نبيل شرف الدين من القاهرة: لا ينافس لهفة واشنطن على اقتناص كل ما تحويه ذاكرة المخلوع صدام حسين، سوى لهفتها لسماع ما لدى المطيع العقيد.
وربما لا يعلم الكثيرون أن ليبيا تدير منذ عقود واحدة من اكثر شبكات المخابرات في الشرق الاوسط كفاءة وتمويلا، ودعمت سلسلة من منظمات المقاومة تفاوتت بين منظمة التحرير الفلسطينية الي الجيش الجمهوري الايرلندي الي منظمة الجيش الاحمر في ألمانيا، انتهاء بالأفغان العرب الذين استردتهم عبر جمعية نجل القذافي، وغير ذلك من التفاصيل الدقيقة.
الحكاية قديمة، ولم تبدأ فقط حين أعلنت ليبيا يوم الجمعة الماضي تخليها عن خططها لإنتاج قنبلة نووية وأسلحة محظورة أخرى، وأتبعت ذلك بقبولها توقيع بروتوكول الامم المتحدة الذي يسمح بالتفتيش المفاجئ على المواقع النووية للتحقق من عدم وجود أسلحة دمار شامل، لم يكن أحد يفكر في توابع ذلك الزلزال السياسي الذي هز المنطقة، وكاد يغطي على الحدث الحاضر حتى الآن وهو اقتناص صدام حسين داخل حفرته التي دخلت التاريخ، ذلك لأن الشيطان ـ كما يقال ـ يسكن في التفاصيل دائماً.
جعبة العقيد
التفاصيل أوردتها دورية (جينز انتليجينس دايجست )، المتخصصة في شؤون الاستخبارات، والتي كانت أول من كشف عن أدلة على مساع ليبية لحيازة قدرات نووية، وأسلحة دمار شامل ما بين كيماوية وبيولوجية، وها هي في أحدث إصدار لها تلمح إلى أن جعبة العقيد مازالت مترعة بالحكايات والمعلومات التي تعني الكثيرين ممن تعاونوا معه سراً خلال زمن النزق الثوري، وتعبر عن ذلك الدورية بقولها إن هناك كثيرين "سيراقبون عن كثب ما قد يكشفه العقيد من خبايا".
وبهذا التلميح عما يمكن ان تتعاون فيه "ليبيا الجديدة" مع الغرب لتزويده بكنز من المعلومات السرية، الذي يبدو متلهفاً لمعرفة الي اي مدي سيذهب القذافي في الكشف عن المعلومات التي في جعبته، ففي ظل هذا التغيير الدراماتيكي يجد حكام مستبدون وجواسيس وتجار سلاح ومتطرفون أصوليون في مختلف أنحاء العالم انفسهم في مواجهة معلومات قد يكشف عنها العقيد الليبي معمر القذافي، حيث يمكن ان يكشف المفتشون عن اجزاء من شبكة دولية لنشر الاسلحة مما قد يسبب حرجا لشركات غربية ودول من شتي انحاء العالم.
ومن بين النماذج التي تشير إليها معلومات خبراء الاستخبارات قصة تمكن ليبيا من امتلاك أسلحة كيماوية بفضل مصنع أنشأته شركة ألمانية صغيرة في منطقة (رابطا) سنة 1980، لافتة إلى أن ليبيا سبق وأن استخدمت هذه الاسلحة الكيماوية لكن بشكل محدود في حربها ضد جارتها تشاد، إلا أنها ما زالت تمتلك حتى الآن مئات الأطنان من غازي الخردل والاعصاب.
على كل حال، ومهما كانت المعلومات التي قد يدلي بها القذافي قديمة فإن التفاصيل قد تورط دولا أخرى وتزود واشنطن بذخيرة ضد خصوم أخرين مثل سوريا وايران، إذ قالت الولايات المتحدة ان ليبيا اعترفت بالتعاون مع كوريا الشمالية لتطوير صواريخ سكود، واذا تجاوز تعاون ليبيا مع الغرب مجال الاسلحة فانها قد تكشف عن اسرار أخرى.
نعم، قد تكون معظم المعلومات التي تشكف عنها ليبيا قديمة الان، ويرى خبراء غربيون ان القذافي لم تكن له يد في هجمات كبيرة ضد الغرب منذ سنوات بعد ان بدأ مد الجسور معه، ولذلك فهو لا يملك معلومات حديثة عن تنظيم مثل "القاعدة" مثلاً.
صواريخ العقيد
وعلى الرغم من عدم وجود مؤشر على أن الصفقة بين طرابلس وكل من واشنطن ولندن تتضمن تعهدا بمساعدة دول أخرى مثل فرنسا والمانيا اللتين لهما مطالب لدي ليبيا، والسؤال المطروح الان هو: هل ستسير ليبيا على نهج الشفافية الكاملة أم انها ستقول ان الولايات المتحدة تدعمها الآن مما يضفي عليها قدراً من الشرعية في المجتمع الدولي، لا تحتاج معه الآن إلى إرضاء دول أخرى مثل فرنسا مثلاً كما كان الحال من قبل.
وهذا ما يفسر قيام "لوموند" بالكشف عن وثيقة صادرة في صيف 2001 صدرت عن أحد أهم أجهزة المخابرات الأميركية ذهبت تقديراتها حينئذ إلى أن ليبيا لا تمتلك سوي ترسانة عسكرية "متواضعة"، هذا ما أكدته (يو.اس .ناشيونال انتيليجينس كاونسيل يوسنيك) قبل انطلاق المفاوضات السرية بين واشنطن ولندن من جهة، وطرابلس الغرب من جهة أخرى قبل تسعة شهور, حين أبدت شكوكها بشأن امتلاك ليبيا لكميات محدودة من الاسلحة الكيماوية المتداولة حتى في أوساط المافيا.
يذكر هنا أن (يو.اس .ناشيونال انتيليجينس كاونسيل يوسنيك) التي تتكون من 12 عضوا تعمل بشكل مستقل عن أجهزة المخابرات الأميركية، وتتولى مهمة تقدير التهديدات التي تتعرض لها الولايات المتحدة في مجال أسلحة الدمار الشامل.
وفي مجال الصواريخ الباليستية قدرت الوثيقة أن ليبيا تمتلك عددا من صواريخ (سكود بي) يتراوح مداها ما بين 300 إلى 600 كيلو متر و (سكود سي) يبلغ مداها 800 كيلو متر .. حصلت عليها من كوريا الجنوبية , مشيرة إلى أن خبرة الليبيين لا تبدو مع ذلك على مستوي التهديد الذي تشكله مدي هذه الصواريخ، واستشهدت الوثيقة في ذلك بفشل الليبيين في 1986 بقصف جزر إيطالية في البحر المتوسط والجانب الغربي من جزيرة كريت بصواريخ (سكود)، وقالت الوثيقة ان الصورايخ الليبية التي أطلقت فشلت في إصابة أهدافها، الامر الذي دفع ليبيا إلى التفاوض مع كوريا الشمالية للحصول على صواريخ من طراز(نودونج) التي يصل مداها إلى 1300 كيلومتر غير أن هذه المفاوضات لم تصل إلى اتفاق، لعدم ثقة كوريا بالعقيد.
واختتمت الوثيقة الاستخبارية موضحة إنه رغم طموح ليبيا في مجال امتلاك صواريخ باليستية حديثة، فإن كل القرائن والمؤشرات ترجح عدم امتلاكها أية قدرات في هذا الشأن، خاصة ما يتعلق بالصورايخ القادرة على حمل عبوات كيماوية.