حديث أجراه أشرف عبد الفتاح عبد القادر
&

ذهبت للقاء د. سيد القمني وأنا أتذكر رحلة المفكرين الليبراليين التنويريين، ابتداء من الشيخ علي عبد الرازق وكتابه"الإسلام وأصول الحكم" في سنة 1925، إلى طه حسين وكتابه "في الشعر الجاهلي" سنة 1926، مروراً بمحاكمة د. فرج فوده والحكم عليه بالإعدام، مروراً بقضية د. نصر حامد أبو زيد، ووصولاً إلى طعن كاتبنا العالمي الكبير نجيب محفوظ من أجل روايته "أولاد حارتنا"، انتهاء بدكتور سيد القمني وكتابه"رب الزمان". واثناء زيارتي الى القاهرة قبل اشهر، زرت السيد القمني في بيته. فكان هذا الحوار الطويل الذي ننشر حلقته الثالثة والأخيرة:&
&
&
* ماذا نفعل لنخلص الإسلام من قيود وسلاسل الماضي ليلحق بحاضرنا وقيمه الراقية؟
- لا أجد في تأكيد سدنة العقيدة على تأكيد حقوق الإنسان في الإسلام سوى مزيد من الشعور بالعار، يطلبون له مواد التجميل ومساحيق لا تخفى شيئاً ولا تجمل شيئاً. وأنهم لديهم يقين كامل برقى تلك المبادئ الحقوقية الإنسانية& والحقوقية الحديثة، ويريدون للإسلام التحلي بها فيعلنون سبق الإسلام في ميدان الحقوق رغم مبدأ كقتل المرتد أو نهاية الرق من التاريخ وبقائه بالإسلام ودون أي محاولة للإعادة النظر فيما بأيديهم من نصوص، فالرق كان موجوداً قبل الإسلام، بل إن الإسلام طالب بعتق العبيد وبيع النساء المسترقات في الأسواق ليتمتع بهن المسلمون بالغصب منهن، هذه الأفعال كانت مقبولة في أخلاق تلك الفترة. لكن المشكلة الحقيقة قي نطري المتواضع أن الفقهاء التقليديين وزعماء المتأسلمين كما يسميهم د. رفعت السعيد مازالوا مصرين على أن الرق و"ملك اليمين" أي الرقيقات أمر أخلاقي ومشروع اليوم أيضاً لمجرد أن القرآن أباحه في حقبة تاريخية معينة. تعرف أن مصطفي مشهور شيخ المتأسلمين المصريين صرح ل "الأهرام ويكلي" بطرد الأقباط من الجيش وتحويلهم إلى أهل ذمة كما جاء في القرآن. إن ما ينقص هؤلاء بعد حسن النية هو فهم أنه لابد من قراءة النص الديني قراءة تاريخية. د. محمد عابد الجابري يقول إن الله بالناسخ والمنسوخ أراد أن يعلمنا كيف نقرأ القرآن بعد موت الرسول (ص).
&
* كلام د. الجابري صحيح تماماً وأنا من أنصار القراءة التاريخية لنصنا الديني لتطهيره من الأحكام التي فات أوانها وزمانها. لكن كيف نخلص الإسلام من سلاسل الماضي؟&&
- أما لتخليص الإسلام من سلاسل الماضي ليلحق بحاضرنا وقيمة الراقية الفارقة حتى عن زمن النبوة، لأن الرقى التطوري طبيعي مفهوم في ضوء تطور الإنسانية بتطور العلوم والفنون وتبدل أشكال الحضارة.لكنهم يرون الرقى قاصراً فقط على زمن النبوة وأن البشرية قد اكتمل نضجها علما ومعرفة وخلقاً ورقياً وتحضراً في زمن النبوة، وأن ما بعده انحطاط دائم وتردى وتخلف (؟!) بل ربما يكون قولنا هنا برقى البشرية بعد زمن الدعوة لونا من الكفر يضيفونه إلى لائحة اتهاماتهم لشخصي المسكين، اعتماداً على الحديث القائل : " خير العصور عصري ثم الذي يليه فالذي يليه". لكن رقينا المعاصر عن تلك الأزمان البدائية حقيقة ساطعة باهرة كالشمس لا ينكرها إلا فاقد الرشد والتمييز بالمرة، وما أكثر فاقدو الرشد بينهم.
&
* يا دكتور سيد راشد الغنوشي يقول إن على المسلمين في القرن الحادي والعشرين أن يعودوا إلى دولة الخلافة الراشدة. ما رأيك فيما يقول؟
- (يضحك د. سيد ويقول):كلهم مثله يقولون مثل هذا الكلام العابث. لكن دعهم يقولون.
&
* وماذا عن حقوق المرأة؟
- لدينا مشكلة مستعصية فيما يتعلق بوضع المرأة في الإسلام ووضعها الحقوقي اليوم، ففي الإسلام هي ناقصة دين في العبادة، وناقصة عقل عن الولاية وهى نصف الذكر في الميراث وفى الشهادة، وهى رفيق الشيطان من فجر الخليقة وهى فتنة تسير على قدمين، لذلك يجب تغطيتها لحجب شرها عن المجتمع. ومع ذلك مطلوب منها أن تعطى المجتمع حقوقه كاملة، وإلا وقع عليها عقاب هو في بعض الحالات أشد من العقوبة التي تقع على الرجل إزاء نفس الفعل.
ولأن حقوق المرأة في إنسانية كاملة غير منقوصة قد فرضت نفسها على الدنيا، وأثبتت المرأة حضورها ووجودها في كافة مناشط العمل الإبداعي بجداره لا تشير إلى نقص يعتريها. فقد قام سادتنا المشايخ يكتشفون سبق الإسلام لمعرفة هذه الحقوق وأنه أول من أعطى المرأة حقوقها غير منقوصة. فالنساء شقائق الرجل لهن مالهم وعليهن ما عليهم، في خطاب خداعي لا يخجل من نفسه أبداً، ولا ينظر في المسالة الحقوقية للمرأة في الإسلام. وعندما لا يمارس المشايخ وظيفتهم لخدمة الناس والوطن والدين فإنهم يستقيلون من وظائفهم ويتركون المهمة لغيرهم. الغريب أنهم أكدوا شفوياً حقوق المرأة دون أي نظر في القانون، وعندما قدمنا هذا النظر مشفوعاً بدراسات فقهية مطولة تعطى المرأة حقها وتحفظ للدين مكانه قامت السيدة الدكتورة الأزهرية تكفرنا& ضمن جوقة المكفراتية لأننا أخطأنا الصواب وطالبنا لها بحق كحق الذكور، ولا تعرف كيف يلتئم الموقفان : الموقف الذي يؤكد حقوق المرأة في الإسلام، والموقف الذي يكفر من يطلب لها تلك الحقوق في الإسلام؟ إنه الشعور بالعار الذي يصيب بعدم الاتزان والتناقص وسوء الفهم والتقدير فيهرع إلى تجميل الإسلام بالأوسمة التي وصلت إليها الإنسانية درءاً للعار. دون أن يفعل أي شئ حيال ما يستتبع تلك الأوسمة من متغيرات حقوقية لازمة، ومتغيرات في الفهم أولاً.
&
* اسمح لي د. سيد أن أختلف معك في هذا الموضوع. رأيي المتواضع أن نشجع من يقول من المشايخ أو حتى من المتأسلمين أن حقوق الإنسان لا تتعارض مع الإسلام.وهي في نظري المتواضع تتعارض مع نصوص القرآن وخاصة نصوص الحديث الذي اختلقته الفرق الإسلامية لأسباب سياسية. ولكن حقوق الإنسان لا تتعارض مع روح القرآن، وروحه هي العدل.الأستاذ العفيف الأخضر طالب بكتابة تفسير عبد الله ابن عباس رضي الله عنه لآية "وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون"(هود 117) على الصفحة الأولي من جميع كتب التربية الإسلامية في جميع البلاد العربية.وتفسير عبد الله ابن عباس الذي قال عنه رسول الله (ص) هو"حبر هذه الأمة" كالتالي:"إن الله لا يعذب على الشرك وإنما بعذب على الظلم". هذه هي روح القرآن كما فهمها من تخرجوا من مدرسة النبوة مباشرة لا كما يذكرها المشايخ الجامدون كما تقول يا دكتور أو المتأسلمين الذين باعوا دينهم بدنياهم وكل همهم الاستيلاء على الحكم لتقاسم الجاتوه كما يفعل أكثر الحكام اليوم. أليس عدم المساواة بين المرأة والرجل في الحقوق ظلماً؟ أليس عدم المساواة بين المرأة والرجل في الميراث اليوم ظلماً؟ أليس عدم المساواة بين غير المسلم والمسلم اليوم ظلماً؟ أليس رفض تدريس العلوم الحديثة التي بها تتقدم اليوم جميع الأمم ظلماً لأمة الإسلام؟ أليست العمليات الانتحارية ضد المدنيين والمستأمنين ظلماً؟!
- لا خلاف معك يا أستاذ وأنا متفق مع ما قاله أستاذنا العفيف الأخضر، لكن كل ما أريد أن أقوله أنهم يقولون ذلك من طرف اللسان، هم يقولون أن القرآن سبق حقوق الإنسان في الاعتراف للمرأة بحقوقها ليضيفوا بعد ذلك بأن حقوق الإنسان في الإسلام لا تتعارض مع كون المرأة ناقصة دين في العبادة وناقصة عقل في الولاية وميراثها أنقص بالنصف من ميراث الرجل. هذا التناقض المخجل هو الذي أشجبه ولو كانوا صادقين في ادعاءاتهم لكنت أول المؤيدين لهم. فهدفنا هو خدمة أبناء وطننا وديننا ولا شيء غير ذلك.&&
&
* فلابد& إذن من تطور المفاهيم العربية الإسلامية لتتناسب مع روح العصر؟
- ما في ذلك شك،فمع تطور قيم الإنسان برزت مفاهيم جديدة وأخلاق جديدة فيما يربط الإنسان بوطنه وبمفهوم المواطنة، ترتبت عليها مشاعر ومواقف إزاء إستقواء دولة على أخرى، واستقلال الشعوب وإرادتها. وضمن هذه المعاني& الجديدة أعادت الشعوب قراءة تاريخها وإصلاح شئونه والاعتراف بالأخطاء أينما وجدت، بل والاعتذار عن الأخطاء التاريخية التي تم ارتكابها في حق شعوب أخرى. بينما تصر الدول التي غزاها المسلمون الأوائل واحتلوها استيطاناً وارتكبوا في حق أهلها من المظالم فوادحها ومن التنكيل أفظعه ونزحوا خيراتها إلى عاصمة الخلافة، وقضوا على لغاتها الأصلية التي هي وعاء حضارتها وماضيها كله فانقطعت عن هذا الماضي ليصبح ماضي الاحتلال هو تاريخها المقدس، واسلموا سكانها بالجزية أو بالقوة، وجعلوا مسلميها موالى أي مملوكين للمالك العربي.وأصبحوا مواطنين درجة ثانية في وطنهم إزالة العرب الفاتحين الذين كانوا سادة البلاد المفتوحة ومواطنيها المتميزين. وبخطاب مخادع رديء الصنعة والهدف عديم القيم تصر هذه الدول _ حتى اليوم _ عبر هيئاتها الدينية على الاحتفال السنوي بذكرى الفتح العربي لبلادها الذي أخرج& أهلها من الظلمات إلى النور. وهى الحالة الوحيدة في تاريخ الدنيا التي يحتفل فيها وطن بذكرى احتلاله بكل تكريم وتبجيل.
وهكذا يتقدس كل شأن إسلامي حتى لو كان احتلال للبلاد وهتكاً للأغراض ونهياً للثروات،بخلط بين الدين وبين الغزاة وإسباغ القدسية على الغزاة والتماهي بهم.
&
* ألا تري أن المشكلة أن خطابنا الديني ليس معاصراً لعصره، فمازال يحارب العلم والديمقراطية وحقوق الإنسان التي تصالحت معها معظم الخطابات الدينية الأخرى؟
- لذلك أقول إن ديننا الإسلامي بحاجة إلى الكثير ليتصالح مع زماننا ومفاهيمه وقيمة، وإلى خطاب جديد مختلف يستخدم أدوات جديدة لإجراء جراحات لكثير من العلل الكامنة التي اكتسبت قدسية ليست من الدين في شئ، وهو الأمر الذي أزعم أنى أقوم ببعضه في أبحاثي ودراساتي، بخطاب لا يخفى العورات بل يكشفها، لا يخشى العار قدر ما يخشى خروجنا من الوجود ذاته بعد أن خرجنا من دور الفعل في التاريخ.
&
* في الواقع د. سيد أنت أحد أهرامات مصر وأنت تقوم بعمل تاريخي لإصلاح الإسلام سوف يذكره التاريخ وأتمني على وزير الثقافة فاروق حسني أن تتولى وزارته ترجمة أعمالك إلى الإنجليزية والفرنسية ونشرها خارج مصر ليستفيد منها مسلمو العالم وليعرف مثقفو العالم أن مصر لا تنتج فقط الإرهابيين مثل المجرم أيمن الظواهري بل تنتج أيضاً أمثالك وأمثال المستشار العشماوي والمفكر جمال البنا ود. رفعت السعيد والأستاذة فريدة النقاش ود. زقزوق والإمام الأكبر شيخ الأزهر وغيرهم كثيرين.
- شكراً لك. مصر قدمت كثير من المفكرين المتنورين و المصلحين على مر الأجيال والعصور.
&
* في كتاب الحزب الهامشي تبنيت تفسيراً سياسياً تاريخياً لنشأة الدعوة الإسلامية وأرجعتها إلى عبد المطلب بن هاشم، فهل لازالت عند رأيك، أم أنك أصبحت ترى التاريخ يجب أن ينظر إليه من خلال معطياته هو وألا تسقط عليه مصطلحات معاصره؟
- في هذا الكتاب قدمت قراءة جديدة لواقع جزيرة العرب والعالم راعيت فيه دقائق الجغرافيا ومعطيات حقل الأحداث من أشكال اجتماعية إلى تنظيمات اقتصادية إلى عادات وتقاليد ومعتقدات وتركيبة سكانية، وتطور هذا جميعه متضافراً& معاً عشية الإسلام ليصوغ في النهاية واقعاً جديداً أفرز هذه الإيديولوجيا وأقام للعرب دولة سياسية مركزية. وقد استكملته بكتاب "حروب دولة الرسول" لقراءة السيرة النبوية ونصوص القرآن مرتبطة بأحداث زمانها قراءة سوسيوتاريخية وجمعتها& في كتاب (الإسلاميات). وقد كانت هذه القراءة باباً دخلت منه من بعدى أقلام أخرى تبنت طرحي كمؤسس، كما في كتاب الشيخ الجليل المرحوم خليل عبد الكريم (قريش من القبيلة إلى الدولة المركزية) وما أقامه بعد ذلك من بناء متميز كان مؤسسة ومعتمدة وجهة النظر التي طرحتها في الحزب الهامشي، كذلك تبنى ذات الطرح الأستاذ سعيد العشماوي في الباب الأول من كتابه الخلافة الإسلامية،كذلك بعض الباحثين العرب المبتدئين& بخطوات صلبه نتمنى أن يضيفوا للمكتبة العربية نواقصها.
&
* هذا يؤكد يا دكتور ما قلته لك من قبل قليل من انك رائد في البحث الإسلامي لا وجود له، ولا تخشى في الحق لومة لائم بل وغامرت بحياتك في عصر القتلة المتأسلمين وفقهاء الإرهاب.
- شكراً لك،ولكني لا أعتقد أنى قمت بأي إسقاط معاصر إلا في لغة الكتابة دون إعمال تلك اللغة إلا بما يناسب زمن الحدث لكن لينطق هذا القديم بلغتنا اليوم عما حدث في ذلك الماضي. ولم أرجع الأمر كله إلى عبد المطلب بين هاشم قدر ما أعطيته حقه كشخصية تاريخية تركت أثراً& عظيماً في محيطها، لكن كان إلى جواره عناصر وظروف هي التي أفرزت عبد المطلب ونماذج الحنيفية الآخرين.
&
* أعلنت جماعات الإسلام السياسي أخيراً تخليها عن العنف وعن مضمون الإدانة والتفكير للسلطة والمجتمع، حتى انهم اعترفوا بأن السادات مات شهيداً. فهل ترى ذلك كافياً لقبولها في الحياة الحزبية المعاصرة في مصر؟
- إن الأحزاب السياسية في مصر بل الحياة السياسية كلها بل والاقتصادية بل والاجتماعية قائمة على أسس غير سليمة ليس هنا مجال مناقشتها. لكن المشترك بين الجميع حديثهم عن الديموقراطية السياسية (حرية صندوق الانتخاب)، دون جوانب الديمقراطية التأسيسية ودونها لا ديموقراطية، أقصد الجانب الحقوقي الذي يؤسس حقوق الاختلاف وحقوق المرأة وحقوق الأقليات وحق الاعتقاد الحر بإطلاق وحق تشريع البشر لأنفسهم بما يناسب مصالحهم ومعطيات واقعهم. وكلها حقوق مرفوضة من جميع التيارات الإسلامية بدون استثناء. ولا اعتقد الأمر سوى مناورة أذكى في منهجها من لغة القنابل والرصاص، بغرض الوصول إلى السلطة عبر صندوق الانتخابات وبعدها يكون لكل مقام مقال.
&
* هل تشترط للاعتراف بأي حزب قبوله بالديمقراطية، أي التداول السلمي على الحكم حتى لا تتكرر في مصرنا الحبيبة المأساة الإيرانية حيث الأقلية من رجال الدين التي لم تفز إلا بثلاثين في المئة من الأصوات هي التي تحكم والأغلبية من الإصلاحيين التي فازت بسبعين في المئة من الأصوات في المعارضة والقبول الصريح لكل مواد حقوق الإنسان وبالقانون الوضعي المستمد منها؟
- نعم أشترط ذلك لإبعاد الذئاب المتنكرة في جلد الحملان من الحياة السياسية.&
&
* كيف ترى العلاقة بين الأساطير القديمة خاصة في مصر والشرق الأوسط وبين الدعوة الإسلامية على أساس أنها نشأت في شبة الجزيرة العربية التي كانت بمعزل نسبى عن تلك المعتقدات؟
- ليست الجغرافيا دائماً هي العامل الحاسم، فرغم أن جغرافيا شبه الجزيرة تضعها فعلاً بمعزل نسبى عن معتقدات الحضارات المحيطة بالجزيرة، إلا أن ظروف التاريخ كسرت القاعدة& الجغرافية وتحولت الجزيرة إلى أكبر مستقبل وليس طارداً للهجرات في بعض الأزمنة، فكانت الملجأ الآمن لكل الهاربين من الاضطهاد سياسي أو ديني على ألوان فرقهم& ومذاهبهم ومعارفهم وأفكارهم وأساطيرهم، وهم من أدوا إلى متغير ثقافي عظيم في داخل الجزيرة بعد أن& تعربت هذه الهجرات وأصبحت قبائل عربية، فأكبر منطقة في عالم ذلك الزمان تضم يهوداً ذوى شأن كانت هي جزيرة العرب، كذلك انتشرت ألوان مسيحية مذهبية على مختلف الأطياف إضافة إلى الصابئة والمانويين ناهيك عن العبيد المستجلبين وتجار العالم الذين كانوا يمرون عبر الجزيرة بين الشام واليمن وكانت أكبر محطاتهم هي مكة وكانت الأساطير آنذاك ملاحم وفنوناً راقية تحمل خبرات المجتمع وحكمة الأجيال وتفسير الإنسان لما حوله في الكون نشأة وتكويناً وحركة ووجوداً وعدماً، بلغة التعبير في تلك الأزمان عن دور القوى الغيبية كفاعل في الكون المشاهد كمفسر للحدث الواقعي. وقد وجدت كثير من الأساطير المصرية في الحياة والموت والفينيقية والبابلية (أساطير الخلق والطوفان مثلاً) طريقها إلي التسجيل في الكتب المقدسة كما في التوراة (العهد القديم) والتلمود. وقد ساعد على تزايد الهجرات إلى الجزيرة ظهور أزمنة الاضطهاد العقدي و الفكرى، عندما أصبح مذهب من المذاهب ديناً رسمياً لدولة ما تضطهد ما عداه وتنفيه. وقد تجلى ذلك في الزمن الهلليني الروماني حتى أسماه التاريخ بعصر الآلام.
&
* لكن هل أثرت كل هذه الأساطير علي الإسلام كدين؟
-& لقد حمل هؤلاء ثقافتهم معهم إلى الجزيرة لتؤثر بعد ذلك في العقيدة الإسلامية. وفى كتابي (النبي موسى وآخر أيام العمارنة) شواهد وأدلة على انتقال كثير من عقائد مصر القديمة وعاداتها وطقوس عباداتها إلى الجزيرة، بل وانتقال مفردات اللغة المصرية ومعانيها المتعددة على التطابق. بل أن عقيدة المسلمين في الآخرة تكاد تتطابق جملة وتفصيلاً مع العقيدة المصرية بهذا الشأن من فكرة البعث إلى الحساب إلى الجنة والنار إلى السراط (كما في كتاب: الطريقين) والميزان وشهادة الجوارح على الميت (كما في كتاب الموتى) مع قصور اليهودية والمسيحية عن هذا التطابق.مما يشير إلى انتقال مباشر من مصر إلى الإسلام أو المحيط الذي ظهر فيه الإسلام دون وسيط، وهذا ما حاول الكتاب المشار إليه تحقيقه وبحثه. هذا إضافة إلى أن سراة العرب كانوا يرسلون أبناءهم لتلقى التعليم العالي في مدرسة جنديسابور، ثم تلقى التعليم الجامعي في جامعة الإسكندرية. وكان منهم من دخل مباريات معرفية وتحديات ثقافية تتعلق بمعارف تلك المعاهد مع النبي محمد مثل النظر بن الحارث وعقبة بن أبى معيط.
&
* العقيدة الإسلامية مليئة بالأساطير، كيف يمكن تنقيتها من كل هذه الشوائب؟
- كل الأديان مليئة بالأساطير وليس الإسلام وحده، بل ربما كان الإسلام هو أقل الأديان& احتواء على الأساطير، لكنه يعتمد كسر قوانين الطبيعة بالمعجزات كأدوات دالة على النبوة والاتصال بالقوى السماوية، فهو يعتمد كثير من الأساطير عن الملك الإسرائيلي سليمان، ولمحمد معجزة خاصة في الإسراء بالبراق الأسطوري ثم المعراج إلى السماء على سلم من نور، وأساطير عربية مثل ناقة صالح التي أنجبتها صخرة وغيرها. لكن لا أعتقد أن مهمتنا عصرنه الإسلام بهذا المعنى أو تنقيته من الشوائب كما تقول، لأنها لم تكن شوائب في زمنه بل متوافقة مع منطق قائم في أديان أخرى تصدقها أمم بكاملها على أنها حقائق. وقد قبل مسلمو عصر النبوة هذه المعجزات واعتبروها دلائل على صدق النبوة. لكن المشكلة أن مسلمي اليوم لم ينغرسوا في مناهج عصرهم كما إنغرس أهل الغرب، لذلك تحولت أساطير الكتاب المقدس إلى ما يشبه الفولكلور اللطيف، وليس عن اقتناع بإمكان كسر قوانين الطبيعة اليوم كما هو حال الاعتقاد الإسلامي في انتظار خلاص إعجازي أدى إلى تبلد عقلي طويل. ومع التبلد تغيب الحقائق ومن ثم الإرادة والعقل والفعل انتظاراً للحل الإعجازي. لذلك علينا أن نقبل مأثورناً كما هو دون غربلة ولا تنقية إلا فيما هو ضروري كإضافة للموجود فعلاً وليس مزيحاً له ولا مغيباً له، لأن في قراءته فوائد جمة تضئ لنا ذلك الزمن وكيف كان يفكر وماذا كان منطقة في القبول والرفض، إضافة على أنها تلقى ضوءاً على أشكال المجتمع ونظمه لمن أراد درسها بغض النظر عن الإيمان بهذه الأساطير (الشوائب) من عدمه.
&
* ترفع الجماعات الإسلامية شعار الجهاد في العراق وفلسطين فهل ترى أنه مازال بوسع هذا التيار تحريك الشارع؟ أم أنه شعار ينتمي إلى الماضي ولا يصلح للفكر المعاصر والقرن الحادي والعشرين؟
- مسألة تحريك الشارع ليست وحدها الدافع الأمثل لاعتماد الجهاد من عدمه، لأن هذه الحركة قد يكون لها مضار أكثر من المنافع، لأن المطلوب هو الحركة الرشيدة المنتجة وليس الحركة العشوائية التي قد تأتى بكوارث. وإذا كان تطبيق هذا المفهوم في زمنه مجدياً فلأنه كان هناك فراغ قوي دولي يحتاج إلى من يملأه وقد ملأه العرب، ولأن موازين الضعف والقوة تحولت إلى صالح العرب فقد أقاموا إمبراطورية في حينها، وهي ذات القوانين التي تفعل فعلها اليوم لكن بعد أن انقلبت المعادلة لغير صالحنا وأصبحنا الطرف الأضعف إزاء قوى تملك السيطرة على البر والبحر والجو وما تحت الأرض بمناهج وفلسفات تختلف بالمرة عن زمن الجهاد. وإذا كان الجهاد قد حقق للمسلمين زمن ظهوره الغنائم، فإن تفعيله اليوم دون اعتبار للمتغيرات الكونية عبر أربعة عشر قرناً جعلنا نحن الغنائم.
واليوم هناك مفهوم الكفاح الوطني الذي لا يكافح لا من أجل الله ولا من أجل الجنة ولا من أجل الحور العين ولا& لنصره الدين ولا الدفاع عن مسجد له رب يحميه، ولكنه يكافح لتحرير وطنه وإرادته من الاحتلال، ويشارك في هذا الكفاح أهل الوطن من كل ملة ودين وعنصر، ويكسب تعاطفاً عالمياً ودعماً لابد أن يؤدى إلى انتصاره في النهاية. أما مفهوم الجهاد فهو مفهوم طائفي عنصري يقصى من العمل الوطني كل أبناء الوطن من غير المسلمين، ويدافع من أجل الله ومقدساته قبل وطنه. ويؤدى على نفور الضمير الدولي الذي تجاوز العنصرية والطائفية وأصبحت لغات مرفوضة بل ومرضية. ومع تقسيمه المواطنين واستبعاد بعضهم من الفعل (فيما يفعل مفهوم الجهاد) فإنه يشق الصف الوطني شقاً ويمزق وحدته أشلاءً.
ثم أن مفهوم الجهاد مفهوم واسع وضع في زمن مفارق لزماننا على كل المستويات، لأنه استوعب ظرفه العالمي آنذاك ووضع على عاتق المسلمين فتح بلاد الدنيا وإخضاعها للمسلمين. وإن ذلك واجب على كل مسلم. وهو ما يحمل ضمناً العداء المسبق لكل شعوب الدنيا بسبب العقيدة وحدها وهى ما لا يكفى اليوم مبرراً، ويحتاج تفعيلة إلى قوة عظيمة لا نملك منها شيئاً، دون أي محاولة لفهم سياسي ناضج لأحوال عالم اليوم وضرورات عقد التحالفات أو فكها على أسس مصلحية دقيقة ليس فيها مجال للعنتريات الطائفية أو العنصرية.
وعلى المستوى الأخلاقي فإن مفهوم الجهاد يفترض ملاحق له تتمثل في الإغارة والسلب والنهب والسبي وركوب نساء العدو، لأن الغنائم أحلت لنا ولم تحل لأحد من قبلنا كما قال النبي محمد في حديثه الصحيح، وصادق عليه القرآن بآيات تقفو بعضها بهذا المعنى. وهذه الملاحق قد تجاوزتها الدنيا واصبح للحروب قواعد أخلاقية مرعية بوثائق دولية ترعى كرامة الإنسان حتى لو كان محارباً. كذلك يحمل مفهوم الجهاد قوة دفع استعمارية لحوحة لاحتلال البلاد الأخرى ونقل ثرواتها وتغيير ثقافتها. لكن الجهاد مبرر بأخلاق دينية ترى المجاهد في أرقى الدرجات حتى لو فتح البلاد وقتل الناس وانتهك الأعراض وسلب الأموال، بينما ترى المدافع عن بلاده وحياته وعرضه هو الآثم لأنه يمنع المجاهد من نشر دينه. وما أبشعه منطق أن صلح في زمانه فهو لم يعد صالحاً لزماننا بالمرة، بل أنه لم يعد مصدر فخز بأي معنى من المعاني، بل إن ما فعله المجاهدون عبر تاريخنا غير الجميل يحتاج من العرب اعتذاراً واضحا عما ارتكبوه من فوادح الآثام العظام في حق الشعوب المفتوحة في تلك الأزمان البربرية.
&