارق القوة 0 ومن مميزات الميثوس عنصر المفارقة بمعنى تقييم تصرفاتهم باسلوب عقلاني فلا زلنا نتسأل هل كان اورست مذنبا بقتله لامه وهل ما فعله اوديب صحيحا وهل ما قام به صدام سليما 0هل الأفضل لو كان قد انتحر أو استسلم أو غادر العراق 0وهذه هي روح الميثوس أي روح البطل الذي يصر على مواجهة الاسوء 0وهكذا صدام يبدو انه كان مصرا على مواجهة الاسوء 0والميثوس بطبعه يختار مواجهة القدر بدلا من الهروب 0صدام أصر على مواجهة أمريكيا بدلا من الاستلام رغم قناعته بصعوبة ذلك 0 وإصراره على المقاومة رغم إدراكه للفرص المحدودة بعودته للسلطة 0
ونركز هنا على البعد الفني للحدث 0ونعني به حدث صدام في أذهان الناس الذي تطور ونما حتى أصبح صدام هو الميثوس المأسوي 0 ويعترض العقلانيون هنا إن سياساته كانت خاطئة ومدمرة للواقع العربي والوطن العراقي وقد يكون هذا صحيحا إذا استخدمنا التحليل العقلاني ووضع الأمور في ميزان المنطق والحسابات لكن مفهوم البطولة وروحها في ثقافات الشعوب لا تقودها العقلانية الباردة ولم يكن أصحاب العقول أبطالا في يوم من الأيام 0 التردد والمهادنة والموازنة بين الفرص ليست من سمات البطل 0 وإلا ما كان الحسين بطلا لو انه فكر كيف يواجه ب 72 رجلا جيوش بني أمية التي تجاوزت 32 ألفا 0 لكنه بطلا بإصراره على المواجهة مهما كانت النتائج 0 والبطل كانسان تكون فيه كل العيوب كسائر الناس والبطولة هي بطولة الروح 0 وليس التصرفات والنتائج والإنجازات على ارض الواقع وإنما الإنجازات في جانب روح البشر التي تتسم بمواجهة القدر دون حساب العواقب 0 السمات الملهمة لمن يريد لن يجتاح البطولة0 فالأبطال هم من يجترح المعجزات أو ينافح الأقدار 0 إن نمو عبادة الفرد ظاهرة يصعب مقاومتها 0لا يطلبه البطل ولكنه يخلقها بتصرفاته غير الطبيعية الخارجة عن مألوف الإنسان العادي ونمط تفكيره 0 ففي المادية التاريخية التي تنكر دور الفرد أساسا نجد أبطالها أحيطوا بهالة من أشكال عبادة الفرد كما حصل مع لينين وستالين وترو تسكي وماو وجيفارا وكاسترو وغيرهم 0 لأنهم واجهوا المنطق والمألوف وعاندوا القدر، قدر أن يكون الإنسان رأسماليا محباً بالملكية الخاصة ويطلبوا مجتمعا شيوعيا يعز وجوده أو خلقه 0 والبطولة لا تحسب بالإنجازات وسلامة الخطط وإنما بالسعي نحو اللاممكن 0ان بطولة صدام تنبع من إصراره على مواجهة أمريكيا بقوتها المعروفة 0 ولا يضير البطل أو ينقص منه نتائج أفعاله 0 أو صدقه من عدمه 0 وإنما أفعاله المناقضة لما يفكر به الإنسان في حالة سيطرة العقل0 والبطولة تعني الخروج من قيود العقل وحسابات المنطق 0 والإنسان العربي الذي يشعر بالكثير من المهانة يجتاف في نفسه هذه النزعات وبتمثلها مهما أفضت من نتائج0 وصدام الذي ولد فقيراً في قرية العوجا المنزوية وصارع التنيين العالمي ( وثعالب المنطقة ) سنوات وعاشت بغداد في عهده ليال يهتز لها الوجدان من خلال الآلف الصواريخ المنهمرة كالمطر والانفجارات الهائلة 0 ثم غادرها واختفى اشهرا في مزرعة ونام تحت الأرض في ظروف اختباء وتمويه مبتكرة ومثيره في ظروف يصعب تخيلها وبالقرب من قصوره وهي كإيوان كسرى كانت بالقرب منه 0 لن يفسرها قطاع واسع من العرب بأنه مهزوم وجبان وخائف0 كما يريد الأمريكان 0 وإنما ستوضع في سياق روافع إنجازات البطل وصفاته المميزة وروحه المتمردة، البطل المستعد لتحمل كل أشكال القسوة والحياة الصعبة المفارقة لما كان يتمتع به وذلك في سبيل المبدأ وهو بهذا سيكون بطلا0 الأبطال عموما هم من تحيط بهم مسحة دينية صوفية 0 وحياتهم غير اعتيادية 0 فينقل إن صدام انه صلى في معتقله0 كما كان يقال سابقا عن الحلاج والجنيد وسيد قطب والخميني وغيرهم من الأسماء الكبيرة والمتوسطة في قطاع البطولة وخاصة الإسلامي منه0 فالصلاة هنا لا ينظر لها كفرض ديني يمارسه ملايين الناس0 وإنما كجزء من رسالة البطل 0 إنجازات البطل لا تقاس بما حققه على الأرض ولكن بما خلقه في نفوس الأتباع من هيام وبهذا المعني فقط يمكن أن نفهم إن أمريكيا تعتبره إرهابيا 0 حتى لو لم يطلق عليهم ولا طلقة0 ونعتبر الاتهام الأمريكي في هذه الحالة صحيحاً ومنطقياً 0 وبهذا أرى إن أمريكيا تواجهه معضلة في التعاطي مع ثقافة شرق المتوسط ويصعب إخضاع المنطقة وإعدام روحها الثقافية لصالح التخلي عن أحلامها نحو قبول الامركة0
&وأود أن أقول للأمريكان إن صورة صدام البطل من الصعب اجتثاثها من قطاع واسع في الوجدان العربي 0 فحتى الموت لا ينهي الأبطال فالخيال الشعبي والروح الشرق أوسطية بعثت الأموات من قبورهم لقيادة الأتباع فالغيبة والعودة من ثوابت المنطقة الروحية 0فالخضر والمهدي والولي الصوفي من رموز المنطقة 00 ومحاكمة صدام لن تكون فقط قضية قانونية جدلية0 وإنما مناسبة لمواجهة ثقافية بين الأفكار والآراء على كل المستويات داخل الوطن العربي وبينه وبين الآخر 0 وكل هذه تضيف بطولات للبطل الذي يواجه الأفكار الأخرى ( أفكار المنتصرين ) وليس العدالة بمعناها القانوني الضيق 0 وصدام بشخيصته المثيرة المميزة 0 خلال العقود الماضية وأحداث العراق الكبرى وحروبه مع القوى العالمية0 شكلت مناخا غنيا ومحفزا للمشاعر الإنسانية على اختلاف ألوانها ودوافعها 0 ورافعا للمواقف السياسية المناهضة والمؤيدة لنهجه 0 واحتلال بغداد وسقوط النظام وهرب صدام جعلت الأحداث تتصاعد وتتمحور حول صدام فأصبح هو الحدث 0 وهذا من ضرورات العمل الفني 0 فكل الأعمال الفنية إنما تدور حول الإنسان / البطل ومصيره 0 مصير الإنسان الفرد هو جوهر العمل الفني 0فلم يكن احتلال بغداد على أهميته السياسية والاستراتيجية إلا حدثا أوليا نحو مركز وحبكة الحدث وهو صدام نفسه 0 هل يستمر، يقتل، ينتحر، يهرب، يعتقل، يستعيد السلطة؟ هذه الاحتمالات مهما كان بعضها ضعيفا من الوجهة الموضوعية، لكنها جميعا تقود إلى لحظة التخطي، تخطي حالة الانفعال إلى حالة الاستقرار والهدوء 0 بالمفهوم المأسوي اليوناني0 ويوازي حدث صدام في عمقه وموضوعه وشكله وحركته حدث مقتل ( اغاممنون ) في ثلاثية أسخيلوس ( الاورستيا ) فقد عاد اغاممنون بعد غيبة مقدارها عشر سنوات قضاها في حروب طروادة وهو الذي ضحى بابنته في سبيل المعركة لان ذلك واجبا قوميا في نظره 0 الأمر الذي اعتبرته زوجته كليتمنسترا جريمة قتل، واتفقت مع عشيقها على قتله 0 واعدت العدة لذلك والجمهور يترقب هل تنجح أم لا؟ وفي النهاية تم قتل البطل بعد ترقب في أجواء مفعمة بالإثارة من الجمهور 0 0000 ينفتح الباب ويظهر جثمان القتيل اغاممنون 0 إن عناصر الميثوس بالمفهوم اليوناني متوفرة في حالة صدام0فهو لم يعتقل أو يعتقل بالصدفة كحادث عرضي0 فمنذ إعلان الحرب وبدءها وتوالي الغارات والتصريحات عن مقتله والتشكك بصوته وهيئته وإشاعات وجود أشباه له كل ذلك عزز الخيال الشعبي حوله 0 فقد تجسدت في قضية صدام كل عناصر الميثوس المأسوي كما ذكرها أرسطو 0 ولكن على نحو اشد حيث كان جمهور المأساة هو كافة المهتمين بقضيته وهم بالملايين ومن مختلف الفئات خاصة الناس وعامتهم 0 الكل ينتظر ــ ويده على قلبه ــ النهاية التي بأملها 0 وقد تكون انفعالات الجمهور اشد من انفعالات البطل الحقيقي 0 وصدام لا شك انه كان يتوقع ما حصل 0 وربما يتقبل النهاية بهدوء 0 لكن المتفرجين اشد انفعالا وتأثرا من البطل نفسه 0
&الشامتون به 0 لم ينطلقوا من قيم ديمقراطية أو إنسانية أو مصالح سياسية عليا موضوعية 0 وإنما تغلب في نفوسهم مركب الثأر الشخصية 0والمتعاطفون معه تغلب في نفوسهم الإحساس القومي وانفعالات ألذات المجروحة فلا يريدون المهانة للذات العربية 0 والحدث، حدث الحرب الأخيرة 0 حمل كل مكونات الحدث المأسوي بكل حبكته الفنية من سقوط بغداد إلى الاختفاء والمطاردة المستمرة ومقتل ولديه 0 وانتظار النهاية التي ظلت مفتوحة 0فالحدث اتسم بطابع الحدث المأسوي وحبكته الفنية الرفيعة0 هي أحداث بطبيعتها وحبكتها الدرامية تجبر الشخص على اتخاذ موقف كأي فلم من الطراز الأول 0 ولا شك إن هناك بعد ثقافي في عمل الأمريكان 0 ولهم أهداف سيكولوجية قد يكون إحداها الرد على تفجير برجي نيويورك 0 فالمسارعة إلى تمثال صدام 0 في يوم الاحتلال وهو ليس هدفا عسكريا ولا مبرر لاستهدافه على وجه السرعة في ذلك اليوم 0 وإظهار مكان وهيئة صدام في لحظة الاعتقال 0 لم تكن مبرراتها إلا دوافع نفسية موجهه للمشاهد العربي والغربي 0 لكن مع ذلك فالمشاهد العربي لا يستجيب للرسالة الامريكية 0 بل ربما تؤدي تلك المشاهد وظيفة عكسية 0 إن اعتقال صدام ومحاكمته أسوء لامريكيا من قتله 0فالاعتقال والمحاكمة لم ينهي دور أبو حنيفة 0 وقتل الأبطال أو تعذيبهم أو محاكمتهم هو بعث لهم في نفوس الأتباع 0 ما داموا قد أصروا على مواجهة التنيين 0وستظل الروح الصدامية مشكلة امريكية0